سراج الدين الصعيدي
كاتب مصري
للجماعات الدينية في ليبيا دورها الكبير في تأجيج الأزمة ونهب الثروة، وهو ما سلّطت عليه الضوء دراسة حديثة لمركز “ترندز للبحوث والدراسات”؛ حيث تناولت أهدافها وأطماعها وطرق عملها ومصادر دخلها، فضلاً عن القواسم المشتركة بين الجماعات العنيفة كتنظيم داعش، والأخرى التي تدّعي السلمية كالإخوان المسلمين.
الدراسة التي جاءت بعنوان “ليبيا.. الجماعات الدينية ونهب الثروة” للباحث الجزائري خالد عمر بن ققه، أشارت إلى أنّ الأوضاع في ليبيا منذ قيام ثورة شباط (فبراير) عام 2011 تظهر الأدوار المتبادلة أو المتناقضة بين الجماعات الدينية في ليبيا اليوم لنهب الثروة، في ظل سياقين؛ الأول محلي، والثاني دولي، يختلفان في الوسائل والتوجهات، لكنّهما يلتقيان في الهدف، ممّا يعني أنّ شدّ الرحال نحو ليبيا منذ (11) عاماً هدفه نهب الثروة، وإن اختفى تحت مسميات مختلفة، وهو مسعى أطراف خارجية، سواء أكانت قوى دولية ذات مصالح، تتستَّر تحت شعار “تصدير الديمقراطية وحقوق الإنسان”، أم جماعات دينية تُخفي أطماعها المالية، مثل: جماعة “الإخوان المسلمين، أو جماعات إرهابية أبرزها داعش”، التي أعلنت أطماعها في ليبيا منذ بداية نشوئها، كما جاء على لسان أميرها السابق في ليبيا “أبو المغيرة القحطاني الذي قال: “إنّ ليبيا لها أهمية كبيرة لموقعها في أفريقيا، وللجنوب من أوروبا، كما أنّ لها موارد طبيعية هائلة”، وفق مركز المرجع للدراسات والأبحاث الاستشرافية حول الإسلام الحركي.
وذكر الباحث أنّ أفعال الجماعات الدينية كان ظاهرها السلم والاستقرار وباطنها الحرب والفوضى، وأنّ جماعات دينية مقبولة على نطاق ضيق أو واسع في المجتمع، كونها تسربت داخل المؤسسات، وبدت مدافعة عن حقوق الشعب، ثم اتَّخذت طريقها سرباً عبر تلك “المظلومية” نحو نظام الحكم بعد سقوط نظام القذافي، وفي أفعال جماعات أخرى تأسس قادتها الليبيون خارج بلادهم أيضاً، ثم عادوا إليها حاملين ومنذرين بالعنف، ثم هم اليوم أمراء للإرهاب، وبسلطتهم تلك يُسْهمون في نهب الثروة الوطنية، وكذلك في أفعال جماعات ثالثة قادمة من الخارج، تعمل من أجل “أسلمة المجتمع الليبي”، إلى درجة التشكيك في ميراثه الديني كله.
وأوضح الباحث أنّ كل تلك الجماعات على المسرح الليبي، محلية كانت أو أجنبية، في نهبها المنظم أو الفوضوي للثروة، تتقاتل فيما بينها، وتتربص بالدولة الوطنية الدوائر، محاولة بقصد وزيف في المعنى جعْل سلطة تديّنها أوسع وأعلى من مجال سلطة القانون، وبذلك نأت بعيداً في غيّها، بإبعادها لسلطتي “الدين والدولة” معاً، ذلك لأنّ “سلطة الدين مرجعيتها الضمير، وسلطة الدولة مرجعيتها القانون”، وهي تريد أن تلغي من حياة الشعب الليبي حضور الضمير، وقيام الدولة، وفق ما أورده الدكتور محمد شحرور، في كتابه الإسلام والإنسان… من نتائج القراءة المعاصرة.
وتطرقت الدراسة إلى قضايا (4) أساسية؛ الأولى: تركز على محاولات الجماعات الدينية نهب المال، باعتباره طريقاً إلى السلطة، والثانية: تتناول فضاءات التعاون والصراع في نهب الثروة الليبية بين جماعات الفساد من جهة، والجماعات الدينية من جهة ثانية، والثالثة: تخصّ “المشترك” في النهب بين الجماعات الدينية والقوى الدولية، والرابعة: تستشرف مستقبل ليبيا الجغرافي والاجتماعي على خلفية نهب الجماعات الدينية لثرواتها، وتأثير ذلك في الوضع الطبقي.
