هند سليمان
صحفية مصرية
في خضم جدل محتدم في الأوساط التونسية حول الاقتصاد الداخلي لحركة النهضة وعلاقاته المتشابكة والمتشعبة، والتي تقارن في بعض الأحيان قوتها بقوة اقتصادات الدول، أصدر مركز “تريندز” للبحوث والاستشارات دراسة بحثية جديدة ترصد مصادر تمويل حركة النهضة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين في تونس، في إطار منهج التمكين الذي حكمت من خلاله على مدى (10) أعوام، وتداعيات ذلك على الوضع الداخلي للحركة، على مستوى التنظيم وعلى مستوى طبيعة القاعدة الاجتماعية.
بلوغ التمكين
يُعدّ “التمكين” المشروع الإستراتيجي لجماعة الإخوان المسلمين، ويتكون من أضلاع مختلفة؛ تتمثل في التمكين السياسي، والتمكين الأمني، والتمكين الاجتماعي، والتمكين الاقتصادي، حيث تحاول الجماعة استغلاله خلال مرحلة “المغالبة”، وهي المرحلة التي تسبق التمكين النهائي، في السيطرة على الثروة بموازاة سعيها للوصول إلى السلطة، عبر السيطرة على عملية تنظيم الاقتصاد في الدولة والمجتمع، على حدّ قول الباحث معد الدراسة أحمد نظيف.
وأشار الباحث التونسي المختص في حركات الإسلام السياسي إلى أنّ القيادي الإخواني علي الصلابي وضع في كتابه “فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم” هذا النوع من التمكين ضمن الأسباب المادية لبلوغ التمكين النهائي للمشروع الإسلاموي وأحد فروع الصراع الرئيسية “المغالبة”، بل يذهب إلى اعتبار “الهيمنة على الاقتصاد فيه جهاد عظيم”، وأنّ الحركات الإسلامية التي تسعى لتقوية جوانبها الاقتصادية والمالية وتوظيفها في الدعوة قد “أخذت بسبب من أسباب التمكين المادي”، غير أنّ “التمكين الاقتصادي” قد يأخذ أشكالاً ويتبع مناهج مختلفة في كل مرحلة تاريخية من مراحل تطور الحركة الإسلاموية، وفقاً للسياقات السياسية والاجتماعية التي تتحرك فيها.
ووفقاً للباحث في الدراسة التي حملت عنوان “الاقتصاد السياسي للحركة الإسلاموية.. الإخوان في تونس ومشروع التمكين الاقتصادي”، لم تستقر جماعة الإخوان المسلمين، منذ تأسيسها، على نهج اقتصادي محدد المعالم والتوجه، باستثناء بعض الملامح الغائمة وغير الواضحة حول “الاقتصاد الإسلامي”، والمقتصرة أساساً على أنماط التمويل ولا تعالج بقية فروع الاقتصاد الكلي للدولة، في المقابل شهدت الأطروحات الاقتصادية الإخوانية تحولاً جذرياً منذ ستينيات القرن الماضي حتى اليوم، حكمتها أساساً الأطروحات الاقتصادية المهيمنة عالمياً وعربياً.
وفي تلك الفترة، ظهرت أدبيات إخوانية ذات عداء جذري للرأسمالية وميل واضح للاشتراكية، باعتبارها أقرب إلى الوجه الإسلامي، مثل كتاب سيد قطب “معركة الإسلام والرأسمالية” (1952)، على حدّ قول نظيف، الذي أشار إلى أنّه “وبرغم أنّ قطب في ذلك الوقت لم يكن إخوانياً، فإنّ الكتاب أصبح من المراجع الاقتصادية للإسلاموية لاحقاً”، كما ظهر كتاب “اشتراكية الإسلام” لزعيم جماعة الإخوان المسلمين في سوريا مصطفى السباعي (1959)، وقبله كتاب الشيخ محمد الغزالي “الإسلام والمناهج الاشتراكية” 1947.
قبول الرأسمالية
لاحقاً وبعد أفول الناصرية في مصر ودخول أغلب الاقتصادات العربية في مرحلة الانفتاح الرأسمالي خلال السبعينيات، وما رافقه من طفرة نفطية في الخليج العربي، أصبح الطرح الاقتصادي الإخواني يتجه شيئاً فشيئاً نحو قبول النموذج الرأسمالي والليبرالية الاقتصادية، بحسب الباحث التونسي.
