كريتر نت – متابعات
إذا كان المسدّس هو الاختراع الذي ساوى بين الضعيف والقويّ، فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي هي التي وازنت بين الجاهل والمفكّر.
المنصّات الافتراضية منحت “فيالق من الحمقى” حقّ الكلام على ما قال أمبرتو إيكو. لكنّها لم تكتفِ بذلك، بل وهبتهم أيضًا “سيادة” المشهد وحصرية الكلام.
والأخطر، أنّ تأثير هؤلاء تجاوز العالم الافتراضي، ليُصيب عالمنا الواقعي، وينخره نخرًا، كالسوس في الخشب.
يكفي أن نُطالع عناوين الصحف والمواقع الالكترونية كي ندرك أنّ الصحافة صارت مُمغنطة، و”المُتابع” نفسه صار هو المغناطيس الذي يجذبها الى حيث يُريد.
قد لا نستغرب تعليقات مسيئة من حسابٍ خاصٍ هنا، ووهميّ هناك. ولكن أن تستوحي صحف عريقة ومواقع معروفة “عناوينها” من تلك التعليقات، فهذا يُخالف العقل والمنطق!
مغزى هذا الكلام؟ هو باختصار “تراند” ميرفت أمين. قبل يومين، تناقل روّاد السوشيل ميديا صورتها وهي في عزاء المخرج علي عبد الخالق، وراحوا يعلّقون على شكلها من دون مكياج. التفاعل مع الصورة حثّ الصحف إلى تناقلها والتعليق عليها بما يروق للمتابعين ويفتح شهيتهم على القراءة والمشاركة والتعليق.
تبادل الأدوار هنا له مؤشّرات مهمة، إن لم نقل خطيرة. إنه يُحدِثُ حالة تُشبه انقلاب الهرم، حيث تغدو القاعدة هي القمّة.
فمِن الصحافي انتُزعت “حصرية” الخبر. ومن الناقد “سلطة” الرأي. ومن المثقف “سطوة” الكلام. وهذا من شأنه أن يكشف عن حقيقة المجتمع الذي نعيش فيه، نُشكّله ويُشكّلنا.
كأنّ مواقع التواصل جاءت لتستخرج من باطن هذا المجتمع “عقده” وتعرضها على السطح. قد نردّد ذلك رغم اقتناعنا بكلام هيسنارد في كتابه “العالم المريض بالخطأ”: “العقد ليست أشياء غريبة موضوعة في أعماق الكائن بل إنها أنظمة سلوك حاضرة دائما”، بمعنى أنّ هذه “العقد” كانت موجودة وظاهرة وإنما “تعمّمت” أكثر في زمن السوشيل ميديا.
ازدواجية المجتمع
وجه ميرفت أمين الحزين، و”المترهّل” (كما قيل)، هو الصورة الحقيقية، والمنطقية لامرأةٍ في سنّها، والمنسجمة مع طبيعة المناسبة الموجودة فيها. بل إنها الصورة الأجمل عن فنانةٍ متصالحة مع ذاتها، وملتزمة بواجباتها الاجتماعية، ومقتنعة بشكلها الذي ظلّ معادلاً لمعنى الجمال، في كلّ مراحله العمرية.
المتنمرون القابعون خلف شاشاتهم/ متاريسهم، هم المغلوبون واقعًا، والغالبون افتراضًا. يعوّضون عن شعورهم العميق بالدونية عبر إظهار مشاعر الاستعلاء، والأصوب أن نسميها “عقدة” الاستعلاء. يخوضون معاركهم ضدّ كلّ شيء، وكلّ أحد، على أمل تحقيق “انتصاراتٍ” مُشتهاة.
ينتقدون، يشتمون، يحطّمون لعلّهم يرمّمون ذواتهم المدمرة. وفي معظم الأحوال سوف يجدون سببًا للتنمّر. ماذا لو أنّ ميرفت أمين شاركت في العزاء بوجهٍ “مُمكيَج” أو “مُفلتَر”؟ كانت ستتعرّض حتمًا لوابلٍ من الانتقاد، إن بحجة عدم احترامها طقوس العزاء، أو على اعتبارها فنانة “مُتصابية”، على غرار ما حصل مع نجمات أخريات.
وفي حال كانت نجمة أجنبية في مكانها، لاعتبروها مثالاً للطبيعية، مادحين صدقها مع نفسها، واحترامها لسنّها، على غرار ما يُقال عن ميريل ستريب مثلاً. لكنّ المجتمع العربي خبيرٌ بجلد الذات. وليس هذا التذمّر المستمرّ دلالةً على مزاجٍ “نكديّ” فحسب، بل يكشف عن مجتمعٍ مُصاب بالـ”المسنثروبيا” (Misanthropy)، وهو نوع من الاختلال النفسي تتمثّل في معاداة الناس وكراهيتهم.
وإذا كان “كاره البشر” يهرب عادةً من مواجهة الآخرين احتقارًا لهم، بحسب منظور كانط، فإنّه في العالم الافتراضي هو أكثر جسارةً، ومواجهةً، مما عليه في الواقع. وغالبًا ما ربط العلماء بين هذه الحالة وطبيعة الحياة الصعبة التي يعيشها الفرد (الفاشلة، الفارغة، الرتيبة، المنكسرة).
وما ينطبق على الفرد ينطبق أيضًا على المجتمع. ولهذا، فإنّ حالة التنمّر الالكترونية ليست سوى شاشة تعكس هشاشة مجتمعاتنا وفراغها وترهّلها الناتج عن عقودٍ من الصراعات والنكبات والانكسارات.
“الصدمة” تجاه ميرفت أمين ليست جديدة. ما حدث معها اليوم، عاشته نجلاء فتحي قبل بضع سنوات. ومرّ أيضًا على فنانات كثيرات. وهذا إنّ دلّ فعلى صورة أخرى من “التعنيف” المُمَارَس ضد النساء، هنّ المُراقبات منذ الولادة. والمحاصرات دومًا بمعايير مثالية، أخلاقيًا وشكليًا.
فالتقدّم في العمر هو سيرورة طبيعية عند الرجل (وليس المرأة!). الكرش، الصلع، الشيب… كلّها علامات مقبولة اجتماعيًا، ما دامت تخصّ الرجال. بل إنّ أمثلة كثيرة تدعمها إلى حدّ جعلها صفات مرغوبة في بعض الأحيان، كقولهم: “الشيبة هيبة”، و”الرجل من دون كرش لا يساوي قرش”…
وعندما يُحافظ الرجل على “شبابه”، قد يغدو مادةً للتندّر كما هو الحال مع الفنان عمرو دياب. هكذا، يعيش الرجل مُتخفّفًا من “أعباء” كثيرة، لمجرّد أنه رجل.
أمّا المرأة المُلاحقة دومًا بشبح “سنّ اليأس”، فعليها أن تبقى تمثالاً من الشمع، لا تسمن، لا تتعب، لا تشيخ!
ميرفت أمين ما زالت جميلة. ولا تحتاجُ مزيدًا من التجميل. أفكارنا هي الأوْلى بأن نُجمّلها.
المصدر “النهار العربي”