علي نوار
كاتب ومترجم مصري
ترجمة: علي نوار
يُعدّ المرتزقة مفتاحاً أساسياً من أجل فهم سير أحداث التاريخ العالمي؛ فقد كان حضورهم قوياً في مئات الحرب، ولطالما كانوا عنصراً حاسماً في ترجمة النفوذ الاقتصادي والمادي لسطوة عسكرية، وما يزالون موجودين اليوم، لكن بمسمّيات مختلفة، مثل؛ الشركات العسكرية الخاصة للأمن، إلّا أنّ الصورة السائدة عن المرتزقة؛ هي تلك التي ترتبط في الأذهان بالنمط التقليدي للمقاتل الذي يخوض المعارك الحربية مقابل الحصول على المال، والحاضر على وجه الخصوص في قارة إفريقيا.
ظهرت شخصية المرتزق في التاريخ منذ آلاف الأعوام، رغم أنّ أهمية دوره كانت تعتمد كثيراً على الحقبة والسياق المحيط بمجريات الأمور، ومن أولى الوقائع التي أمكن فيها توثيق وجود المرتزقة تبرز خلال الحروب الفارسية اليونانية بين العامين 492 و478 قبل الميلاد، حين تعاقدت الإمبراطورية الفارسية مع مرتزقة يونانيين من أجل غزو إسبرطة، ورغم ضمّهم كجنود من الدرجة السفلى في الترتيب العسكري، إلّا أنّهم كانوا يتميّزون بمهاراتهم القيادية وتقديم المشورة للقوات النظامية، وصولاً إلى شغل مناصب رفيعة في القيادة العليا للجيش؛ بل وحتى الالتحاق بأطقم الحراسات الخاصة للزعماء.
بالمثل؛ كان هناك مرتزقة أثناء الحروب البونية بين إمبراطوريتَي روما وقرطاجة، خاصة في صفوف الجيش القرطاجي الذي كان يضمّ في صفوفه مقاتلين من جميع شواطئ البحر المتوسط، أغلبهم ليبيون وفرنسيون ويونانيون، ومن شبه جزيرة إيبيريا.
وعلى مدار العصور الوسطى؛ كان للمرتزقة دور كبير في الحروب بين الممالك المتناحرة المختلفة، وظهرت أولى الشركات الضخمة للمرتزقة، شركات كانت في بعض الحالات تفوق جيوش الملوك، أو أمراء الإقطاع؛ ففي إيطاليا كان زعماء المرتزقة (كوندوتييري)، مثل الشركة البيضاء، بقيادة الإنجليزي جون هوكوود، أداة عسكرية رئيسة في الحروب بين الدويلات الإيطالية المتنازعة.
وفي شبه جزيرة إيبيريا؛ استند الوجود العربي في جزء منه إلى القوة العسكرية التي تمتّعت بها (الحرس الأسود)، وهي وحدة تشكّلت من المرتزقة والعبيد الوافدين من وسط إفريقيا، أما في إمبراطورية بيزنطية؛ فقد كانت هناك (الشركة الكتالونية الكبرى)، بقيادة الإيطالي الألماني روجر دي فلور، التي اُستعين بها في قتال العثمانيين، وهو مصير “الحرس الفارانجي” نفسه، الذي كان يضمّ مقاتلين إسكندنافيين ينحدرون من شعب الفايكنج.
ويمكن بسهولة ملاحظة أنّ أبرز مميزات المرتزقة؛ سهولة حركتهم على المستوى العالمي، ومثلما هو الحال لدى المرتزقة المعاصرين، كان نظراؤهم السابقون يقدّمون خدماتهم لمن يدفع أكثر، بغضّ النظر عمّا إذا كان ذلك يعني الانخراط في صفوف الطرف الذي كان يقاتلونه من قبل، ولعل الفارس الإسباني، القشتالي رودريجو دياث (إل سيد كامبيادور)؛ هو خير تجسيد لهذا الجانب المتناقض لدى المرتزقة؛ حيث قاتل إلى جوار العرب، وكذلك في صفوف المسيحيين بإسبانيا، خلال القرن الحادي عشر، وسواء كان يقاتل بالقوس والأسهم أو بأحدث الأسلحة، من أجل أباطرة أو شركات خاصة، ستظلّ شخصية المرتزق هي نفسها دوماً على مرّ التاريخ: فالمرتزق لا يقاتل من أجل الأخلاق أو القيم، ولا حتى من أجل أفكار ومعتقدات؛ بل من أجل المال وحده.
