فيديل سبيتي
على الرغم من بلوغه الـ98 سنة من العمر، اعتبر هنري كيسنجر في قراءاته الأخيرة أن “العالم في حالة اضطراب هي الأشد منذ عصر التنوير، وهو يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى قادة عظماء، والإنترنت لا يصنع قادة عظماء”. وقد ورد رأي كيسنجر هذا في كتابه الجديد، الذي يحمل الرقم 19، تحت عنوان “القيادة”، وشارك فيه إريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق لشركة “غوغل” وعالم الكمبيوتر دانييل هوتنلشر.
وعلى الرغم من أن كيسنجر أحد صنّاع السياسة في العالم منذ الحرب الباردة، وهو حائز جائزة نوبل للسلام، ورئيس الدبلوماسية الأميركية الأسبق، إلا أنه تناول بقراءاته الجديدة أجيالاً قد لا يعرفه من بين أفرادها إلا قلة قليلة متابعة، أو يعرفه الجمهور الأوسع كسياسي تاريخي وكلاسيكي مؤثر. وقد تحدث كيسنجر في مقابلة أجرتها معه بيليندا لوسكومب نشرتها مجلة “تايم”، في 3 يوليو (تموز) 2022، حول الكتاب، عن دور سلبي للإنترنت في صناعة القادة، إذ يعتبره “مثبطاً للتفكير طويل المدى ومحبطاً لسبل حل المشكلات”، أو ما يسميه “معرفة القراءة والكتابة العميقة”. وأضاف “ليس الأمر أن التغييرات في تكنولوجيا الاتصالات جعلت القيادة الملهمة والتفكير العميق حول النظام العالمي أمراً مستحيلاً، ولكن في عصر يهيمن عليه التلفزيون والإنترنت يجب أن يكافح القادة المفكرون ضد هذا النوع من التيار الفكري”.
حرب زيلينسكي التي لا يفهمها كيسنجر
كان السؤال الأول الذي وجّهته لوسكومب إلى كيسنجر وهو “هل تعتبر نفسك قائداً؟”، وكانت إجابة صريحة “أجل، ولكن في المجال الفكري والمفاهيمي أكثر من مجال القيادة السياسية الفعلية”. وفي المقابلة يحضر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي أشعل حربه الإعلامية والدعائية الخاصة على وسائط الإنترنت ووسائل الإعلام بموازاة الحرب التي تجري على الأرض. واستطاع زيلينسكي بشخصه أن يحشد برلمانات العالم عبر لقاءات الفيديو المباشرة، وجمع عدداً هائلاً من المتابعين للفيديوهات التي بثّها من مقر الرئاسة ومن أماكن وجوده أثناء القصف أو أثناء الهجوم والهجوم المضاد، هذا على الرغم من أن التوقعات كانت بأنه سيهرب عند دخول الدبابة الروسية الأولى، ولكنه أثبت العكس تماماً، أي أنه يملك أسلحة غير كلاسيكية، وهذا ما يجعله من القادة الجدد الذين استخدموا الميديا عبر شبكة الإنترنت لمصلحة السياسة في أدق ظروفها أي اشتعال حرب حقيقية، وهذا ما جعل منه رمزاً للقيادة من جهة ونجماً على وسائل التواصل الاجتماعي استطاع إيصال طلبات المساعدة من أجل بلاده بأفضل السبل المتوافرة لديه، وهو الآتي من عالم الإعلام والتلفزيون والتمثيل وفيديوهات شبكة الإنترنت وفضاءات التواصل الكثيرة فيها.
سألت لوسكومب كيسنجر عن رأيه “بحكم التاريخ على قيادة الرئيس الأوكراني زيلينسكي؟”، فكانت إجابته بأن زيلينسكي “يقوم بعمل بطولي وغير عادي. لقد جعل أوكرانيا قضية أخلاقية خلال أزمة دراماتيكية قاسية”. لكن كيسنجر يعود إلى جملته الاعتراضية، فيسأل “هل ما يقوم به زيلينسكي يحمل الطابع القيادي المؤسساتي أم أن شخصيته الفريدة في موقف مأساوي هي التي تحقق التأثير الذي نراه؟”. ويتابع كيسنجر اعتراضه على الرغم من مديحه لزيلينسكي، بالقول “لقد لاحظت أنه لم يعبر عما يدور بخلده بخصوص ما بعد الحرب بالوضوح الذي عبر فيه عن رأيه بمجريات الحرب”. ثم يختم “لكني أعتبره شخصية عظيمة”.
