حامد فتحي
صحفي مصري
إنجاز آخر حققه الرئيس التونسي قيس سعيّد؛ بتوقيع الحكومة اتفاق العقد الاجتماعي مع الاتحاد العام للشغل واتحاد الصناعة، الذي ينصّ على التشاور والتوصل إلى موقف واحد بخصوص الإصلاحات الاقتصادية المرتقبة، والتي ستكون لها تبعات واسعة على المواطنين، وخصوصاً الطبقة الوسطى والطبقات الدنيا.
ويقطع هذا التوافق الطريق على تسييس الإصلاحات الاقتصادية من قبل الأحزاب السياسية المعارضة للرئيس، والتي لن تتوانى عن استغلال تبعات الإصلاح لتأجيج الغضب الشعبي ضدّ الرئاسة، دون وضع اعتبار لخطورة ذلك على البلاد، فضلاً عن أنّه يخلق تفاهماً واسعاً بين أصحاب المصلحة في الإصلاح الاقتصادي، ويُرشد مسار الإصلاحات من جانب آخر، لتقليل تبعات الإصلاح على المعيشة كلّما كان ممكناً.
العقد الاجتماعي
وفي الثاني عشر من آب (أغسطس) الجاري، وقّعت رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، ورئيس اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، سمير ماجول، عقداً اجتماعياً هو “عقد المثابرة لمجابهة التحديات الاستثنائية الاجتماعية والاقتصادية والمالية بكلّ مكوّناتها ودعم السيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني”، وذلك بحضور مديرة مكتب منظمة العمل الدولية لبلدان المغرب العربي، رانيا بخعازي، في قصر الحكومة بالقصبة.
وقال بيان الحكومة: “اتفق الشركاء الاجتماعيون على عقد جلسات حوار للوصول إلى اتفاقات، سواء كانت ثنائية أو ثلاثية، فيما يتعلق ببعض الملفات ذات الصلة بالاستحقاقات الاجتماعية والإصلاحات الاقتصادية المنتظرة، وذلك ابتداء من يوم الإثنين 15 من الشهر الجاري”.
ويأتي هذا العقد في إطار التمهيد لاستئناف المفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد الدولي، بهدف الاتفاق على خطة إصلاح اقتصادي شاملة، والحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار، لإصلاح عجز الموازنة.
وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي، شتاء 2021، بعنوان “الإصلاحات الاقتصادية ضرورية للخروج من الأزمة”؛ من الأسباب المحتملة التي تقف وراء بطء تعافي الاقتصاد في تونس؛ اعتماد البلاد على خدمات السياحة والنقل، وجمود مناخ الأعمال، بما في ذلك القيود المفروضة على الاستثمارات والمنافسة التي تحول دون إعادة تخصيص الموارد المتاحة في هذا الاقتصاد.
ومن حيث العوائق الرئيسة التي تقف حائلاً أمام المنافسة؛ البيئة التنظيمية الحالية التي تُقيد المنافسة وتحدّ من دخول شركات جديدة في مجال الأعمال، وبحسب تقرير الصندوق؛ فالإصلاحات الاقتصادية ضرورة حتمية في البلاد للخروج من أزمتها الاقتصادية، والتي تأثرت سلباً بأزمة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا.
ويقول الصحفي والباحث في الشؤون المغاربية، إدريس حميد: “عاشت تونس 11 عاماً من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانتشار البطالة وارتفاع التضخم وتوقف السياحة، ولعلّ السبب الرئيس هو الأزمة السياسية خلال هذه الفترة التي يعرفها التونسيون باسم “العشرية السوداء”، وما أنتجته من حكومات محاصصة”.
وأضاف لـ “حفريات”: “بعد إجراءات 25 يوليو، والتي هي محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عيّن الرئيس حكومة جديدة برئاسة نجلاء بودن، وتوترت العلاقة بين الرئاسة والاتحاد العام للشغل حول الحوار الوطني والإجراءات التي تقوم بها الحكومة، خاصة ما يتعلّق بشروط صندوق النقد الدولي من أجل مساعدة البلاد، لكن عقب الاستفتاء على الدستور انفرجت العلاقة بين الطرفين وتكللت بالاتفاق على العقد الاجتماعي”.
ويجمع هذا العقد أصحاب المصلحة الاقتصادية في البلاد؛ الحكومة التي تسعى لتعزيز مداخليها الضريبية، واتحاد الصناعات الذي يمثل القطاع الخاص الذي يُعوّل عليه في التنمية الاقتصادية، واتحاد الشغل الذي يمثّل الجانب الاجتماعي لأكثر من مليون عامل في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
استحقاقات دستورية
وتأتي هذه الخطوة اتساقاً مع الدستور الجديد الذي ينصّ على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، كما أنّها تُجنّب البلاد صداماً اجتماعياً يفوق في خطورته الصدام السياسي الحالي، الذي يتّجه نحو الأفول مع استمرار الحرب الإعلامية ضدّ الرئيس.
وتعدّ الإصلاحات الاقتصادية التحدي الجوهري أمام حكم الرئيس قيس سعيّد، لهذا فإنّ تحويل الاتحاد العام للشغل من عدو للإصلاحات إلى شريك فيه يعزز التجربة الديمقراطية في البلاد، من حيث منع تحول الإصلاحات إلى توجهات سلطوية.