ويتضّمن قرار الاستعانة بالمرتزقة مميزات عديدة، لا تقتصر فقط على ميدان المعركة؛ فمن جانب، يعني ذلك تقليص الفترة الزمنية والموارد المالية اللازمة لتدريب الجنود، فالمرتزقة يتمتّعون بالفعل بتأهيل عسكري على أرفع مستوى، وعلى جانب آخر، يمكّن المواطنين العاديين من التركيز على أعمال إنتاجية وتوفير الإمدادات من الموارد خلال زمن الحرب، وهو ما قد يكون عاملاً حاسماً إذا طال أمد المعركة، بيد أنّ المقابل المادي المرتفع الذي يتقاضاه المرتزقة أدّى في أغلب الأحيان إلى أنّهم يتّخذون الجانب الأقوى، أو الذي يحظى بموارد أضخم، وهو ما أسفر عن ظهور حالات الهيمنة المطلقة.
واختصاراً، بوسعنا القول: إنّ هذا بالضبط كان دورهم على مدار التاريخ؛ ترجمة القوة الاقتصادية الهائلة إلى قوة عسكرية كاسحة؛ لذا فإنّ ما قدّمه فيلم “الساموراي السبعة”، عام 1954، والذي يقاتل فيه مرتزقة الساموراي لمساعدة إحدى القرى بلا مقابل يُذكر من هجمات العصابات، لا يعدو سوى كونه محض خيال.
لكنّ أهمية المرتزقة أخذت في التراجع نتيجة صعود نموذج الدول التي تقوم على مبدأ السيادة الوطنية وقصر حقّ استخدام القوة المسلحة على الدولة المركزية وحدها، التي تهتمّ ببناء جيش وطني دائم، وهو شيء يتعارض تماماً مع فكرة المرتزق، وترسّخت هذه العملية أكثر مع اندلاع الثورة الفرنسية، والتي بدأ بعدها أغلب المرتزقة في الاتجاه نحو الالتحاق بالجيوش الوطنية، إلّا أنّ شخصية المرتزقة لم تندثر تماماً، على الرغم من أنّها لن تعاود لعب الدور المهم ذاته حتى الحرب الباردة.
خلال الحرب الباردة؛ رفعت مستعمرات أوروبية كثيرة السلاح من أجل نيل استقلاليتها السياسية والاقتصادية، ورغم أنّ الحكومات الأوروبية انتهى بها الأمر لقبول منح مستعمراتها الاستقلال السياسي، إلّا أنّ ثراء هذه المستعمرات بالموارد، خاصة الإفريقية منها، دفع الدول الأوروبية للتحفّظ في إعطائها الاستقلال الاقتصادي، كما أنّه في خضمّ ذروة الخلاف العالمي مع الاتحاد السوفييتي، لم تكن النخب الغربية مستعدة لمشاهدة ممتلكاتها السابقة تحكمها أنظمة اشتراكية لا تكتفي بتقويض مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية والعسكرية بصورة كبيرة فحسب، بل وأيضاً تجعل ميزان الحرب الباردة يميل لصالح الكفة السوفييتية.
كان كثيرون، وعلى رأسهم وزير الخارجية الأمريكي السابق، هنري كيسينجر، يتخوّفون من صعود الاشتراكية في هذه الدول والذي من شأنه أن يحدث “تأثير دومينو” في باقي أنحاء قارة إفريقيا، ولتلافي وقوع ذلك؛ جرى اتّخاذ جميع الإجراءات اللازمة، بما فيها شراء المرتزقة، وكان هؤلاء في غالبيتهم من العسكريين الأوروبيين المخضرمين، الذين أصبحوا بلا عمل، عقب حقبة إعلان الاستقلال خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وهي الفترة التي شهدت نهاية الحروب الاستعمارية في إفريقيا وآسيا، وبات هؤلاء العسكريون سريعاً محط أنظار الحكومات الإفريقية الوليدة، وكذلك حلفاؤها وأعداؤها، الذين كانوا يرون فيهم أداة ناجزة لتسوية النزاعات القائمة وتعزيز نفوذهم، كان هؤلاء المرتزقة يعرفون طبوغرافية المنطقة جيّداً، ويتوفّرون على معدّات وتأهيل يفوق عدداً كبيراً من الجيوش المحلية.
