أنجيل الشاعر
كاتبة سورية
موضوع التناقض (أو التوافق) بين العلم والدين في الساحة العربية من أكثر المواضيع التي تتسبب بغير قليل من الخصومات والعداوات، وتفكيك روابط الصداقة بين الأصدقاء، وحين يكون الهدف من النقاش أو الحوار بين اللاهوتيين والعلمانيين هو تمضية الوقت، وإفحام الخصم (هذا ما يُلاحظ على مواقع التواصل الاجتماعي) من الطبيعي أن نصل إلى خلط المفاهيم، بحيث يصير الإسلام والدين والإيمان شيئاً واحداً عند اللاهوتيين، ويصير العلم والعقل شيئاً واحداً عند العلمانيين، وأن يقول أي من الفريقين الشيءَ ونقيضَه، ما دام الهدف هو كسب “المعركة”، والأدهى من ذلك أن يحتج أي منهما بحجة لا يقتنع بها هو نفسه، وليست من نسق تفكيره ومرجعيته.
هل من الضروري أن يتفق العلم والدين؟ وإذا لم يتفقا هل يجب أن يكونا عدوين لدودين؟
هل من الضروري أن يتفق العلم والدين؟ وإذا لم يتفقا، هل من الضروري أن يكونا عدوين لدودين؟ وهل العقل حكر على العلم، وليس للدين منه قسمة ونصيب؟ وهل الإيمان أو التصديق حكر على الدين؟ التفريق الذي أسسه مفكرون وكتّاب بين الدين واللاهوت، يوجب أن تكون العلمانية المؤسّسة على العقل والعقلانية مناقضة لللاهوتية، لا للدين، لأن الدين مؤسّس على العقل أيضاً. ومن ثم فإن الحوار أو النقاش يكون بين علماني ولاهوتي، (بالمفرد والجمع، والتذكير والتأنيث)، يعترف كل منهما بكرامة الآخر وجدارته وأهليته .. إلخ. يقدم لنا كتاب “جدلية العقل والدين” درساً مهما، في هذا المجال.
يحيل الدكتور حميد لشهب، مترجم الكتاب المذكور، أهمية الحوار بين العلمانيين واللاهوتيين على: “كون هذين البعدين معاً، العلمي والديني من الأبعاد التي وشمت اهتمامات الإنسان منذ ظهوره، ولازمت وجوده في مختلف مراحل تطوره”. هذا يعني أنّ علاقة الإنسان بالعلم والدين علاقة متجذرة فيه منذ نشأته وتوجهه نحو التفكير في ذاته وفي الأشياء من حوله، لكن هل كانت العلاقة بين هذين البعدين علاقة سلسة ووطيدة دوماً وذات طابع إنساني، أم أنّها علاقة صراع من أجل الوصول إلى السلطة، وتنظيم المجتمعات الإنسانية بنظم ثابتة يريدها كلٌّ، حسب منظومته وتصوراته الذهنية؟
كشف عصر الأنوار والإصلاح الديني الذي أسسه “مارتن لوثر” في أوروبا عن حدة الصراع بين رجال العلم ورجال الدين، لا بين العلم والدين، وخاضت الدول الأوروبية معارك كبيرة راح ضحيتها الكثير من البشر، وكانت الكنيسة قد حكمت على الكثير من العلماء والفنانين بالموت، بحجة معارضتهم للدين أو إلحادهم به، كما حكمت على الهراطقة (المخالفين) ومن اتهمتهم أو اتهمتهن بالسحرة والشعوذة.
واليوم لا يستطيع أحد أن ينفي تقدم العلم وازدهار الدين، على الرغم من التقدم المذهل للعلم، لم ينتفِ الدين من حياة الأفراد والجماعات والمجتمعات المدنية، التي فرقت بين حكم الشريعة الملزم للمؤمنين وحكم القانون الوضعي الملزم لجميع المواطنات والمواطنين، بصرف النظر عن الإيمان.
