الحبيب الأسود
دخلت ليبيا مرحلة جديدة من التجاذبات التي تكرّس حالة الانقسام السياسي والاجتماعي بعد توقيع حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة على مذكرتي تفاهم بشأن الغاز والطاقة مع الحكومة التركية، وعلى اتفاقية بشأن الهيدروكربونات على أساس مذكرة التفاهم التركية الليبية لعام 2019 بشأن تحديد مناطق الاختصاص البحري في البحر المتوسط.
حاول الدبيبة وأبواق مفتي الإرهاب الصادق الغرياني ومن والاه من عناصر اللوبي التركي المهيمن تبرير قرار التوقيع، محاولين إقناع الرأي العام الداخلي بأن الأمر يتعلق بقضية وطنية وبمسعى لتحصين ثروة كادت تضيع لولا أن كانت مبادرة رئيس المجلس الرئاسي السابق فائز السراج بالذهاب إلى الباب العالي، والتوقيع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مذكرتي التفاهم في سياق نزاعين كانا يهيمنان على الأحداث الإقليمية آنذاك، وهما حرب طرابلس والتجاذبات حول غاز شرق المتوسط، في ظل التحالف بين دول ذات علاقات متأزمة مع أنقرة، وهي مصر واليونان وقبرص التي أعلنت رفضها التام للتوقيع على مذكرتي التفاهم في طرابلس في الثالث من أكتوبر الجاري.
خطوة الدبيبة لم تأت من فراغ، وإنما من ضمن النقاط الرئيسية لخطته التي أعدها مستشاروه والمستفيدون من بقائه، والتي تعتمد على إعادة خلط الأوراق من جديد بشكل يحول دون الوصول إلى اتفاق يأتي بحكومة كفاءات مستقلة لإدارة مرحلة الإعداد للانتخابات، وقطع الطريق أمام أيّ مخرجات قد تنتج عن تطبيع العلاقات بين مجلس النواب والدوحة وأنقرة، ولاسيما بعد زيارتي رئيسه عقيلة صالح إلى العاصمتين واستقباله من قبل الرئيس التركي وأمير قطر، بالإضافة إلى اللعب على حبال التجاذبات الإقليمية وتجييش تيار الإسلام السياسي لدعم الحكومة المنتهية ولايتها، والنظر إليها كسلطة شرعية تواجه مؤامرات داخلية يقودها البرلمان وقيادة الجيش وحكومة فتحي باشاغا، تنفيذا لمشروع إقليمي متخيّل تقوده القاهرة التي يعتقد الدبيبة أنها لن تجد من يناصرها في مواجهة صبيانيات حكومته وبسط النفوذ التركي على غرب ليبيا، خصوصا بعد مصالحة أنقرة مع أبوظبي والرياض.
يتحدث الدبيبة عن رغبته في التعجيل بتنظيم الانتخابات، وقبل أيام دعا الهيئة العليا المستقلة إلى دعوة الناخبين، رغم أن ذلك ليس من صلاحياته. لا يكف الرجل عن حركاته الاستعراضية التي يحاول من خلالها إقناع المجتمع الدولي بأنه الأحرص على فسح المجال أمام ثلاثة ملايين ليبي للاتجاه نحو صناديق الاقتراع، لكنه في الواقع لا يريد انتخابات تهدد سلطته التي يعتبرها غنيمة، وإذا تم التوافق دوليا على تنظيم الاستحقاق فمن الأفضل بالنسبة إلى الدبيبة أن تجرى تحت غطاء الانقسام الحكومي والسياسي بما يتيح فرصة التشكيك في نتائجها ورفض الاعتراف بها وبأيّ سلطة قد تنتج عنها.