الكونغو البلجيكية
تأثّرت الكثير من الدول جراء ممارسات المرتزقة، لكن هناك دولة تأتي على رأس القائمة؛ نظراً إلى أهميتها وعدد المرتزقة الذين نشطوا على أراضيها؛ إنّها جمهورية الكونغو الديمقراطية، المستعمرة البلجيكية السابقة؛ ففي أعقاب إعلان استقلالها، عام 1960، شهدت الكونغو قيام حكومة مؤقّتة ذات توجّهات شيوعية بقيادة رئيس الوزراء باتريس لومومبا، وكانت شركة (اتحاد التعدين في كاتانجا العليا) تتحكّم في قدر كبير من ثروات البلاد، وتخشى فقدان ممتلكاتها، لا سيما في منطقة كاتانجا، الأغنى بالثروات في الكونغو وأحد أكبر مناجم النحاس واليورانيوم في العالم، لكنّ الجيش البلجيكي كان قد غادر أراضي البلد الإفريقي فور استقلاله، وحلّ قبل رحيله جانباً كبيراً من الجيش الكونغولي؛ لذا فقد كانت الشركة في حاجة لطلب المساعدة من مكان آخر.
وفي محاولة منها لحماية مصالحها؛ خطّط “اتحاد التعدين في كاتانجا العليا، وبعد شهرين فحسب من استقلال الكونغو، لانتزاع انفصال منطقة كاتانجا عن باقي أراضي البلاد، وهي المحاولة التي قادها الجنرال مواز تشومب؛ بهدف الحفاظ على أعمال الشركة. ولضمان نجاح العملية، تعاقدت الشركة البلجيكية مع كتائب من المرتزقة الذين كانوا يدعمون الجنرال تشومب، ومن بينهم بعض “المرتزقة” الأشهر في القرن العشرين، مثل: بوب دونارد، وجان شرام، ومايكل هوار (ماد مايك)، وكان دونارد قائداً لوحدة مظليين ومرتزقة فرنسيين، بينما كان تحت إمرة الإيرلندي ماد مايك عدد لا بأس به من المرتزقة الجنوب إفريقيين.
بدأ العمل بتدريب الجنود الكونغوليين؛ تمهيداً للدفع بهم في مواجهة تلك المجموعات المعارضة للانفصال، ورغم أنّه لم يكن يتكوّن سوى من 100 مرتزق تقريباً، وحوالي 2000 جندي كونغولي، لكنّ جيش تشومب تمكّن من تحقيق أقصى استفادة من عتاده وتدريبه كي يسيطر، شيئاً فشيئاً على أراض، وقد تسبّبت الفظائع التي ارتكبها المرتزقة في حصولهم على لقب (الرهيبين)، وهو الاسم الذي سيظلّ مرتبطاً باسم دونار طوال حياته.
وجّه لوموموبا عدّة دعوات لمنظمة الأمم المتحدة من أجل إيقاف المذابح الدائرة، لكنّه لم ينجح في وقفها فعلاً إلّا بعد طلبه المساعدة من الاتحاد السوفييتي حينها فقط، وهرع المجتمع الدولي لمساعدته والتدخّل، وخوفاً من التحاق الكونغو نهائياً بالمعسكر السوفييتي، دخلت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” الساحة وخطّطت لانقلاب عسكري نفّذه الجنرال موبوتو سيسي سيكو، قائد الجيش الكونغولي، للإطاحة بلومومبا من السلطة.
كان الأمريكيون والبلجيكيون لديهم المصالح نفسها في المنطقة، منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ لذا لم يكن من الصعب التوصّل لتحالف تكتيكي بينهم، وقد كانت القنبلة النووية الأمريكية التي أٌلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية مُصنّعة من يورانيوم استخرجته (اتحاد التعدين في كاتانجا العليا) من مناجم هذا الإقليم، وفي محاولة لتقريب المواقف مع الانفصاليين، بعث موبوتو بلومومبا إلى كاتانجا؛ حيث أطلق الجنرال تشومب وحلفاؤه النار عليه دون أدنى تردّد.
أدّى مقتل لومومبا إلى اندلاع ثورة في كافة أرجاء البلاد، والتي أُطلق عليها اسم “ثورة سيمبا”، والتي تطّلبت الكثير من العمل بالنسبة للمرتزقة الذين كانوا ينتشرون في نقاط مختلفة من الكونغو- خاصة الكتيبة الخامسة، بقيادة ماد مايك، التي التحقت بالجيش الكونغولي بعد مواجهتها له في السابق.