ومن جانبه، يقول المحلل السياسي والصحفي التونسي نزار الجليدي: “هذا العقد هو الإطار المنظم للعمل، بعد مسار 25 تموز (يوليو) 2021، واستعداد للفترة التي سيكون فيها الدستور نافذاً، والذي يؤطر التشاركية بين المؤسسات الوطنية والحكومة، خاصة بعد ما عرفته تونس من اهتزازات في التوافقات بين منظمتَي اتحاد الصناعة واتحاد الشغل، بعد سنوات عجاف كانت فيها الاحتجاجات أكثر من ساعات العمل والإنتاج، وهذا الإطار هو الغطاء الجامع الذي يجمع أصحاب المصلحة الثلاثة في مرحلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية المقبلة”.
ويعدّ الاتحاد العام التونسي للشغل من أهم مراكز القوى الاجتماعية في البلاد، وتعززت قوته منذ الاستقلال، عام 1956، وسبق أن عارض خطة إصلاح اقتصادي، عام 2014، بين الحكومة وصندوق النقد الدولي، وكان سبباً في تأجيلها.
ومن المؤكد أنّ الإصلاحات الاقتصادية ستؤثر على قيمة العملة الوطنية، الدينار، مما سيؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية لها، إلى جانب تأثيره على مستويات المعيشة من خلال برنامج رفع الدعم عن المحروقات، وترشيد الدعم بأشكاله كافة، فضلاً عن تأثيره على قوة الاتحاد العام للشغل من خلال التشريعات الاقتصادية المرتقبة لتعزيز التنافسية وخلق بيئة جاذبة للاستثمار، ستخلق صداماً بين رؤية الاتحاد للحقوق العمالية ورؤية القطاع الخاص؛ لهذا كان وجود اتحاد الصناعات كطرف أساسي في العقد الاجتماعي مهماً للتوصل إلى توافق بين أصحاب العمل والعمال.
ما علاقة الإخوان؟
وتكشف الهوّة الواسعة بين حجم التأييد الذي نالته إجراءات الرئيس قيس سعيّد، في 25 تموز (يوليو) 2021، والتي بلغت 87%، ونسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور، والتي بلغت 27.54%، عزوفاً شعبياً عن الاستحقاقات الانتخابية، مقابل مشاركة قوية في الاحتجاجات ودعم كبير للتغيير، وليس كما صوّرها حزب حركة النهضة الإخواني، على أنّه رفض للدستور.
ولهذا من المؤكد أن تهتز شعبية الرئيس قيس سعيّد حال بدء تطبيق الإصلاحات الاقتصادية، ليس رفضاً لمسار 25 يوليو وإطاحة الإخوان، بقدر كونها رفضاً للتبعات الاقتصادية، ولهذا كان توقيع العقد الاجتماعي وإشراك الجميع في صياغة برنامج الإصلاح الاقتصادي بمثابة قطع الطريق على الأحزاب السياسية، التي تودّ استغلال تأثيرات الإصلاح لتهييج الرأي العام ضدّ الرئاسة والحكومة.
ويرى الصحفي والباحث في الشؤون المغاربية، إدريس حميد، أنّ “توقيع العقد الاجتماعي بين هذه الأطراف مهمّ في إقناع الشارع بضرورة تفهّم الإجراءات الاقتصادية المرتقبة وتقبّلها؛ لأنّ هذه الأطراف تمثّل شرائح واسعة من المجتمع”.
وحول مواقف الأحزاب السياسية، قال: “هناك أحزاب خسرت مصالحها من خلال الإجراءات التي قام بها قيس سعيّد، على رأسها حلّ البرلمان، ومنها حركة النهضة والحزب الدستوري الحرّ وغيرهما، وهم حاولوا، وما يزالون، التشويش على الرئيس قيس سعيّد في محاولة لتحريك الشارع ضدّه، وهي محاولة لا تخدم المصلحة الوطنية في تونس، خصوصاً أنّ هذه الأحزاب كانت سبب الأزمة اليوم، وبهذا الاتفاق سيقوي موقف الرئيس، ويقطع الطريق على هذه الأحزاب”.
وفي السياق ذاته، أضاف المحلل السياسي، نزار الجليدي: “العقد الاجتماعي سياسي بامتياز، ويقطع الطريق أمام كلّ الحزبيات، وعلى رأسهم الإخوان المسلمون، من محاولة النيل من تونس الجديدة، وهو رسالة قوية جداً بأنّ المنظمات الوطنية عند الجدّ تعرف مصلحة البلاد قبل المهاترات السياسية، وأيضاً رسالة إلى العالم الذي حاول بشكل أو بآخر أن يلعب ورقة التحرك الاجتماعي ليسقط مسار طالب به الشعب رغم الهنّات التي اعترضته”.
ولفت الجليدي إلى أنّ “المرحلة المقبلة ستكون صعبة اقتصادياً، لكنّها لن تكون أصعب على الجميع من حياة الخذلان السياسي والإرهاب”. ونبّه إلى ضرورة تفهّم الجميع من منظمات ومواطنين لضرورة الإصلاحات “لا مناصَّ من عملية جراحية موجعة حتى تتمكّن تونس من الخروج من وضعها في ظلّ التغيرات الكبرى في المنطقة والعالم”.
يذكر أنّ إجمالي الدين العام لتونس، حتى نهاية 2021، بلغت قيمته 37 مليار دولار، ما يمثّل 85.5% من الناتج الداخلي الكلّي، ووصل حجم الدين الخارجي إلى 23.3 مليار دولار، بنسبة 62.8% من إجمالي قائم الدّين، ويتكوّن من ديون متوسطة وطويلة الأمد، منها ديون متعددة الأطراف تبلغ 12.4 مليار دولار، وديون ثنائية تبلغ 4.7 مليار دولار.
المصدر حفريات