أدونيس غزالة
كاتبة سورية
قد يُمثّل التعريف الذي أورده “ميلان كونديرا” للإنسان العاطفي في روايته “الخلود”، مدخلاً مهماً لفهم الطبيعة العاطفيّة؛ إذ يعتبر كونديرا أنّ الشخص العاطفي “ليس شخصاً يكابد العواطف، لأنّنا جميعاً قادرون على مكابدة العواطف، بل إنّه شخص يضع العواطف في مرتبة القيم”. ويتعلّق الانتهاك الأهم الذي يفضحه هذا التعريف بالخلل الناجم عن تحويل العواطف إلى قيم؛ إذ يمكن لهذا التعريف، إن أمعنّا النظر به، أن يعيدَ النظر في منظومة القيم التي تشكل الفضاء الأخلاقي للمجتمع، فمثلاً الأوطان التي ترسمها العواطف، جميلة وبرّاقة في الأغاني والأناشيد، بينما خيانة هذه الصورة المشرقة بمقاربتها الواقعية للمعيش واليومي، تصبح جريمةً يعاقَب عليها بشدّة.
يمكن تحوير التبريرات النفسية للقمع والعنف المُمارس على الفرد والمجتمع من خلال العاطفة
ماذا يعني أن تتحول العواطف إلى قيم؟ هذا يعني أن تنجح الجوانب اللاعقلانية في السيطرة على الفرد وفي تغييب الوعي أو تحويله إلى وعي زائف للذات وللعالم؛ فجميع الدراسات النفسيّة التي شرّحت العواطف وسبرتها، وعلى الرغم من تبايناتها، إلّا أنها تتفق على أنّ العواطف جميعها تحيا في منطقة الغرائز نفسها، إنها تحيا تماماً في مرحلة ما قبل الإدراك العقلي، وهذا قد يضعنا على بداية الطريق لمعرفة ولع العقائد الشديد بالعواطف، ومنحها في كثير من الأحيان صفة القداسة.
إنّ العقائد التي تتبناها أيّة سلطة، تتغذّى على تمدد وانتشار العاطفة؛ إذ يمكن من خلال العاطفة تحوير التبريرات النفسية للقمع والعنف المُمارس على الفرد والمجتمع وإكسابها مقبوليّة عامّة، ما كان لها أن تتوفر لو كان الجانب العقلاني للفرد نشطاً، وإلّا كيف نفهم، إقبال الكثير من الأفراد على تقبيل الأحذية التي تدوسهم!
يسمح استعمال المفردات العاطفية بالوصول إلى العقل الباطن، وزرعه بالأفكار والرغبات والمخاوف والنزعات أو السلوكيات المختلفة
وقد تساعدنا الإستراتيجية السادسة من قائمة “الإستراتيجيات العشر للتحكّم بالشعوب”، للمفكر الأمريكي “نعوم تشومسكي” في إماطة اللثام النفسي عن أهميّة النكوص العاطفي للفرد بالنسبة للسلطة،” فمن خلال (استثارة العاطفة بدل الفكر)، تتمكن هذه الإستراتيجية، حسب رؤيته، “من تعطيل التحليل المنطقي للعقل، وتُفقد الفرد الحس النقدي، كما أنّ استعمال المفردات العاطفية يسمح بالمرور والوصول إلى العقل الباطن دون أي معيقات تحليلية، وزرعه بالأفكار والرغبات والمخاوف والنزعات أو السلوكيات، عندما يتم استثارة العاطفة وجعلها المحرك الأساسي والنهائي لتصرفات أي شخص”. وهذا ما لا يمكن أن ينجح، لولا القبضة المحكمة للسلطة على الأنظمة التربوية؛ فمن خلال الشعارات والخطابات والمناهج التعليمية ووسائل الإعلام والسوشيال ميديا…إلخ، تتم عملية التحكم الشاملة بالفرد، ليصبح مقياس نجاح الأنظمة التربوية في مدى قدرتها على تعميم الحقائق والحقن الأيديولوجي للفرد بالتناقض والوهم.