تقلّد تشومب لاحقاً، عام 1964، منصب رئيس الوزراء، رغم أنّه لم يستمر إلّا عاماً واحداً قبل أن يستأثر موبوتو بالسلطة، واتّضح فيما بعد أنّ العسكريين لم يكونوا وحدهم الذين يتمتّعون بالدعم الخارجي، فقد كان ثوار (سيمبا) أيضاً يحظون بالدعم بواسطة جنود كوبيين، كان يقودهم تشي جيفارا بنفسه، بيد أنّ قوة المرتزقة والجيش كانت أكبر من أن يتمكّن المتمرّدون من مجابهتها، ليقرّروا الاستسلام أخيراً، عام 1967، مع وصول رئيس جديد لسدة الحكم، وقرّر موبوتو طرد المرتزقة خارج الكونغو، وغيّر اسم البلاد إلى زائير، وعمل على خصخصة (اتحاد التعدين في كاتانجا العليا) وظلّ على قمة السلطة حتى 1997، ما سمح له بتكوين واحدة من أضخم ثروات القرن العشرين، وأن يتحوّل لنموذج للديكتاتور الإفريقي.
إفريقيا تسير على خطى الكونغو
بعد الحرب في الكونغو، كان المرتزق الأكثر نشاطاً هو الفرنسي بوب دونار، ضابط الاستخبارات الفرنسية السابق الذي وصل الأمر به لأن يؤكّد خلال محاكمته؛ أنّه “عندما تعجز الاستخبارات عن تنفيذ مهام سرية من نوع خاص، فإنّها تلجأ لهياكل موازية، كانت هذه هي حالة بوب دونار”، لكنّ الفرنسيين لم يكونوا الوحيدين الذين تعاقدوا معه؛ فبعد الخروج من الكونغو، قاتل دونار في اليمن إلى جانب القوات البريطانية من أجل إعادة النظام الملكي إلى الحكم (1962-1967)، كما انخرط دونار في جبهات القتال بدول مثل نيجريا وأنجولا وبنين وتشاد، لكنّ الأثر الأعمق الذي تركه كان في جزر القمر، أسّس دونار في هذه الدولة معسكر التدريب الخاص به، ونفّذ أربع انقلابات، وحكم البلاد من وراء الستار عشرات الأعوام، وأخيراً توفَّى دونار بهدوء، عام 2007، على فراشه بمنزله في بوردو، بعد أن أمضى أربعة أشهر فحسب داخل السجن.
أما ماد مايك؛ فقد آثر التقاعد إثر انتهاء حرب الكونغو، إلّا أنّه عاد لارتداء بزته العسكرية مرة أخرى في أواخر السبعينيات، كي ينفّذ انقلاباً فاشلاً في سيشل، مدفوعاً من قبل حكومة جنوب أفريقيا أثناء حقبة الفصل العنصري (أبارتايد)، وبعد فشل هذا الانقلاب عاد إلى جنوب إفريقيا؛ حيث أتمّ 100 عام من العمر عام 2019، ولا يزال يعيش هناك، قاتل مايك المجنون ودونار من أجل المال، مثلهما في ذلك مثل زملائهم، لكن هناك استثناء وحيداً في القرن العشرين، يستلزم تسليط الضوء عليه ها هنا.
قصة كارلوس الـ (شاكال)
ولد الـ (شاكال)، أو (الثعلب)، باسم إليتش راميريث، كان هذا الفنزويلي، بلا شكّ، المرتزق الأشهر في القرن العشرين، ولعلّ السبب في ذلك؛ هو أنّ قصته لم تكن تقليدية على الإطلاق، فقد نشط خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات؛ حين كان مسؤولاً عن عدد من الاعتداءات وعمليات الاختطاف، لكنّ العنصر المميّز في قصة الثعلب هو أنّه لم يكن مرتزقاً ولا إرهابياً؛ بل “يمتهن الثورة”.
كان والد إليتش عضواً في الحزب الشيوعي الفنزويلي، وشعر منذ صغره بانجذاب نحو النضال المناهض للإمبريالية ضدّ القوى الاستعمارية الأوروبية، خاصّة القضية الفلسطينية، درس في موسكو، وتحديداً بنفس الجامعة التي تخرّج فيها باتريس لومومبا، وعام 1970؛ انضمّ إلى الجناح المسلّح من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي فصيل ماركسي يشكّل جزءاً من منظمة التحرير الفلسطينية إلى جوار تيارات أخرى، مثل حركة فتح، وقد نفّذ لصالحها عدداً من العمليات التي دخلت التاريخ بسبب درجة الاندفاع فيها ومدى التأثير الذي أحدثته.