وقد سجل الشيخ الغزالي في مقدمة طبعة جديدة من كتابه “الإسلام والمناهج الاشتراكية”، نشرت بعد أعوام، ندمه الشديد لاستعمال مصطلح “اشتراكية”، في تعبير رمزي عن نهاية مرحلة المواءمة بين الإسلاموية والاشتراكية، على حدّ وصف نظيف، الذي قال إنّ الطرح الاقتصادي الأساسي للجماعة الإخوانية منذ نهاية الثمانينيات استقر على قبول آليات نظام اقتصاد السوق وخصخصة الاقتصاد، مدفوعاً باستناد الجماعة للمرجعية الفقهية التي تقرّ مبدأ المبادرة الحرة وتشجع على التجارة، وإدراك الجماعة أنّ سيطرة النظم السياسية على الثروة تشكل أحد أهم أسباب قوتها وسيطرتها على السلطة، وبالتالي لا يمكن إيجاد أيّ مجال للعمل السياسي في حال بقيت الأنظمة مسيطرة على السلطة والثروة معاً، وأنّ أيّ مسار لتحرير السياسة يقتضي بالضرورة مساراً موازياً للّيبرالية الاقتصادية؛ ولذلك حاولت الاستفادة من سياسات خصخصة الاقتصاد التي جرت في عدد من الدول العربية، بداية من تسعينيات القرن الماضي.
نقلة نوعية
شهد نمط التمكين الاقتصادي المنشود لدى جماعة الإخوان المسلمين نقلة نوعية ساهمت في تحول الجماعة من نموذج الاشتراكية والعدالة الاجتماعية نحو الرأسمالية والملكية الفردية، حصلت في بداية القرن الـ 21 في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وفقاً للباحث التونسي، الذي قال إنّ تلك النقلة حدثت بدفع خارجي من الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تعيش سياقاً واسعاً من الحرب على الإرهاب، وتريد “بناء شبكات إسلامية معتدلة” لمجابهة التيارات الجهادية في المنطقة، وقد وجدت ضالتها في جماعة الإخوان المسلمين، اعتقاداً منها أنّها تملك قاعدة اجتماعية واسعة ومنهجاً سياسياً مرناً يمكن تعديله بما يتوافق مع هذه الإستراتيجية.
ووفقاً لنظيف، فإنّ ذلك السعي الأمريكي لم يكن ضمن سياق تآمري، أو سرّي، فقد نشرت مراكز أبحاث أمريكية نافذة هذا النهج الجديد في دراسات معمقة وضعت شروطاً دقيقة للشريك السياسي، من بينها أن “يلتزم بالأبعاد الأساسية للثقافة الديمقراطية الليبرالية”، وعلى رأس هذه الأبعاد البعد الاقتصادي.
الطرح الأمريكي كان يقوم على استيعاب الإسلاموية من خلال إعادة إدماجها، سياسياً واقتصادياً، على حدّ قول نظيف، الذي أوضح أنّ النموذج التركي الإسلاموي برز في تلك الفترة بوصفه حالة نموذجية لهذا الشريك، في جمعه بين “الإسلاموية والليبرالية”، والذي شكَّل لاحقاً مثالاً لأغلب الحركات والجماعات، ثم توالت التحولات التي طالت أغلب الحركات الإسلاموية الإخوانية في مصر وتونس والمغرب؛ كي تتواءم مع الإستراتيجية الأمريكية الجديدة، لذلك أخذت محاولات “التمكين الاقتصادي” لهذه الحركات، لاحقاً عندما وصلت إلى السلطة، طابعاً رأسمالياً ليبرالياً، يقوم أساساً على التقليص من تدخل الدولة في الاقتصاد وتوسيع النفوذ الاقتصادي للقاعدة الاجتماعية الإسلاموية لتشكيل طبقة مسيطرة جديدة، تأخذ مكان الطبقة المسيطرة في النظم السياسية التي سقطت في أعقاب الثورات العربية، ولا سيّما في تونس ومصر.
سلوك النهضة الـ “استحواذي”
بعد انتخابات 2011، التي أوصلت حركة النهضة إلى السلطة، شرع الإسلاميون التونسيون في انتهاج سلوك سياسي يمكن وصفه بــ “الاستحواذي” تجاه الدولة والمجتمع، مدفوعين بالمساندة الشعبية والدولية وضعف قوى المعارضة الديمقراطية واليسارية، وفقاً للباحث التونسي، الذي أشار إلى أنّ النهضة دخلت بين عامي 2011 و2013 في حالة من الاشتباك الواسع مع طيف واسع من الخصوم؛ منها: المعارضة اليسارية، والمركزية النقابية ممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل، وقوى النظام القديم كشبكات رجال الأعمال والنخب، وجزء كبير من الجهاز البيروقراطي للدولة.
