عمر الرداد
كاتب أردني
بمعزل عن مواقف الحكومات العربية والإسلامية التي اتخذت غالبيتها مبدأ “الحياد” تجاه الحرب الروسية على أوكرانيا، لأسباب سياسية واقتصادية، وفي ظل مقولات بناء علاقات متوازنة مع روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا من جهة أخرى، إلا أنّ “غالبية” الشعوب العربية، بما فيها نخبها السياسية والاجتماعية والرأي العام الشعبي، تؤيد الرئيس “فلاديمير بوتين” والحرب على أوكرانيا، ولا شك أنّ هذا التأييد، على الأقل في الأوساط الشعبية العربية والإسلامية، مدعاة لإثارة تساؤلات، فيما إذا كانت تعكس فهماً سياسياً وموقفاً من روسيا، أم أنّ هناك أسباباً أخرى تتجاوز تفاصيل الحرب في أوكرانيا ومشروعية هذه الحرب، وفقاً لمقاربات روسيا أو مقاربات أوكرانيا الدفاعية، أم أنّ ذلك يرتبط بسرديات “سياسية كبرى”، وإذا كان بالفعل هناك “سرديات” لا يتم التعبير عنها بشكل مباشر، فما أبرزها؟
أوّلاً: يأتي الموقف العربي الإسلامي بوصفه موقفاً ضد أمريكا والدول الأوروبية أكثر من كونه تأييداً لروسيا، بمعنى أنّ أيّ طرف في العالم يخوض حرباً مع أمريكا، ومعها “بريطانيا وفرنسا”، سيحظى بتأييد الشعوب العربية والإسلامية، استناداً لسردية التاريخ وجوهرها وعنوانها “الاستعماري”، مقابل سردية أخرى ترى في روسيا وريثة للاتحاد السوفييتي، نصير الشعوب المظلومة تاريخياً ضد الإمبريالية الغربية. هذه المقاربة يتم إسقاطها على غالبية الحقول المعرفية الأكاديمية في علاقات العرب والمسلمين مع الآخر، بما فيها التنظيرات الخاصة بـ”الاستشراق”؛ إذ لا ينظر عموماً إلى هذا الاستشراق “الروسي والألماني” بالمنظار نفسه لاستشراق الدول الأوروبية، أو حتى ما أصبح يُسمّى الاستشراق “الجديد”.
يأتي الموقف العربي الإسلامي بوصفه موقفاً ضد أمريكا والدول الأوروبية أكثر من كونه تأييداً لروسيا، فأيّ طرف في العالم يخوض حرباً مع أمريكا ومعها “بريطانيا وفرنسا”، سيحظى بتأييد الشعوب العربية والإسلامية
ورغم تورّط روسيا حديثاً في المعارك في سوريا وليبيا، وقبل ذلك في أفغانستان ضد العرب والمسلمين، وبصورة مماثلة للاستعمار الغربي، بما في ذلك تقديم الدعم لإسرائيل، إلا أنّ هذا التورّط غير مطروح في كثير من الأوساط العربية والإسلامية بمرجعية اللحظة الراهنة، إلا من قبل بعض جماعات الإسلام السياسي في الدول العربية والإسلامية، التي تنظر إلى روسيا بوصفها دولة كافرة، ولها مطامع في العالمين العربي والإسلامي، وأنّها مارست القتل والإبادات الجماعية في سوريا وليبيا وأفغانستان.
ثانياً: القيادة الفردية للرئيس الروسي بوتين، وبصورة تلامس صورة القائد المستقرة في “العقل العربي والإسلامي” فالتاريخ العربي والإسلامي مرتبط بأفراد غير عاديين قادوا المعارك والحروب في عصور الفتوحات الإسلامية وما بعدها، وقد لعبت لغة التحدي التي استخدمها الرئيس بوتين في خطاباته تجاه أمريكا والدول الأوروبية دورها، بما فيها من مفردات تؤكد مفاهيم البطولة والشهادة والفداء، بالإضافة إلى توجيه انتقادات لاذعة لليبرالية الغربية، وتحديداً في قضايا الإجهاض والمثلية الجنسية، التي يتوافق الموقف منها مع مرجعيات الثقافة الدينية الإسلامية والشرق أوسطية عموماً.