وتأتي على رأس هذه العمليات؛ واقعة الاختطاف التي شهدتها قمة الدول المنتجة للبترول في العاصمة النمساوية فيينا، عام 1975؛ حين أقدم الثعلب وخمسة رجال آخرين على اختطاف عدد من وزراء عدة دول وشخصيات بارزة في المنظمة لمدة تزيد عن ثلاثة أيام، لم تكن هذه العملية، التي يُعتقد أنّ كلّاً من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحكومة العقيد الليبي الراحل، معمر القذافي، وحركة فتح، يقفون وراء التخطيط لها، عشوائية على الإطلاق؛ حيث نجح الخاطفون في الهروب مع رهائنهم على متن طائرة وتركوهم قبل دفع الفدية المطلوبة في دول مناصرة للقضية الفلسطينية، كانت هذه العملية ومهمات وعمليات اختطاف وإرهاب أخرى تستهدف تمويل المنظمة ومهاجمة الأهداف الإستراتيجية بهدف الضغط على الحكومات الأجنبية كي تقبل طلبات الجبهة الفلسطينية وحلفائها.
لكن، وفي عام 1976؛ قرّر الثعلب ترك الجبهة الفلسطينية؛ بسبب الخلافات الداخلية التي بدأت تضرب المنظمة، ليؤسّس برفقة خمسة أشخاص آخرين (منظمة الثوريين العالميين)، وكانت هذه المنظمة تهتمّ بتوفير الدعم العسكري لأيّ نضال ترى أنّه ثوري، واستهلّت عملياتها بالتعاون مع (جماعة الجيش الأحمر)، التي كانت تحمل في بداياتها اسم “بادر ماينهوف)، في ألمانيا الغربية، والتي شنّت عدة هجمات في البلاد، خلال الفترة بين عامَي 1970 و1990، ويمكن القول إنّ جماعة الجيش الأحمر كانت في واقع الأمر وحدة من المرتزقة اليساريين.
لكنّ منظمة “الثوريين العالميين”، لم تذهب بعيداً، لا سيما مع فقدان الثعلب لدعم حلفائه القدامى، ومع شعوره بأنّه كوّن عداوات كثيرة، اختفى الشاكال لفترة طويلة من الوقت تنقّل خلالها بين دول مثل سوريا والسودان؛ حيث أُلقي القبض عليه أخيراً من قبل السلطات الفرنسية، عام 1994، ورغم أنّ الدوافع وراء عملياته كانت أيديولوجية بالأساس، لكنّ الفنزويلي لم يكن يقوم بها مجاناً بكلّ تأكيد، فقد تبيّن تقاضيه مبالغ مالية هائلة مقابلها، كان الثعلب الفنزويلي مرتزقاً ربما، لكنّه يختلف عن البقية.
نشاط المرتزقة بين السبعينيات والثمانينيات
أدّت الكفاءة التي أظهرها المرتزقة خلال حرب الكونغو إلى رفع أسهمهم، الأمر الذي نتج عنه حتى ظهور وكالات متخصّصة في التعاقد معهم، والتي تعُد نواة فكرة الشركات العسكرية الخاصة للأمن في الوقت الحالي، مثل شركة “سيكيورتي أدفايزوري سرفيسز” البريطانية، التي أرسلت مئات المرتزقة إلى حربَي أنجولا وروديسيا، ولعب المرتزقة دوراً كبيراً في أنجولا، خلال المرحلة الأولى من الحرب؛ فبعد الاستقلال، عام 1975، تنازعت ثلاث جبهات السيطرة في البلد الإفريقي، بعد أن كانت متّحدة في السابق أمام المحتل البرتغالي؛ وكان الصراع على أشدّه بين الحركة الشعبية لتحرير أنجولا ذات التوجّهات الماركسية اللينينية، وحركة الاتحاد الوطني من أجل الاستقلال الشامل لأنجولا والجبهة الوطنية لتحرير أنجولا ذات الأفكار الرأسمالية والمعادية للشيوعية.
