محمد عبدالرحمن
أفرزت الحرب في اليمن واقعاً مغايراً لما كان عليه قبل أن تدخل جماعة الحوثي إلى صنعاء وتُسقط الدولة وتستولي على كافة الموارد والأموال، هذا الواقع الجديد هو نتاج طبيعي لما آلت إليه الحرب، وخاصة فيما يتعلق بالوضع في الجنوب، ولأن خصوصية الجنوب في الواقع الراهن له تداعياته المستقبلية، حيث إن المبدأ الذي سوف يرتكز عليه أي وقف نهائي لهذه الحرب هو الوضع السياسي للجنوب بعيداً عن الشمال، هذا الأمر هو اختبار حقيقي ومنطقي أمام القوى الشمالية التي تقف مع أبناء الجنوب في مواجهة الحوثية الإرهابية التي تسيطر على الشمال منذ 2014م.
يمثل الجنوب مرحلة ثانية في الحسابات العسكرية بالنسبة لجماعة الحوثي، وخاصة بعد أن عجزت عن السيطرة عليه مع بداية توسعها في كافة مناطق ما بعد صنعاء وتعز وصولاً إلى عدن في 2015م، ولأنها جماعة تحمل مشروعاً توسعياً تعززه عقيدتها الطائفية المتمثلة برؤيتها إلى “الحق الإلهي” في الحكم ليس على مستوى اليمن وحسب بل وبقية دول المنطقة وخاصة الدول الخليجية.
الصدمة الجنوبية من الغزو الحوثي
عندما وصلت جماعة الحوثي إلى عدن بعد سقوط الشمال، وجدت نفسها لأول وهلة أمام غنيمة حرب لا يشاركها أحد فيها، فعززت من قواتها هناك على أساس أن السيطرة على عدن سوف تمنحها القوة للتوسع إلى كافة مناطق الجنوب وخاصة حضرموت والمهرة، وأمام الغزو الحوثي للجنوب تشكلت صدمة كبيرة في الذهنية العامة للناس، وخاصة أن خطابات عبدالملك الحوثي تجاه الجنوب كانت ما قبل دخول قواته صنعاء، تحمل نوعاً من الاستلطاف السياسي ودغدغة للمشاعر الجنوبية في مظلومية القضية وأهمية كلمة الجنوب فيما يراه مناسباً له في إطار الوحدة او الانفصال.
مثلت الصدمة الجنوبية من الغزو الحوثي مرحلة استيقاظ وتنبه لما يمكن أن يحدث لو استمر البقاء الحوثي في الجنوب بدباباته وعقيدته الطائفية، فاستُحضر في “الذهنية الجنوبية” الغزو الأول 94 وما نتج عنه من أحداث وظروف مأساوية أفرزتها السياسات الخاطئة التي كانت تنفذها القوى الشمالية بكل تشكيلاتها الحزبية والقبلية والدينية، فكان من الواجب أن يتحمل الجنوب مسؤولية القيام بالمواجهة وإعلان المقاومة وطرد الجماعة الحوثية من كل مناطق الجنوب.
الأقدام المبتورة العائدة من الجنوب 2015
أي بلد يقف في مواجهة الدخلاء يُدرك أن الدم ثمن للانتصار عليهم، وأن التضحية بالأرواح هي قربان من أجل الحرية، ومن هذا المنطلق بدأت التشكيلات القتالية في الجنوب تتكون وتتشكل وتستعد لخوض معركة الخلاص الأخير من الغزاة الجدد القادمين من كهوف الشمال، وأشعلت جذوة القتال مع وصول المساندة والدعم الإماراتي في إطار التحالف العربي إلى عدن، وبداية التقدم لدحر الجماعة الحوثية من مطار عدن وصولاً إلى كافة مديرياتها ومن ثم بقية المناطق في لحج وأبين وصولاً إلى الضالع.
ولأن المقاومة الجنوبية اندفعت في القتال بشكل كبير أربك حسابات جماعة الحوثي، وأفشل خططها في استكمال السيطرة على الجنوب، مما خلق في صفوف قواتها حالة من التخبط والتيه، أدى إلى فقدان الثقة بالانتصار المبنية على أوهام خطابات عبدالملك الحوثي بالتمكين الإلهي في الجنوب، وبدأت سياسة “ما فيش بريك” تتهاوى أمام صلابة المقاومة وبسالة المقاتل الجنوبي.
في رمضان 2015م كان الجنوب صاحب الانتصار الأول وصانع الهزيمة الأولى لجماعة الحوثي، انتصر الجنوب وخُضب كل باب بيت جنوبي بالدم كعهد بالوفاء للجنوب وقضيته العادلة، ولمع نجم الشهداء في السماء كحارس أمين على هذا العهد، وعادت جحافل الحوثي تجر الهزيمة بأقدام مبتورة لا يمكنها العودة مرة أخرى، خسر الحوثي أعداداً هائلة من قواته تفوق كافة قتلاه منذ بداية ظهوره في صعدة 2004م وحتى سيطرته على صنعاء 2014م.