ونوّهت الدراسة إلى أنّ الحديث عن نهب الجماعات الدينية للثروة في ليبيا ليس لغواً أو خوضاً أو حتى ادعاء، بالحق أو الباطل، في تجربة ما يُعرف اليوم بـ “تيار الإسلام السياسي” في دولنا العربية وخارجها، فليس لأنّه لا يمكن لأيّ قوى حزبية أو اجتماعية أن تقوم وتواصل طريقها ما لم تكن ممولة، وإنّما لأنّها (الجماعات) تسعى لكسب السلطة من خلال القوة المالية، لتكون صاحبة التمويل الذاتي من الثروة الوطنية، لافتاً إلى أنّها تستغني بقصد عن الدعم المحلي إلا من المقربين منها أو الذين يهادنونها، أو يخافونها، وهي تتنافس على مصادر الدخل نفسه مع القوى الدولية.
وأصبحت السلطة أيضاً، وفق الباحث، من أولويات تلك الجماعات الدينية، تتحكم من خلالها في المجتمع في ظل غياب نظام الحكم، وحتى في العناصر التي تمكنت من الوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، على غرار أولئك المنتمين إلى الإخوان المسلمين.
وتطرّق الباحث في الدراسة إلى ظهور ما يُعرف بالحركة الجهادية في ليبيا عبر نشوء سرّية المجاهدين من قبل مقاتلين قادمين من أفغانستان، لهم روابط قوية بتنظيم القاعدة يعود إلى تحضير واسع للاستيلاء على ثورات ليبيا، وبالتالي الوصول إلى الحكم في وقت لاحق.
كثيرٌ من المعطيات والحقائق يؤكد هذا أو يشِي به، من ذلك أنّ خطاب تنظيم داعش مثلاً جاء منذ بدايته معبّراً عن مدّ نفوذ هذا التنظيم إلى ليبيا، من منطلق أنّ هذه الأخيرة تمتلك ثروات طبيعية، وتحديداً البترول، ناهيك عن مركزها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وأفريقيا وقربها من أوروبا، وهذا سينتهي بالمنطقة كلها (دول الجوار الليبي) إلى أن تصبح ضمن دول “الطوق والنطاق”، التي تحدثت عنها وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، مطلع العام الجاري وفق ما نقلته صحيفة “بوابة أفريقيا”.
وأوضحت الدراسة أنّ من المعطيات الأخرى اعتبار ليبيا دار أمان للجماعات الإسلامية التي ظهرت في المشرق، وتظهر في استراتيجية القاعدة التي نقلت بعض جماعاتها إلى الغرب الإسلامي مستفيدة من عدم الاستقرار في المنطقة، والمثال الأكثر وضوحاً هنا هو قيام تنظيم أنصار الشريعة في ليبيا عام 2011 بالاستيلاء على كثير من المدن، منها درنة، وبنغازي، وغيرهما، ليبلغ السباق ذروته بين أطراف كثيرة متصارعة، وقيام تنظيم داعش بعمليات إجرامية ضد العاملين في مجال النفط في محاولة لنهب الثروة الرئيسية للبلاد، كما فعل قبلها في العراق وسوريا.
وتابع الباحث: الصدامات تحولت إلى ما ظاهرُهُ الحرب الأهلية الساعية إلى السلم الاجتماعي، حسب تصريحات القائمين به، وباطنُهُ تحقيق مآرب جماعات وتنظيمات يتداخل لديها المحلي مع الدولي لدرجة يتعذر الفصل بينهما.
وأضاف: “الأطراف المتصارعة أو المتعاونة في ليبيا، وهي تزحف نحو مجالات الثروة بأنواعها المختلفة، الخاصة بالدولة أو الأفراد، أسّست لمرحلة جديدة من التاريخ الليبي، ستعمّر في الذاكرة الجماعية باعتبارها مرحلة دم وعنف وفوضى، قامت على أنقاض مرحلة سابقة لها، كانت تُمثل استقراراً نسبياً، واستفادة جماعية من الثروة، والملاحظ أنّه في ظل الفوضى العارمة والسباق المتزايد لنهب الثروة لم تحقق المرحلة الجديدة تحولاً مختلفاً بالنسبة إلى معظم الليبيين يحقق عدالة، ولو جزئية، في توزيع الثروة، بل على العكس من ذلك فقد زادت المظالم، مقارنة بعقود حكم الرئيس معمر القذافي.