حكومة الدبيبة أعلنت المواجهة السياسية مع مصر منذ فترة، وهي اليوم تبدي نوعا من الاستهانة بالقاهرة. ومن تابع التصريحات الصادرة عن تلك الحكومة بعد التوقيع على مذكرتي التفاهم مع تركيا، يدرك أن رئيسها وداعميه الأساسيين من الإسلاميين وأمراء الحرب وشبكة النافذين ماليا واقتصاديا المرتبطين بأنقرة والمقربين من الجزائر والمستفيدين من المرحلة، يعملون على تكريس حرب المواقع والتنافس الإقليمي والدولي على النفوذ في ليبيا، وربط المنطقة الشرقية بمصر واعتبارها خاضعة لحكم العسكر الموالي لروسيا، والمنطقة الغربية بتركيا وتصويرها كنموذج للدولة المدنية المفتوحة على رياح الديمقراطية الغربية.
بخروجه عن نص الاتفاق، وبتجاهله لوضع حكومته الفاقدة لثقة البرلمان، وبتحدّيه لأغلب الليبيين، كان الدبيبة يراهن على الحليف التركي أكثر من أيّ طرف آخر، ولاسيما بعد إشارة من واشنطن بعدم الرضا عن فساد حكومته، وكذلك بعد حديث مسؤولين أميركيين عن الاتجاه نحو تنفيذ خطة جديدة لتقسيم إيرادات النفط بين الفرقاء الليبيين، بشكل لا يختلف عن برنامج “النفط مقابل الغذاء”، وبعد تعيين مبعوث أممي جديد، كان الدبيبة قد رفضه علنا، من قبل الأمين العام للأمين المتحدة. يضاف إلى ذلك ما تم الحديث عنه من إمكانية حصول توافق إقليمي على تشكيل حكومة تكون قادرة على توحيد الليبيين تحت خيمة الاستحقاق الانتخابي وإنهاء حالة الانقسام بين حكومتي الدبيبة وباشاغا.
الرهان على الجانب التركي جاء كذلك مرتبطا بحالة التصعيد الواضح بين أنقرة وأثينا واتهام نظام أردوغان لليونان بعسكرة جزرها في شرق بحر إيجة، فيما ترفض أثينا تلك الادعاءات، وتؤكد بشكل متكرر حقها في الدفاع عن النفس، وهو ما يعني أن الدبيبة دفع بحكومته إلى واجهة النزاعات الإقليمية، كما سبق أن حاول إرضاء العواصم الغربية بإبداء مساندته لنظام زيلينسكي في أوكرانيا كنوع من التشفي من موسكو التي يراها لاعبا أساسيا في ليبيا، ولكن في صفوف الفريق المنافس.
أدى التوقيع على مذكرات التفاهم مع تركيا والاتفاق على تدشين عمليات التنقيب على النفط والغاز في منطقة الجرف القاري بين ليبيا واليونان، إلى حالة احتقان داخليا وخارجيا، فرئيس مجلس النواب الليبي أكد بطلان أيّ مذكرات تفاهم تبرمها حكومة الدبيبة، مشيرا إلى عدم وجود أيّ أثر قانوني لها وعدم إلزامها للدولة الليبية، معتبرا أن حكومة الدبيبة انتهت ولايتها دستوريا طبقا لبنود الاتفاق السياسي، وفشلت في القيام بواجباتها ومهامها المحددة الصادرة عن ملتقى الحوار السياسي في شهر ديسمبر 2020 ثم تورطت في إبرام مذكرات تفاهم واتفاقيات للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقتصادية بشرق البحر الأبيض المتوسط مع تركيا، مخالفة لنص المادة السادسة من الفقرة العاشرة من الاتفاق السياسي التي تنص على أن “لا تنظر السلطة التنفيذية خلال المرحلة التمهيدية في اتفاقيات أو قرارات جديدة أو سابقة بما يضر باستقرار العلاقات الخارجية للدولة الليبية أو يلقي عليها التزامات طويلة الأمد”.
المجلس الرئاسي رأى أن الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين الدول لا تدخل حيز التنفيذ إلا بعد اعتمادها من المجالس التشريعية، وأوضح أن إبرام الاتفاقيات يتطلب التشاور معه، وأن التعاون بين الدول تنظمه مواثيق وأعراف دولية، وقوانين محلية.
علينا ألا ننسى أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي يرتبط بعلاقات خاصة باليونان وقد كان يعمل فيها كسفير لبلاده، ولا تزال أسرته تقيم هناك.