كشف عصر الأنوار بأوروبا عن حدة الصراع بين رجال العلم ورجال الدين لا بين العلم والدين
هل يمكن أن يتحقق مثل هذا في المجتمعات المتخلفة والأنظمة السياسية التي تنتهك حقوق شعوبها بباطن ديني وظاهرٍ علمانيّ؟ وهل تتقبل المنظومة العلمانية منظومة أخرى دينية وتحترم عقائدها ومقدساتها التي تؤمن بها، وهل يتقبل رجال الدين “خصومهم” العلمانيين بصفتهم مواطنين؟
ما نراه اليوم على الساحة العربية؛ ليس صراعاً بين تيارين مختلفين (علماني ولاهوتي) فحسب، إنما حرب وعداوة متبادلة وإقصاء متبادل، وهذا أحد أنواع أشكال التطرف في الفكر وعدم الاحتكام إلى العقل، وما يؤدي إلى العنف والدمار؛ فالتطرف العلماني لا يقل خطورة عن التطرف الديني، يقول الدكتور عبد الرزاق الشايجي، في مقابلة تلفزيونية:
“باختصار شديد وبشكل مباشر، الصراع بين التيار العلماني والتيار الإسلامي هو صراع بين الإيمان والكفر” وعندما استهجن المذيع هذا الطرح أضاف الدكتور الشايجي: “هناك فرق عندما أقول إنّ العلمانية كفكر والإسلام كدين هذا إيمان وكفر، أما عندما آتي لأنظّر وأطبق على الواقع، فالعلمانية مدارس منها ما هي علمانية متطرفة ومنها ما هي معتدلة، فإما أن تكون عن جهل أو عن غير قناعة (…) فلا يمكن أن يجتمع علماني وإسلامي على الإطلاق..”.
أما الدكتور عبد الوهاب المسيري، المتخصص في الشؤون الإسلامية، فيقول: “تعريف العلمانية، باعتبارها فصل الدين عن الدولة، هو تعريف جزئي، أما الممارسة فهي شاملة وهي في غاية الخطورة، إذ تكمن خطورتها في التسلل إلى وجداننا وإلى وعينا من دون أن ندري عن طريق الإعلانات التلفزيونية وأفلام الأطفال الخالية من القيم الإنسانية..”.
متى سيجتمع الديني والعلماني في العالم العربي؟
نظّمت الأكاديمية الكاثوليكية بميونيخ في العام 2004، مناقشة حول الأسس الفكرية لمجتمع يحصّن الكرامة الإنسانية، بين علماء العقل والدين في ألمانيا، يمثل الجانب العلماني الفيلسوف “يورغن هبرماس” والجانب اللاهوتي الكاردينال الألماني “جوزيف راتسنغر” وهو أحد أعمدة الكاثوليكية الأوروبية، ولم تكن المناقشة حول موضوع العقل والدين إلّا حواراً مفتوحاً واعياً ومسؤولاً، على خلاف ما جرى في أوروبا قبل عدة قرون من عنف وقتل وسفك دماء بين الطرفين(1). فقد دعا هابرماس (العلماني) إلى ضرورة أن تأخذ الدولة المشرعة للقوانين جميع التمثلات الدينية بعين الاعتبار، ليعيش الجميع في فضاء إنسانيّ رحب أسماه “الوعي ما بعد العلماني”.
أما راتسنغر فقد بنى مناقشته على النداء إلى التقاء “العقل والدين” ليخدم كل منهما الآخر. لكن ما يلفت النظر إشارة اللاهوتي راتسنغر إلى وجوب أن تكون السلطة السياسية تحت سلطة القانون لا العكس، “من أجل القضاء على العنف والاعتباطية في التسيير، ليتمتع الكل بحريتهم الفردية والجماعية. فإنّ سنّ القانون لا بد أن يكون بهدف ضمان العدل والمساواة للجميع، وليس من أجل ضمان امتيازات أقلية معينة، سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم ثقافية، وإنه لا يجوز لأغلبية أن تهضم حقوق الأقليات، ما دام الأساس هو عدم المس بالكرامة الإنسانية” (2). واللافت أكثر أنّ الكاردينال لم يخالفه في ذلك ولم يعارضه. هذا هو الدرس.
هوامش:
1- جدلية العلمنة “العقل والدين” ، يورغن هبرماس، جوزيف راتسنغر، ترجمة حميد لشهب، ص 32، جداول للنشر والتوزيع، بيروت، 2013
2- المصدر السابق، ص 33.
نقلاً عن حفريات