واسترجع الباحث في دراسته مراحل التحول السياسي في ليبيا منذ سقوط نظام القذافي في جانبه الرسمي والتنظيمي، حيث سنجد بدايته كانت مع توجه الليبيين لانتخابات تشريعية أسفرت عن أول برلمان، بعدها دعم المشير خليفة حفتر، الذي انتصر على جماعات إرهابية في الشرق، وانتخابات جديدة لبرلمان قاطعه الإسلاميون، وانبثقت عنه حكومة في الشرق، بعد ذلك سيطر الإسلاميون على طرابلس وشكّلوا حكومة فيها، وفي كل ذلك كان الصراع على أشده حول الثروة البترولية، ويمكن أن نستشف ذلك من بيانات وأخبار “مؤسسة النفط الوطنية” الليبية، أو متابعة الهجومات التي تتعرض لها من مسلحي الأطراف المتصارعة، وخاصة الجماعات الدينية.
وقال الباحث: “لم تكتفِ عناصر الجماعات الدينية بنهب الثروة، بل عملت على شرعنتها، وتحكمت من خلالها في اقتصاد الدولة عبر “خصخصة” مدروسة، مرفقة بعلاقات دولية على نطاق واسع، هنا نورد تجربة “عبد الحكيم بلحاج”، وهو واحد من المتطرفين الإسلاميين أو أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الذين تمّ تنصيبهم في السلطة في طرابلس، بدعم سياسي ومالي من دول عربية، ومن خلال موقعه استطاع نهب الثروة الوطنية الليبية.”
وتابع الباحث: إنّ مجموعتين من الأجندات تتصارعان فيما بينهما تتحكمان بالمشهد الليبي؛ الأولى: مجموعة أجندات محلية، لها امتداد خارجي بما في ذلك إحضار المرتزقة، واستعمال السلاح، واللجوء إلى العنف، على خلفية حسابات تتعلق بالثروة، والأرض، وحتى العرق، وإن تمّت تغطيتها بغلاف ديني، والثانية: مجموعة أجندات دولية، تحمل برنامجاً للحسم، والمشهد الليبي الراهن يُظهر الوجود الفعلي لبعض الدول من خلال المرتزقة، الذي يهدف أساساً إلى تحقيق المصالح عبر الثروات الليبية، خاصة النفط، وفي ذلك مزاحمة لتنظيم داعش، التي تراهن في إرهابها عليه، خاصة بعد تراجع مداخيلها في العراق وسوريا.
من جهة أخرى، أشارت الدراسة، إلى أنّ الأوقاف الدينية والثروات المرتبطة بها في ليبيا أصبحت نقطة جذب للمنافسة المحتدمة والعنيفة غالباً بين التيارات السياسية والدينية، وهي بالتأكيد ليست بديلاً عن النفط، وإن كان بعض هذه التيارات يرى أنّ مداخيل الأوقاف تلك أهم من النفط، وهو ما يدفعها للتنافس فيما بينها للسيطرة عليها.
من تداخل الأجندات المحلية والوطنية، وما نتج عنها من صراع، قال الباحث في ختام دراسته: إنّه يمكن استشراف مستقبل ليبيا على خلفية نهب الجماعات الدينية لثرواتها، لافتاً إلى أنّ الصراع سيشتد لاحقاً حول المناطق النفطية، ولن ينتظر أن تعود خيراتها على سكانها؛ لأنّ الجماعات الدينية ترى أنّها الوحيدة صاحبة الحق في ذلك، معتمدة على ولاءات بعض عناصرها من سكان تلك المناطق، لكن على المدى الطويل لا يمكن لها تحقيق أهدافها لـ3 أسباب رئيسية؛ أولها: رفض معظم الشعب الليبي لأيّ تقسيم منتظر، وثانيها: وجود جيش شعبي يقاتل لأجل الوحدة الجغرافية للوطن، وثالثها: الموقف الدولي (بعض الدول)، الذي قد لا يرفض تقسيم ليبيا، ما دامت الجماعات الدينية ستحقق له مصالحه، أما وأنّه يسعى ليكون بديلاً عنه من ناحية الاستيلاء على النفط، فهذا سيجعله ضد التقسيم.
المصدر حفريات