موسى برهومة
كاتب أردني
منذ أن جرى الإعلان عن فوز الفرنسيّة آني إرنو بجائزة نوبل للآداب مطلع الشهر الجاري، وأنا منشغل بالفضاء الذي تتحرّك فيه هذه الكاتبة التي أعتقد أنّ فوزها بهذه الجائزة الرفيعة يعدّ ثورة في الجائزة وعلى معاييرها، وهذا تحوّل يستحقّ الانتباه.
نوبل للآداب تحتفي للمرة الأولى، ربما، بالأدب الذاتيّ، أو الأدب المكرّس في كُليّته للجوهر الفردانيّ لدى الكائن. ولعلها ميزة استثنائيّة أنّ إرنو تمكّنت من إقناع لجنة تحكيم الجائزة بأنّها تكتب أدباً يجدر الاحتفاء به؛ أدب خارج منطقة الأدب المعهودة أو الكلاسيكيّة، أدب يُعيد تعريف الكتابة، أو إنتاج نمط جديد من الأشجار في هذه الغابة الكثيفة من السرد.
كتابة إرنو، لمن يتأمّلها للمرة الأولى على نحو عابر، كتابة غير موحية ولا محفّزة، ولا تبعث على التشاركيّة التي ظلّ يتوخّاها الأدب الروائيّ ذو المضامين المركّبة والتقنيّات المعقّدة والاستراتيجيّات التي تغرق في هندسة الكتابة.
هذه الفرنسيّة تكتب بحريّة لم يسبقها إليها، على الأغلب، أيّ فائز بنوبل للآداب. إنها (أعني هنا الساردة) تكتب لنفسها وعن نفسها، ترصد عبر المذكّرات تفسّخ الحياة الاجتماعيّة وانهيار الطبقة التي تنتسب إليها، وشعورها بالخزي إزاءها. تكتب عن أبيها، عن الزهايمر، ومرض والدتها بالسرطان، وعن الغِيرة أيضاً، وتكتب عن صبيّة جامعية تريد أن تجهض بعد تجربة عاطفيّة عابرة عصفت بأحلامها، وكادت أن تمنعها من أن تصبح كاتبة. تكتب عن أشياء لا تصلح للكتابة. أليس هذا ما تزعمه الأوثان؟
قد يصف بعضهم كتابة إرنو بـ”المسطّحة” وهو توصيف لا يستبطن النبذ، بل على العكس يسعى إلى إزالة الأتربة عن الخيال، أو الكتابة عن خيال الخيال، دون أن تتخلّى في ذلك كلّه عن لغتها النظيفة، النقيّة، المتخفّفة من الاستعارات والمثقلة بالهواجس ومشاعر الاغتراب والقيود الاجتماعيّة التي تصفّد الذاكرة.
إرنو كاتبة شجاعة، لا لأنها تكتب عن الجنس بكل ما فيه من عري ورغبات مشنوقة وتوحّش لا تتمكّن اللغة من السيطرة عليه، وإنما لأنها تلتقط هذه العوالم التي يتشارك فيها البشر وتصهرها في سرد تأمليّ بجرأة وجدية وشفافية وتقشّف.
إنّ كتابة إرنو تشبه الدفقة: حارّة، مقتضبَة، فيها دويّ، لكنّها منزوعة الصراخ.
في روايتها “الرجل الشاب” التي نشرتها مؤخراً في دار غاليمار الفرنسيّة، تتحدث، كما أفاد معلّقون، عن قصّة حبّ تجمع الساردة مع شاب يصغرها بثلاثين سنة. إنها تفتّش في الذاكرة الفرديّة وتنتقي من بيادرها القمحَ المشعّ كالذهب، لكنّها لا تكتب مذكّرات ذاتيّة منغلقة، أو سيرة يغلب عليه التباهي أو الإنكار، أو صناعة تاريخ لم يحدث.
كتابة إرنو درس عميق في النقد، وفي مقاربة مفهوم السرد، من زاوية جديدة. لقد فكّكت هذه الكاتبة الثائرة التقنيات وعبثت بالقواعد، ولعلها ازدرت فقهاءَ المقاربات النقديّة الركيكة التي تريد إدخال الفيل من ثقب إبرتهم المعياريّة.
إنه فيل يا قوم!
المصدر حفريات