يقسم كيسنجر، في كتابه، القادة إلى نوعين، أي القادة رجال الدولة والقادة الأنبياء. رجال الدولة يقومون بتحليل حقائق الوضع ويسعون لتحقيق أقصى ما يمكنهم من التوازن بين الرؤية والمخاطر مع الأخذ في الاعتبار أن التاريخ يدوم لفترة أطول من شغف اللحظة. أما الأنبياء فلا يقبلون هذا التمييز لأنهم يؤمنون بوجوب تنفيذ قيمهم بأسرع ما يمكن ويرون أن القيم الجيدة والخيّرة هي التي تحدد أهمية دورهم السياسي. وغالباً ما تحقق النظرة النبوية تحولات تاريخية كبيرة، برأي كيسنجر.
في نهاية مقابلتها تصل المحاورة إلى استنتاج أن كيسنجر متشائم تجاه القيادات التي تفرزها شبكة الإنترنت، ومن تأثير شبكة الإنترنت في القادة أنفسهم، فأجابها كيسنجر بأنه لا يمكن التصرف كما لو أننا يمكننا التخلص من عالم الإنترنت وتأثيراته، فهو يسمح بدرجة من التعليم الذاتي لم يكن من الممكن تصورها قبل بضع سنوات. لكن التلاعب بالإنترنت يتطلب مهارات خاصة ويمكن أن يثير ردود فعل واسعة، بحيث تصبح القدرة على التأثير في الأحداث من قبل الجمهور مصدر قلق للقادة على المدى القصير ما يشغلهم عن الرؤية بعيدة المدى. ويعتبر كيسنجر أن ضعف القادة الذين ينتجهم الإنترنت سببه وجود مساعدة سهلة لحل المشكلات قصيرة المدى من قبل التكنولوجيا، ما يؤدي إلى نوع من الكسل في إيجاد الحلول للمشكلات بعيدة المدى. وهو يستند في رؤيته تلك إلى أن أعظم الأفكار في التاريخ أتت نتيجة نضالات وعذابات وتجارب حقيقية، ولم تكن لتوجد لو كان القادة المفكرون يجدون حلولاً سهلة لما يواجهونه.
كيف يرى عالم الإنترنت الحرب عبر الإنترنت؟
وإذا ما انتقلنا من رأي كيسنجر بشأن القادة والإنترنت إلى الواقع، نجد قادة أخذوا قرارات مصيرية في ظروف مصيرية وربما معاكسة لهم، منهم الألماني كونراد أديناور الذي ساعد الألمان على تقييم أفعالهم بعد الحرب العالمية الثانية؛ الجنرال الفرنسي شارل ديغول الذي أعاد الثقة إلى الأمة الفرنسية خلال الفترة نفسها، الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الذي فهم كيفية موازنة المقاييس الدقيقة للنظام العالمي في حينه برأي كيسنجر، الرئيس المصري أنور السادات الذي وقع على معاهدة سلام الأولى إقليمياً مع إسرائيل في ظروف غير سلمية، المرأة الحديدية البريطانية مارغريت تاتشر التي نجحت في إبعاد المملكة المتحدة عن الركود الاقتصادي في ثمانينيات القرن العشرين.
ولو ابتعدنا عن رأي كيسنجر كحكيم جرّب السياسة الدولية عبر الانتقال بالطائرة من مكان إلى آخر وبواسطة المحادثات المباشرة، وأخذنا بالنظر إلى دور الرئيس الأوكراني وزوجته في الدعاية الحربية لمصلحة أوكرانيا، ولو على صفحات مجلة “فوغ” المتخصصة بالأزياء والمشاهير والأثرياء ويخوتهم وحفلاتهم، حين حلّت أولينا زيلينسكا مع زوجها الرئيس ضيفين على عدسة آني ليبوفيتز، مُصورة المجلة، في تحقيق بعنوان “الشجاعة في صور”. وقد أصاب هذا الغلاف الرقمي كثيراً من التأييد مقابل اعتراض كبير بحجة أن الحرب التي تقتل الناس وتهجّرهم وتدمّر بيوتهم يجب عدم استعراضها في مجلة متخصصة بالحياة العامة والخاصة بالبهجة والسرور الباذخين للأوليغارشيا الثرية المستفيدة من الحروب حيثما وقعت.