وأوضح نظيف أنّ هذا الصراع هو “ترجمة واضحة لما يسميه الصلابي في خريطة مشروع التمكين بمرحلة *المغالبة*، التي يطلق عليها زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي حالة التدافع الاجتماعي، وهي مجموع العمليات والجهود التي تقوم بها الحركة الإسلاموية لإخضاع الدولة والمجال العام، ومن فروعها إخضاع المجال الاقتصادي”.
أزمة عامة
اختلف منهج حركة النهضة في “التمكين الاقتصادي” بعد انتخابات 2014، ولا سيّما بعد “الأزمة العامة” التي دخلت فيها جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة العربية بعد 30 حزيران (يونيو) في مصر وخروج الجماعة من السلطة، وتحول الثورة السورية إلى حرب أهلية، ودخول ليبيا في حالة من الاقتتال الأهلي بين المجموعات الإسلاموية والجيش، على حدّ تعبير الباحث التونسي.
بيد أنّ نهج حركة النهضة في مسار التمكين، برغم هذه التحولات السياسية والسياقات قبل عام 2014 وبعده، ارتكز على (3) آليات رئيسية؛ أولها السيطرة على جهاز الدولة أو بالأحرى التغلغل في مفاصل الدولة التونسية والتحول من المغالبة إلى التوافق، حيث كانت قيادة حركة النهضة منذ بلوغها السلطة واعية لأهمية جهاز الدولة، بوصفه الأداة الرئيسية لأيّ عملية “تمكين”، سياسية أو اقتصادية؛ بسبب قوة الشرعية التي تملكها الدولة في إدارة المجال والسكان وكذلك قدرتها الواسعة في تنظيم المجتمع وتالياً السيطرة على الثروة؛ لكونها أوّلاً أحد أكبر ملاك الأصول وأكبر مستهلك (الإنفاق العام)، وثانياً لامتلاكها الجهاز الذي ينظم إدارة الثروة في المجتمع من خلال التشريعات والنظم والقوانين والضرائب، بحسب نظيف.
وقال نظيف: “لذلك، دخلت حركة النهضة في نهج الاستحواذ على جهاز الدولة، وذلك من خلال عمليات توظيف واسعة لمحاسيب الحركة وأنصارها، فيما عُرف آنذاك بـ*تغوُّل الحركة داخل مؤسسات الدولة*، الذي اعترف به الرئيس التونسي منصف المرزوقي، عندما اتُّهمت حركة النهضة بالقيام بتعيينات داخل مؤسسات الدولة حسب الولاء السياسي لها، بكفاءة أو بدون كفاءة، في محاولة للسيطرة على دواليب الدولة”.
وتابع: “وكذلك من خلال عمليات الإعفاء من الوظائف المدنية والأمنية والإحالة على التقاعد المبكر لقطاع واسع من موظفي الخدمة المدنية والجهاز الأمني، من ذوي التوجهات المناهضة لحركة النهضة أو المحايدة سياسياً.
أمّا بعد انتخابات 2014 ودخول الحركة في سياسة التوافق مع حركة نداء تونس، بقيادة الباجي قائد السبسي، فقد دخلت الحركة في مسلك آخر للوجود داخل جهاز الدولة، وذلك باقتسام السلطة مع قائد السبسي وحزبه، والذي تحول لاحقاً إلى بناء مصالح مشتركة سياسية واقتصادية برزت في تقارب بين الشبكات الاقتصادية الداعمة للسبسي والشبكات الداعمة لحركة النهضة، وقد مثل كلٌّ من: قطب الإعلام نبيل القروي المتهم بقضايا فساد، ورجل الأعمال شفيق جراية المسجون حالياً بتهم الفساد، ورجل الأعمال سليم الرياحي المتهم بقضايا فساد، نماذج لهذا الشكل من التقارب، فقد كانوا داعمين للنهضة ولقائد السبسي في الوقت نفسه.”
نزع الملكية مقابل الحرية
الآلية الثانية التي اشتغلت من خلالها حركة النهضة للسيطرة على المجال الاقتصادي في إطار مشروع التمكين هي السيطرة على طبقة رجال الأعمال، من خلال سيطرتها على الجهاز القضائي بعد انتخابات 2011، في شخص وزير العدل والقيادي في الحركة نور الدين البحيري، الذي قام بتغييرات جذرية طالت جزءاً مهماً من القضاة، حيث أمسكت الحركة بقوة بعد ثورة 2011 “ملف محاسبة رجال الأعمال” في عهد زين العابدين بن علي، لكنّ هذه المحاسبة لم تخضع لأيّ مقاييس قانونية، بقدر ما خضعت لمشروع الحركة في السيطرة على المجال الاقتصادي، على حدّ تعبير الباحث التونسي.