بالعودة إلى كونديرا فإنّه يفتح باباً يفضي إلى التربية في تعريفه للإنسان العاطفي على أنه الإنسان الهستيري بعينه؛ فسلوك أطفالنا الذي يتسم في الإفراط بحب الذات والمباهاة بها وحبّ الظهور وجلب انتباه الآخرين والاتكال عليهم في المسؤولية والقابلية للإيحاء والتأثر بالآخرين ثم التأثر بالأخبار المثيرة والتفاعل معها والميل الشديد للتمثيل والمبالغة والكذب والانفعالات السريعة والسطحية، هذه السمات هي عينها سمات الشخصية الهستيرية التي تؤسس لها الأنظمة التربوية ويعززها التعليم ويباركها المجتمع، وهي التي ستزوّد الأفراد فيما بعد باضطراباتٍ جسديةٍ ونفسيةٍ وسلوكية؛ فالسلوك العدواني للطفل هو في الحقيقة أكثر علامات تأخّر النمو العاطفي بروزاً ودليل على حدوث إعاقة عبر مراحل التطور العاطفي الاجتماعي للطفل، هذه الإعاقة التي تحرمه من القدرة على فهم المشاعر واختبارها والتعبير عنها، ستجعل من العنف والتطرّف سلوكاً طبيعياً يحظى بمقبولية عامة.
تؤسس الأنظمة التربوية لشخصيات هستيرية يعززها التعليم ويباركها المجتمع، وهي التي ستزوّد الأفراد فيما بعد باضطرابات جسدية ونفسية وسلوكية
ليس المقصود مما ورد، الدعوة إلى إلغاء العواطف وتهميش هذه الفعّالية النفسيّة المهمّة، بل إن ما نرمي إليه، هو تحويلها إلى فعّالية واعية عبر إدراكها العقلي كي تأخذ دورها الطبيعي في الحياة الفردية والجماعيّة، وهذا ما قصده “روبرت هيث” في كتابه “إغواء العقل الباطن” حين يقول؛ “من خلال تحويل عاطفتنا إلى شعور (وهو الإدراك الحسي العقلي للتغيير السلوكي الناتج عن العاطفة)، نستطيع أن نشكل عالماً نعي فيه حقيقةَ وجود أشياء تولّد لدينا ولدى الآخرين حالات من الفرح والحزن، وهذه بدورها خطوة مهمة تساعدنا على الاهتمام بالآخرين، وعلى وضع أساليب وتقاليد تجنبنا وتجنب الآخرين المعاناة”، فقد كانت العاطفة محركاً ودافعاً لأكثر المعارك دموية عبر التاريخ، خاصةً الدينية منها، وما زلنا نختبر نتائجها وآثارها حتى اليوم.
الحبَّ عند أوشو ليس جزءاً من العاطفة كما يعتقد الناس؛ فالعواطف مثل ريح عاتية تترك الإنسان خلفها مشتتاً في الحزن والألم
من الملفت أنّ من يتم استبعادهم من دائرة الحلول المنطقيّة هم أكثر الأشخاص تحديداً وفهماً للمشكلة، لقد تم استبعاد تصورات هؤلاء الأشخاص لأنها تعمل ضد المنهجيّة المتبعة للسلطات التي تحرس الفقر الروحي والمعرفي والمادي للفرد، فكل ما تم ذكره يلخصه ببساطة “أوشو” في كتابه “العافية العاطفية”؛ إذ يرد العاطفة (emotion) إلى (motion) والتي تعني الحركة المستمرة من شيء إلى آخر دون توقف، ما يعني أنّ العواطف في تغير مستمر، وهنا يلتقي مع “كونديرا” في قوله؛ “يحيرنا الإنسان العاطفي في لامبالاته، مباشرةً بعد أن يبهرنا بعواطفه”، فكلما أصبح مُسيطراً على الفرد من قبل أي عاطفة سوف يخسر كل المنطق والإحساس المباشر.
إنّ الحبَّ عند “أوشو” ليس جزءاً من العاطفة كما يعتقد الناس؛ فالعواطف مثل ريح عاتية تترك الإنسان خلفها مشتتاً في الحزن والألم، وهي لن تساعد الفرد في أن يصبح شخصيةً فرديةً متكاملة، ولن تمنحه روحاً ثابتة، إنه سيبقى تماماً مثل حطبةٍ ميتة، تتحرك في المجرى هنا وهناك دون أن ندرك لماذا، فالعواطف برأيه تعمي الإنسان تماماً مثلما تفعل الكحول، بينما الحبُّ هو رؤيا هائلة، وعيٌ، وضوحٌ، وحساسية.
نقلاً عن حفريات