اعترف الحوثي بفداحة الهزيمة التي مُنيت بها قواته في الجنوب، اعترافاً متلفزاً حاول تغليفه بشواهد التقصير وعدم الالتجاء إلى الله، في محاولة منه لدحض ما كشفته المقاومة الجنوبية عن إمكانية هزيمة الحوثي والانتصار عليه، عندما تتوافر الإرادة والعزيمة، هذا الاعتراف الذي تداوله أتباع الحوثي بأنفاس متقطعة وبهمس يكاد لا يُسمع صنع في نفوسهم عُقدة من كل ما هو جنوبي، وحالة من السخط تم التعبير عنه في حالة الازدراء من الجنوبيين ونفي عنهم صفة الجنوبية ووصفهم بأشياء تستنقص من كرامتهم وإنسانيتهم.
المقاومة الجنوبية للغزو الحوثي ودحره مثلت مرحلة مفصلية في تاريخ الجنوب على وجه الخصوص وعلى اليمن بشكل عام، حيث ولأول مرة منذ 1994م أصبح للجنوب تشكيلات قتالية قادرة على حسم المعركة، هذه المقاومة المسلحة لها ذراع آخر متمثل في عدالة القضية والمشروع الوطني في استعادة الأرض والدولة، هذا التكامل بين المقاومة المسلحة وعدالة القضية صنع واقعاً جديداً ومرحلة جديدة استعاد فيها الجنوب زمام المبادرة وكلمة الفصل.
النظرية الحوثية: الشمال أولاً.. الجنوب ثانياً
يركز الحوثي في الوقت الراهن على التغلغل أكثر في مناطق الشمال، فهو يسعى إلى أن تكون هذه المناطق هي الرافد الأساسي بالمقاتلين بعد القيام بعملية غسل أدمغتهم وزرع بذور الطائفية والعنصرية فيها، وتعتيقها بضرورة استدامة حكم عبدالملك الحوثي وربطه باستقامة الحياة والفوز بالجنة في الآخرة، ومن أجل أن يضمن الحوثي بقاء سيطرته في الشمال، فهو يعزز من نشر مشروعه عبر وسائل مختلفة عبر الدورات الثقافية المغلقة، وكذلك عبر وسائل الإعلام وصناعة الدعاية الإعلامية والمحتوى الإعلامي المضلل للحقيقة.
القوة العسكرية هي الوسيلة الأكثر نجاحاً للسيطرة الحوثية على الشمال، ونظراً لعدم وجود قوة شمالية في الميدان تضاهي القوة الحوثية –على الرغم من ضعفها- إلا أن المشروع الحوثي يصطدم في أغلب الأحيان بحالة من الرفض، مما جعل الحوثي يستخدم أساليب الترغيب والترهيب والإذلال، ومن شواهد هذه الأساليب هي ما يتعلق بتفجير المنازل والمساجد، وخطف وتعذيب المعتقلين، في صورة يسعى من خلالها إلى بث الخوف في قلوب الناس وضمان ولائهم له كحاكم فرضه الواقع وعززه غياب القوى العسكرية الشمالية الأخرى، وحتى وإن وجدت فهي منفصلة عن المجتمع وعن هموم الناس وآمالهم في استعادة صنعاء من مخالب الحوثي الإرهابية.
أساليب “ناعمة” نحو الجنوب
في الاستراتيجية الحوثية هو أن يصبح الشمال مجرداً من أي خطر قد يهدد سيطرته على صنعاء، أو يخلق وضعاً غير مستقر يزعزع سياساته المستقبلية تجاه الجنوب، حيث إن استقرار الشمال تحت نفوذ الحوثية الإرهابية يمثل قاعدة صلبة لمواجهة الجنوب والعودة لغزوه بأساليب وطرق مختلفة، منها ما يمكن أن يعتمد عليها الحوثي لاستمالة بعض الجنوبيين تتمثل في التمهيد من خلال المادة الناعمة التي سيقدمها بعض الجنوبيين المغرر بهم والمتواجدين في الشمال، حيث سوف يوجهون خطابات الحوثي بألسنتهم الجنوبية إلى بقية الجنوبيين.
يستغل الحوثي الأحداث في الجنوب والأوضاع الاقتصادية والمعيشة للناس في تأليب الرأي العام الشمالي توجيهه نحو الجنوب وتسليط إعلامه على الفوضى التي تعيشها مناطق الجنوب نتيجة القصور وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وخاصة بعد تشكيل مجلس القيادة الرئاسي وعزل “هادي” الذي تسبب في كل هذه الأوضاع المأساوية، ومن خلال ذلك التسليط يحاول الإعلام الحوثي صناعة بروباجندا كبيرة تُشعر الناس أن الوضع في الشمال أكثر أمانا وذلك بفضل السيطرة الحوثية.
من الوسائل التي يستخدمها الحوثي في تعميق الوضع الراهن في الجنوب، وضرب الجنوبيين ببعضهم، وكذلك ضرب التحالفات مع بعض القوى الشمالية المناوئة للحوثي، تتمثل هذه الوسائل في بث الفرقة والتشكيك من خلال تصريحات بعض قيادات الحوثية الإرهابية، أو من خلال تسريبات مفبركة توحي بأن هناك تواصلا مباشرا بين بعض الجنوبيين وصنعاء، أو من خلال فبركات تنشرها وسائل الإعلام الحوثية عن زيارات سرية قامت بها قيادات حوثية إلى عدن مثل تلك التي نشرت عن زيارة القيادي حسين العزي، كل هذه الوسائل والأساليب وغيرها هي مجرد مرحلة تسبق أي عمليات عسكرية مستقبلية ضد الجنوب، فقط يستقر الشمال ومن ثم الاتجاه جنوباً.
المصدر نيوزيمن