وفي هذا السياق، دخل عشرات رجال الأعمال في مسار “المساومة” مع قيادة الحركة حول قضايا الفساد مقابل الدعم المادي للحركة أو التخلي عن جزء من أصولهم لفائدتها، في نموذج للتراكم قائم “على نزع الملكية” مقابل الحرية، وفقاً لنظيف الذي أشار إلى أنّه “في المقابل رفض قطاع واسع من هؤلاء نهج المساومة، واضطروا للدخول إلى السجن، وبعضهم مات داخل السجن في ظروف غامضة”.
“المصالحة الاقتصادية”
لاحقاً دافعت الحركة الإخوانية بقوة عن قانون “المصالحة الاقتصادية”، الذي يعفي رجال الأعمال المتورطين في الفساد من المحاسبة مقابل ضخ أموال في مشاريع عامة، بعد التحالف مع حركة نداء تونس، في إطار حمايتهما لفئة رجال الأعمال الداعمين لهذا التحالف، وفقاً لنظيف، الذي كشف أنّه رغم ذلك ظلت سياسات الحركة الإسلاموية إلى حدود 2016 قاصرةً عن السيطرة التامة على طبقة رجال الأعمال، والسيطرة على النخب بصفة عامة، وقد أشارت اللائحة التقييمية التي نشرتها الحركة في مؤتمرها عام 2016 إلى أنّ “المنهج الذي اعتمدته لم يتسع للوصول إلى النخب، وهم: “المثقفون، والجامعيون، والإعلاميون، والنقابيون، ورجال الأعمال”، والتواصل معهم بخطاب ومضمون مناسبين، وأنّ وعي الحركة ما يزال ضعيفاً بأهمية النخب الماسكة بعملية التوجيه في البلاد وحجم تأثيرها في القرار داخل السلطة، وبدورها الخطير في صناعة وتشكيل الرأي العام”.
آلية “كمبرادور”
ينتمي مفهوم “كمبرادور” إلى معجم الاقتصاد السياسي الماركسي في طبعته الماوية، ويعني الطبقة الاجتماعية الخاضعة غالباً لرأس المال الأجنبي، أو التي تستمد مركزها المهيمن من الخارج.
وبحسب الباحث التونسي، يمكن أن يكون هذا المصطلح توصيفاً دقيقاً للنهج الاقتصادي الذي سلكته حركة النهضة خلال حكمها للبلاد، من خلال محاولة ربط الاقتصاد التونسي بحلفائها في الخارج، ولا سيّما تركيا، القوة الاقتصادية الصاعدة، لكنّه ليس ربطاً قائماً على دعم الإنتاج المحلي الموجه للتصدير، كما كان الحال في عهد زين العابدين بن علي، وإنّما من خلال فتح السوق المحلية للواردات التركية، وتعطيل قوى الإنتاج المحلي.
وقد استغلت حركة النهضة سيطرتها على جهاز الدولة في رفض مراجعة اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وتونس، تسمح بإعفاء جميع المنتجات الصناعية من الرسوم الجمركية، كما تقضي أيضاً بإعفاء بعض المنتجات الزراعية من هذه المعاليم إلى حدود سقف معيّن، وقد جاء الغبن فيها على الجانب التونسي بسبب ضعف المنافسة وتفكك البنية التحتية الصناعية؛ بسبب الوضع السياسي غير المستقر بعد 2011، على حدّ قول نظيف.
وتأكيداً على هذا النهج، كشف وزير مكافحة الفساد السابق محمد عبو، الذي كان شريكاً لـ “حركة النهضة” في حكومة إلياس الفخفاخ (2020) في مقابلة صحفية في كانون الأول (ديسمبر) 2020 أنّ “سفيراً اشتكى له من أنّ أحداً من المستثمرين الأجانب لا يستطيع الاستثمار في تونس إلا عندما يكون له شريك تركي”.