حكومة باشاغا خرجت من دائرة التحفظ وأعلنت لأول مرة عن موقف مناقض لمصالح تركيا، حيث اعتبرت أن الاتفاقيات هي حق أصيل لسلطة منتخبة من الشعب الليبي بشكل مباشر، وبيّنت أنها “ستبدأ في التشاور المباشر مع الشركاء الوطنيين، والإقليميين والدوليين، للرد بالشكل المناسب”.
كذلك هو الأمر بالنسبة إلى 73 عضوا بمجلس الدولة الذين لاحظوا أن هكذا مذكرات غامضة البنود، وأن توقيع مثل هذه المذكرات في مثل هذا التوقيت والظرف السياسي يمثل محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع.
وفيما أكدت القاهرة وأثينا ونيقوسيا رفضها لتوقيع مذكرات التفاهم، أكدت وزارة الخارجية الأميركية أن حكومة الدبيبة ملزمة بموجب أحكام خارطة الطريق الأمنية بعدم النظر في الاتفاقات الجديدة، وأوضحت أن الاتفاقات الجديدة تضر باستقرار العلاقات الخارجية لليبيا، وتفرض عليها التزامات طويلة الأمد. بينما اعتبر الناطق باسم الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بيتر ستانو أن الاتفاقية الموقعة بين ليبيا وتركيا تتطلب المزيد من التوضيحات، معتبرا أنها تستند إلى مذكرة تفاهم تتعارض مع قانون البحار.
هذه المواقف وغيرها سواء في الداخل أو الخارج، وضعت الدبيبة وحكومته في مأزق ليس من السهل تجاوزه، فالتأثير البالغ للوبي اليوناني على القرار السياسي الأميركي، وتعاطف الاتحاد الأوروبي مع أثينا ونيقوسيا، وتأثير مصر في محيطها ولاسيما في مواقف دول الاعتدال العربي، ورفض الأغلبية الساحقة من القوى الأساسية في الداخل الليبي، ستضع الحكومة المنتهية ولايتها في موقع التسلل، وسيسلط عليها من الضغوط ما يجعلها في مرمى القرار الإقليمي والدولي الذي لن يتأخر كثيرا.
بالتزامن مع حالة الانقسام السياسي والحكومي في ليبيا، هناك حكومة ثالثة مصغرة تعمل في الظل، وقد تشكلت منذ أشهر من كفاءات ليبية من مختلف المناطق، ولديها خطوط تواصل مع العواصم الغربية وعلى رأسها واشنطن، وهي تعمل في سياق مشروع متكامل تم التخطيط له داخليا وخارجيا، وهدفها الأساسي توحيد المؤسسات وتحقيق المصالحة وتوظيف الظروف الملائمة لتنظيم الانتخابات.
والحكومة الثالثة ستعمل تحت إمرة رئيس مؤقت يتحدر من مصراتة ومن المؤسسة القضائية ولديه علاقات متوازنة في المناطق الغربية والشرقية والجنوبية والوسطى، كما سيكون مقبولا من أغلب ألوان الطيف السياسي بما في ذلك أنصار النظام السابق.
قد تستمر حكومة الأمر الواقع في طرابلس أسابيع أو أشهرا أخرى، ولكن ستبلغ نهايتها حتما، كما أن رئيسها لن يكون له أثر في أيّ تسويات قادمة ولن يسمح له بالتلاعب بمصير الليبيين وبالمراهنة على التقسيم، والتخطيط لمواصلة السيطرة عبر انتخابات أو مشكوك في نزاهتها كما حدث في انتخابات ملتقى الحوار الوطني بجنيف، وربما كان حفل التوقيع للثالث من أكتوبر الجاري قد حسم أمره نهائيا وأطاح بجميع تطلعاته، فهو وإن كسب رضا الأتراك فإنه فتح على نفسه أبواب جهنم من مختلف الجهات، وأنقرة ذاتها لن تصر كثيرا على بقائه في ظل أيّ تسوية جديدة خصوصا إذا شملت مصر واتفق عليها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
نقلاً عن “العرب” اللندنية