كريتر نت / صحتك
كتب / د . محمد طه
أرى أن أحد أهم أهداف ووظائف الطب النفسى الحقيقى هو تحسين الصحة النفسية، ليس فقط بالنسبة للناس كأفراد، ولكن – وبشكل أكبر- بين الناس، ولديّ اعتقاد راسخ من خلال دراستى وخبرتي وأبحاثي أن العلاقات الإنسانية بين البشر هي العامل الأكثر أهمية، سواء فى تكوين الأمراض النفسية، أو فى علاجها، فحياتنا عبارة عن سلسلة لا تنتهى من العلاقات، بدءا من العائلة، ثم المدرسة، ثم العمل، ثم عائلة أخرى، وهكذا.
قامت جامعة هارفارد منذ فترة قريبة بنشر دراسة هامة تمت على مدار 75 عاماً للوصول لأهم العوامل التى تحدث فرقاً حقيقياً فى حياة البشر خلال سنوات حياتهم، الدراسة تمت على عدد هائل وأجيال متتالية من الناس، بواسطة أجيال مقابلة من الباحثين، وكان التصور السائد والإجابة التقليدية لمعظم الناس فى أول الدراسة أن المال والشهرة هى أكثر العوامل المتوقع لها أن تحدث فرقاً فى حياتهم.
لكن وبعد خمسة وسبعين عاماً من الاختبارات النفسية المعقدة والأشعات المغناطيسية المتتالية، والتحاليل الطبية الدقيقة على المشاركين فى البحث وأبناءهم وأحفادهم، توصل الباحثون إلى ارتباط عامل واحد فقط بتحسن الصحة النفسية والجسدية، وطول العمر، والسعادة، والقدرة على مقاومة الأمراض والأحزان وضعف الذاكرة والشيخوخة، هذا العامل هو وجود علاقات طيبة حولنا، ولوحظ على مشاركى الدراسة ممن لم تتوفر لهم علاقات طيبة فى معظم فترات حياتهم أنهم كانوا أقصر أعماراً، وأكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية والجسمانية، وأقل قدرة على تحمل الآلام، وأسرع إصابة بالشيخوخة وبضعف الذاكرة ومرض الزهايمر.
العلاقة الطيبة لا تعنى إطلاقاً علاقة خالية من المشاكل والخلافات والشد والجذب، بل على العكس، كثير من العلاقات الطيبة تملؤها المشاحنات والخلافات، لكنها فى كل مراحلها ودرجاتها وصورها تتميز بأن كل طرف فيها قادر على الثقة فى الطرف الآخر، والاعتماد عليه وعلى كونه متاحاً وقت الحاجة مهما حدث بينهما.
العلاقات الطيبة هى أكسير الحياة، وهى الترياق الوحيد ضد الذبول الروحى، والموت النفسى.
نفوسنا البشرية، بل وتركيبات ووصلات عقولنا وأدمغتنا، عبارة عن شبكة هائلة من العلاقات، لذلك فالعلاقات الإنسانية ورؤيتها وتحليلها وعلاجها من الجانب النفسى هى نقطة اهتمامى، ومحور تركيزى، ولب رسالتى.
لن أتحدث عن الوسواس القهرى أو الاكتئاب أو الشخصية الحدية أو غيرها، بقدر ما سأتحدث عما وراءهم، وما يؤدى إليهم، وما هو أعمق من أبعادهم الوصفية الإكلينيكية، ومقصدى ونيتى أن تطرق كلماتى باب الجميع، وجميع الأبواب.
ولنبدأ الآن.. عن (الزواج)
ولتسأل نفسك.. ولتسألى نفسك: هل الزواج أصلاً علاقة؟
وأقول لك – دون أية حساسيات- لا يا صديقى، لا يا صديقتى، الزواج فى حد ذاته ليس معناه على الإطلاق نجاح العلاقة بين اثنين، وليس ضماناً لاستمرار الحب، وقد لا يكون علاقة من الأساس.
الزواج فى حقيقته هو فقط إطار لعمل (علاقة)، بمعنى أن الزواج هو فرصة لعمل علاقة بين طرفين، هو وسط ملائم لتكوين علاقة بين اثنين، وكل ما قبل الزواج من حب أو استلطاف أو معرفة صالونات أو غيرها، يستوى ويتشابه فى أنه طريق يمهد لوضع الطرفين فى المكان والظروف المناسبة لصنع وإنجاح (أو إفشال) هذه العلاقة، ويتوقف ذلك تماماً على نية وفعل واجتهاد كل من شريكى الحياة، الذين سيكون أمامهما حينها أحد اختيارين:
إما أن يقوما بخلق وترسيخ ورعاية علاقة حقيقية بينهما، يكون فيها كل منهما نفسه كما هى، بكلها وبكاملها، دون رتوش أو مخاوف أو حسابات، وبقبول كامل للطرف الآخر، دون شروط أو تعجيزات أو تهديدات.
علاقة يشعر كل من طرفيها بالحرية، فى نفس الوقت الذى ينتمى فيه للزواج والأسرة والمنزل.
علاقة يحيا كل من فيها ويستمتع بحياته، فى نفس الوقت الذى يسمح فيه للطرف الآخر بالحياة والاستمتاع بها.
علاقة يكون لكل من فيها ذاتيته واستقلاله ودوائرعمله ومعارفه وأفكاره وأحلامه، مع بعض خطوط التلاقى والتوازى والتماس، وكذلك الاختلاف، مع الطرف الآخر.
وإما أن يدخلا فى علاقة مريضة وغير حقيقية بالمرة، فيختزل كل منهما الآخر، ويعيش معه بجزء صغير من نفسه، فى غياب واختفاء باقى الأجزاء، أو يخنق كل منهما الآخر، بحبل غليظ من الهموم والمشاكل والشكوك، أو يقوم كل منهما بتعجيز الآخر، دون رضا ولا قناعة ولا رحمة، أو أن يعلق كل منهما حياته ووجوده وسعادته ورضاه على الآخر، دون أى مراعاة للضعف والخطأ الإنسانى الوارد كل يوم.
الزواج هو اختبار لكونك حقيقيا أم مزيفا
الزواج هو أن تختار بين تكرار سيناريوهاتك القديمة أو سيناريوهات أسرتك أو أقاربك أو معارفك أو أصحابك، أو أن تكتب سيناريو جديد تماماً لك ولشريك حياتك، بكامل وعيك وإرادتك ومسؤوليتك.
الزواج (ونجاحه أو فشله) قرار، يتجدد كل يوم وكل دقيقة وكل لحظة، تماماً كالتنفس ونبض القلب.
الزواج ليس هو النهاية كما فى أفلامنا العربية.
الزواج بداية.. بداية حياة.. أو بداية موت.
الزواج إما أرض خصبة لزرع الحب.
أو أرض وعرة لزرع الكراهية.
الزواج إما روضة من رياض الجنة.
أو حفرة من حفر النار.