وهذا الربط يكشف مدى عمق الروابط الإيديولوجية بين الإسلاميين في العالم على حساب الروابط الوطنية والقومية، رغم اختلاف السياقات السياسية والجيوسياسية، وفق نظيف، الذي قال: إنّ تلك الآليات الـ3، التي استندت إليها الحركة الإخوانية التونسية في عملية التمكين الاقتصادي، “فشلت نسبياً”، شأنها شأن مشروع التمكين عموماً، لأسباب تتعلق بالواقع الموضوعي المضاد للحركة، خاصة داخل فضاء النخب السائدة ذات التوجه الرافض للإسلام السياسي، وأسباب تتعلق بالأوضاع الذاتية الداخلية للحركة من فقر نخبوي وغياب كوادر مؤهلة للقيام بهذا المشروع، وحالة الانقسام المديد التي تعيشها منذ أعوام بين أجنحة متصارعة على القيادة، منقسمة على أكثر من محور فئوي وفكري وسياسي وجهوي.
اقتصاد النهضة الداخلي
يبدو من الصعب تحديد حجم الاقتصاد الداخلي للحركة الإسلاموية في تونس من خلال أرقام دقيقة، شأنها في ذلك شأن بقية الحركات الإسلاموية، ذلك أنّ هذا الملف يُعتبر ضمن “أسرار” الحركة، التي حافظت عليها لعقود، على حدّ تعبير الباحث التونسي، الذي حاول رسم ملامح هذا “الاقتصاد الصغير” لحركة النهضة عبر بعض المؤشرات، مع رصد تأثيراته على طبيعة القاعدة الاجتماعية للحركة وطبيعة الفاعلين الجدد داخلها.
وفي محاولة لرصد روافد تمويل الحركة، أشار نظيف إلى أنّ النهضة في 2018 أعلنت للمرة الأولى عن ميزانيتها العامة التي قدّرت بحوالي (6) ملايين دينار؛ أي ما يعادل (3) ملايين دولار، وقالت حينها إنّها قادمة من (3) مصادر؛ هي اشتراكات الأعضاء السنوية، والتبرعات العينية، والتبرعات النقدية، غير أنّ هذه الميزانية لا تتوافق مع حجم نشاطات الحركة السياسية والامتداد الواسع لمكاتبها في جميع المدن والقرى.
وما يزيد من حدة التشكيك في هذه الأرقام هو ما كشفه تقرير محكمة المحاسبات في عام 2019 حول تبرعات لحركة النهضة بين عامي 2016 و2018 تثبت وجود إيصالات تبرع تضمنت هويات وأرقام بطاقات لـ (68) متبرعاً، تبين أنّهم متوفون عند تاريخ تسجيل التبرعات، على حدّ قول نظيف، الذي أشار إلى تقرير آخر لمحكمة المحاسبات ـ وهي أعلى جهة رقابية في تونس- يكشف عن جزء مهم من الروافد المالية للحركة، وهو الرافد الخارجي، حيث كشف تقرير المحكمة في 2020 بشأن تعاقدها مع شركة ضغط أمريكية لتحسين صورتها بين عامي 2014 و2019، مقابل مبلغ يزيد على ربع مليون دولار، دُفعت في الخارج، ضمن ما يُعرف إعلامياً بـ”عقود اللوبينيغ”.
وبعد ذلك التاريخ تعاقدت الحركة مع أكثر من شركة ضغط في الخارج، وقامت بإجراء الدفع من الخارج، لأنّ القانون التونسي يمنع تمويل حملات ضغط من الخارج، ممّا يكشف عن أنّ الرافد الأساسي لتمويل الحركة هو رأسمالها المهاجر في الخارج وخاصة في أوروبا، والذي قضت أعواماً طويلة لبنائه خلال أعوام المنفى الطويلة (1991 ـ 2011).
أمّا الرافد الثاني الأهم، فهو شبكات المجتمع المدني التابعة للحركة أو القريبة منها، التي شكلت جسراً للتمويل الأجنبي لتخطي العوائق القانونية التي يفرضها قانون الأحزاب في منع تمويل الأحزاب السياسية من الخارج، بحسب نظيف، الذي أشار إلى تنوع التمويلات الأجنبية المرصودة لهذه الشبكة الواسعة من الجمعيات ذات النفع العام قانونياً، من جهات التمويل الأوروبي والأمريكي، وتمويل أكبر من قطر موجَّه أساساً لقطاع الجمعيات الخيرية.
وكشفت محكمة المحاسبة أنّ وزارة الشؤون الخارجية التونسية لا تتوفر على بيانات بخصوص التمويلات التي تحصلت عليها الجمعيات في إطار اتفاقيات التعاون الدولي التي تولت الوزارة إبرامها، على غرار المشاريع الممولة من الجمهورية التركية ومن دولة قطر، وفقاً للدراسة.
المصدر حفريات