وبالتزامن مع ذلك، فإلى جانب صورة الرئيس بوتين بصفته “البطل”، ظهرت صورة أخرى وهي صورة “المخلص”، وهذه الصورة مستقرة في العقل الجمعي الإسلامي والعربي، ويتردد في سرديات كثيرة أنّ بطلاً “مخلصاً” سيأتي من الشرق ليخلص العرب والمسلمين ممّا هم فيه من ذلٍّ وهوان، ويقضي على قوى الشر العالمية.
ثالثاً: الموقف الروسي من إسرائيل واليهود والقضية الفلسطينية، هذا الموقف الذي يشكّل المرجعية الأساس، إسلامياً وعربياً، تجاه أيّ جهة “أنظمة وحكومات وشعوب”، وقد تدرّج الموقف الروسي تجاه هذا العنوان بالتأكيد على يهودية الرئيس الأوكراني “زيلنسكي”، وأنّه من القادة الجدد للنازية، ثم التشكيك بمحرقة اليهود في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، وتتويج كل ذلك بتشريع قانوني يمنع الوكالة اليهودية التي تتولى تنظيم عمليات تهجير اليهود لإسرائيل من العمل على الأراضي الروسية، وبالتزامن توالت إعلانات القيادة الروسية حول مقاربة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس، وجميعها مواقف بمعزل عن تطبيقاتها وترجماتها فعلياً، قوبلت باستحسان من قبل غالبية أوساط الرأي العام العربي والإسلامي. وقد لعبت حملات إعلامية وتسريبات تتضمن أنّ أسلحة حركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة غالبيتها من مصادر روسية، بما فيها الصواريخ التي تدكّ المدن الإسرائيلية.
يتردد في سرديات كثيرة أنّ “بطلاً مخلصاً” سيأتي من الشرق ليخلص العرب والمسلمين ممّا هم فيه من ذلٍّ وهوان، ويقضي على قوى الشر العالمية
رابعاً: غالبية قادة الرأي العام والمؤثرين فيه ينتمون لتيارات قومية ويسارية “تاريخياً” وقد تلقّى غالبيتهم تعليمه في الاتحاد السوفييتي السابق والدول الشرقية، بالإضافة إلى الدول التي كانت تدور في فلك الكتلة الشرقية كسوريا والعراق ومصر خلال الحكم الناصري، عبر بعثات دراسية كان يقدّمها الاتحاد السوفييتي مجاناً. ورغم تحولات خريجي دول الكتلة الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي بانخراطهم في أحزاب ومنظمات ونقابات غادرت المربعات الأولى التي نشؤوا في ظلالها، إلا أنّ هذه الفئة تشكّل نسبة ليست قليلة من بين قادة الرأي العام، وتعيش “حنيناً” إلى دول الكتلة الشرقية، لا سيّما في مراحل عنفوانها ومواجهتها للغرب الإمبريالي، وتعبّر عن تأييدها لروسيا بقيادة الرئيس بوتين، بوصفه امتداداً ووريثاً للاتحاد السوفييتي، بما في ذلك خطابات التحدي التي وصلت إلى درجة رفع العلم السوفييتي في الأراضي الأوكرانية “المحررة”.
وفي الخلاصة؛ فإنّه بمقاييس التاريخ الحديث والمعاصر، والأدوار التي مارسها الغرب والشرق في المنطقة العربية والإسلامية، فلا شك أنّ روسيا تتفوق على الغرب في علاقاتها مع المنطقة، بما في ذلك عناوين مستجدة لا تتوقف عند القضية المركزية للعرب والمسلمين وهي القضية الفلسطينية فقط، بل تصل إلى الموقف من الإرهاب، وما يمكن وصفه بالتنافس أو الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، ورغم ذلك فإنّ قلة قليلة في المنطقة ترى في المواقف الروسية أنّها براغماتية، وتخاطب اللحظة الراهنة في سياقات استثمارها مع رأي عام في المنطقة ما يزال يحرّكه مخيال عاطفي جبّار، كما قال المفكر العربي محمد أركون.
نقلاً عن حفريات