محررة الأزياء السابقة في مجلة “فايننشال تايمز”، والأستاذة الفخرية في جامعة “غلاسكو” الحاصلة على جوائز عدة، دافعت في مقالتها في “نيويورك تايمز” في 28 يوليو 2022، عن تأثير الصورة في مجلة أزياء شهيرة في الرأي العام العالمي، بالتالي في الموقف السياسي. وتقوم الكاتبة بشرح معاني الصور حيث كانت السيدة الأولى جالسة على درجات رخامية للقصر الرئاسي وتحدق في البعيد كالتائهة، بينما تمسك في الصور المنشورة في داخل المجلة بيد زوجها الرئيس، وفي أخرى تقف بجانب المجندات في مطار أنتونوف، لتستنتج أن هذا الظهور الأنيق للسيدة زيلينسكا بدا مصقولاً وموجهاً دعائياً وسياسياً. فالقصة تركز على ألم وصدمة بلدها وشعبها في النهاية، وتبرز حميمية علاقتها بزوجها في مثل هذه الظروف بهدف إثارة تفاعل كل من تصل إليه المجلة في العالم، وشد عزيمة الأوكرانيين وتقديم الحرب بالضد من مشاهد الدمار والقتل التي تصبح مملة ومعتادة بعد أشهر من العرض المتواصل، وتصويرها على أنها حرب على الأسرة والجمال والأناقة وعلى ثقافة معينة يمثّلها الزوجان القائدان اللذان يمثّلان شعبهما بالطرق المتاحة.
إنهم أذكياء
قراء كثر اعتبروا هذا التحقيق المصوّر وسيلة لإظهار الأناقة الأوكرانية للعالم، وتغليب الجمال على بشاعة الحرب، واعتبرته فريدمان “إيماءة ناعمة للإنسانية المشتركة في مواجهة العدوان”.
من دون قصد، ترد فريدمان على كيسنجر ورأيه الوارد أعلاه، فهي ترى أن “الصراع الروسي – الأوكراني حرب تجري على جميع الجبهات، على الأرض وفي الهواء كما في المجال الرقمي، وفي ساحة الرأي العام الذي بات يتلقى المعلومات من العالم الرقمي، وأي منفذ يسمح للشعب الأوكراني بالوصول إلى قطاعات مختلفة من سكان العالم هو منفذ محق.
في اليوم نفسه الذي نشرت فيه مقالة فانيسا فريدمان في “نيويورك تايمز”، كتب سوني بانش Sonny Bunch في “واشنطن بوست”، عن آل زيلينسكي وظهوراتها الإعلامية، وآخرها في مجلة “فوغ”، “إنهم أذكياء وليسوا سخفاء”. وبانش محرر قسم الثقافة في The Bulwark وضيف دائم في نشرة “هوليوود” الإخبارية وبرامج البودكاست كونه عضواً في جمعية نقاد السينما في واشنطن.
وكتب بانش أنه كان من المتوقع أن يهرب زيلينسكي عندما تدخل الدبابات الروسية، إذ إن السياسة الكلاسيكية كانت تسأل “كيف يفترض بنا أن نأخذ هذا الرجل على محمل الجد بينما أشهر صوره كانت مع ممثل مثل بن ستيلر؟ كيف سيكون قائداً لشعبه وبلاده وهو ضيف جوائز “غرامي” الموسيقية؟
لكن بانش يرى أن السؤال يجب أن يطرح كالآتي: “لماذا يقوم زعماء العالم بالتقاط الصور معه عندما تكون هناك مخاوف ملحة كالتضخم أو فقدان القمح أو ارتفاع أسعار الطاقة؟
ويحسم الكاتب الأمر، بينما يرد عن غير قصد على كيسنجر، فيكتب “لنكن واقعيين، يلتقي زيلينسكي بمشاهير كثر من العالم، ويظهر في مجلات تعنى بحياة المشاهير وأعمالهم، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لإبقاء الأزمة في بلاده في صدارة أذهان الجمهور الأميركي والغربي”.
وبرأي هذا الناقد السينمائي أنه إذا ما كان علينا اختيار الطرف غير الجدي في المعادلة، فسنكون نحن، لأن زيلينسكي يفهم تماماً قوة الإعلام والميديا في الحروب المعاصرة.
المصدر أندبندنت عربية