ولدى وصول الحركة الشعبية لتحرير أنجولا إلى السلطة، رأت كيف رفعت المنظمتان الأخريان السلاح في وجه حكومتها، فلجأت الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا، المدعومة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية إلى زائير التي يتعيّن على رئيسها، موبوتو، ردّ الدين نظير المساعدة التي تلقّاها مسبقاً، بينما انتقل الاتحاد الوطني من أجل الاستقلال الشامل لأنجولا إلى الشطر الجنوبي من البلاد، لتندلع حرب أهلية دامت 30 عاماً (1975-2002)، كما قاد بوب دونار، الذي عمل لصالح “سي آي إيه” وحدة من مرتزقة الاتحاد الوطني من أجل الاستقلال الشامل لأنجولا، فيما دعّمت فرقة أخرى بقيادة العقيد كالان، وهو مرتزق بريطاني من أصول قبرصية، الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا.
أٌلقي القبض على كالان، برفقة 12 مرتزقاً آخرين، وصدر بحقّه حكم بالإعدام، خلال ما تُعرف باسم (محاكمات لواندا) التي كان لها صدى عالمي وقتذاك؛ نظراً إلى أنّها كانت المرة الأولى التي تحاكم فيها حكومة إفريقية مرتزقة عالميين.
وبرّر رئيس أنجولا، المنتمي للحركة الشعبية لتحرير أنجولا، أجوستينيو نيتو، هذا الحكم؛ بأنّه “يصبّ في صالح جميع شعوب العالم ضدّ الأشخاص الذين تستعين بهم القوى الإمبريالية لتنفيذ اعتداءات مرتزقة جديدة”.
كان نيتو، بالتأكيد، يقصد النزاع الذي كانت تعاني منه ناميبيا في الفترة نفسها؛ وهو الصراع المرتبط بشكل وطيد بالحرب في أنجولا، وكذلك روديسيا الجنوبية، أو زيمبابوي الحالية؛ حيث نشط مرتزقة مشهورون آخرون، مثل الأمريكي روبرت ماكينزي، أو تدخّلات المرتزقة في دول مثل بنين وأوغندا وتوجو وغينيا الاستوائية، وفي السياق نفسه؛ تبرز الحرب الأهلية في نيجيريا، بين عامَي 1967 و1970؛ بسبب الدموية الشديدة التي اتّسمت بها؛ حيث راح ضحيّتها مليونا قتيل، وعدد من المرتزقة الذين انخرطوا فيها، والذين قاتلوا إلى جانب قوات إقليم بيافرا، والذين أرسلت فرنسا السواد الأعظم منهم.
تركت هذه الحروب جروحاً لا تندمل في البلاد التي عانت ويلاتها، جراحاً غيّرت للأبد المسار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لهذه الدول.
يحيط بشخصية المرتزقة في القرن العشرين قدر هائل من الجدل، وهناك كمّ لا بأس به من الأساطير، رغم أنّ كلّ ذلك لا ينفي الدور الحاسم الذي لعبوه؛ فقد كان المرتزقة أداة رئيسة لضمان أن يكون الوضع القائم بعد استقلال المستعمرات القديمة متوافقاً مع المصالح الغربية، وهو ما نعرّفه اليوم بالكولونيالية الجديدة، وحتى في النزاعات التي لم ينتصر فيها المرتزقة، مثل أنجولا وزيمبابوي، حالت الخسائر والتضحيات الجسيمة التي تعرّض لها أعداؤهم دون تمكينهم من السيطرة الكاملة ليضطّروا للاستجابة للكثير من المطالب الغربية.
كانت لذلك الوضع تبعاته المباشرة على الحرب الباردة، التي لم تكن “باردة” للغاية في إفريقيا؛ فمع إجهاض تطلّعات بعض الدول نحو النموذج الاشتراكي في حروب الاستقلال، تسنّى كذلك انضمامها للكتلة السوفييتية؛ ففي حال حدوث عكس ذلك، كان مسار التاريخ ليتغيّر على نحو جذري تماماً: فمن يعلم ما كان ليحدث إذا حصل الاتحاد السوفييتي على الدعم الكافي لمنع انهياره عام 1989، أو حتى توفّره على قوات كافية لإلحاق الهزيمة بالكتلة الغربية.
إنّ الدور الإستراتيجي للمرتزقة يكمن في أنّه رغم عدم تجاوز أعدادهم لبضع مئات من الأفراد، لكنّهم تمكّنوا من تغيير شكل التاريخ العالمي للأبد.
المصدر:
مقال عن المرتزقة ودورهم على مرّ التاريخ في النزاعات التي خاضوها، للباحث لويس مارتينيث، نشر بموقع مؤسسة (الأوردن مونديال) الإسبانية للأبحاث
رابط: https://bit.ly/2P4NK4f