حاتم زكي
كاتب مصري
“إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر”.
سترسم هذه الكلمات وجه الشرق الأوسط لعقود وربما لقرون قادمة، وهي جزء من رسالة اللورد أرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية البريطاني، إلى رجل الأعمال اليهودي ليونيل والتر روتشيلد الرئيس الشرفي للاتحاد الصهيوني في بريطانيا وأيرلندا، أرسلها له في الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1917، قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بعام، وهي ما سيُعرف بـ”وعد بلفور”، الذي كان تتويجاً لمساعٍ صهيونية لحث الدول الغربية الكبرى على منح اليهود وطناً قومياً في فلسطين.
كانت تلك المساعي قد بدأت على يد الصحفي النمساوي تيودور هرتزل (1860-1904) الذي أصدر كتاب “الدولة اليهودية” في العام 1896، شدّد فيه على أنّ الحل الوحيد للمسألة اليهودية في أوروبا، بما فيها تنامي معاداة السامية هو تأسيس دولة لليهود، وفي العام التالي أسس هرتزل المنظمة الصهيونية التي دعت في مؤتمرها الأول إلى تأسيس “وطن للشعب اليهودي في فلسطين تحت حماية القانون العام”. تضمنت التدابير المقترحة، تعزيز الاستيطان اليهودي في فلسطين، وتنظيم اليهود في الشتات، وتعزيز الشعور والوعي اليهودي، والخطوات التحضيرية للحصول على المنح الحكوميّة اللازمة لذلك.
الصهيونية والأهداف البريطانية
سعت بريطانيا من تلك الرسالة إلى حشد الدعم اليهودي في الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، للوقوف بجانب الحلفاء في الحرب ضد ألمانيا والنمسا وتركيا، وكذلك الحصول على الدعم اليهودي الروسي، بالإضافة إلى فرض سيطرتها على فلسطين حتى تُحكم قبضتها على قناة السويس، ذلك الممر المائي الحيوي الذي يربط بريطانيا بمستعمراتها.
وقد أدى وعد بلفور إلى تسارع اعتراف المجتمع الدولي بحق اليهود واعتراف عصبة الأمم (المنظمة السابقة للأمم المتحدة) بهذا الحق في قرارها الصادر بتاريخ 24 أيار (مايو) من العام 1922 بالانتداب البريطاني على فلسطين. في إطار تلك الخطوة القانونية كلفت عصبة الأمم بريطانيا بمسؤولية تنفيذ وعد بلفور، وتحقيق هدف “إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”، وهكذا اعترفت العصبة بشكل قانوني “بالارتباط التاريخي للشعب اليهودي” بأرض فلسطين.
الحرب العالمية الأولى.. بين الحيرة والانقسام
وقد انقسمت الحركة الصهيونية في بداية الحرب حول موقفها من الدول المتحاربة، وإلى أي جانب تقف، والتي أدت إلى حيرة وخلافات في البداية، فبينما قال القيادي الصهيوني فيلاديمير جابوتنسكي (1880-1940) إن هزيمة تركيا ستنقذ المجتمع اليهودي في فلسطين من الدمار ومن ثم فالوقوف بجانب الحلفاء أمر ضروري.
دعت قوى صهيونية أخرى للوقوف بجوار الألمان، خاصة أن موقف الإمبراطورية الروسية التي انضمت إلى الحلفاء من اليهود قد خيب آمالهم؛ إذ توقع العديد من اليهود حدوث تغيير في سياسة روسيا المعادية لليهود، لكنهم أصيبوا بصدمة شديدة في الأشهر الأولى من الحرب، عندما طُرد اليهود من مناطق الخطوط الأمامية، واحتُجزوا كرهائن، وتعرضوا لمذابح؛ أدت تلك الأحداث إلى انحياز العديد من اليهود، لا سيما في الولايات المتحدة، إلى دعم ألمانيا في البداية؛ لكن سرعان ما انحازت الحركة الصهيونية إلى الحلفاء.
الحركة الصهيونية تنحاز للحلفاء وتقاتل معهم
في أوائل العام 1915 سعت القيادات الصهيونية البريطانية بزعامة حاييم وايزمان (1874-1952) إلى إقناع الحكومة البريطانية بتأمين المصالح اليهودية في فلسطين في حالة أن أصبحت الأخيرة تحت سلطة الانتداب البريطاني، وقدمت تلك القيادات بالفعل مذكرة تفاهم في تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1916 إلى الحكومة البريطانية.
سيصبح أحد تلك القيادات اليهودية أول مندوب سامي بريطاني لفلسطين وهو السير هربرت صاموئيل (1870-1963)، كما أرسل المكتب الصهيوني الرئيسي بالعاصمة الدنماركية كوبنهاجن مبعوثين للتفاوض مع أعضاء الحكومة البريطانية حول الاعتراف بحقوق اليهود المقيمين في فلسطين، والسماح بحرية الهجرة إلى فلسطين، وتقنين أوضاع المؤسسات الصهيونية بها.
برغم رفض العديد من القيادات الصهيونية، فإن جابوتنسكي وجوزيف ترامبلدور (1880-1920) وغيرهما، قد دعوا لتأسيس ما عُرف بـ “الفيلق اليهودي” للقتال بجانب دول الحلفاء، في البداية تحفظت الحكومة البريطانية على المشروع، ثم وافقت على تكوين “فيلق صهيون” الذي يضم لاجئين يهود كانوا في المعسكرات المصرية، وأوكلت إليه مهمة توصيل الإمدادات والمؤن.
وفي صيف العام 1917 تم تأسيس “الفيلق اليهودي” الذي ضم في البداية مقاتلين يهوداً بريطانيين سافروا بعد التدريب للقتال في فلسطين، قبل أن يسافر القيادي الصهيوني بنحاس روتنبرج (1879- 1942) إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ لعمل دعاية لحشد متطوعين للانضمام إلى “الفيلق اليهودي”.
تراجع عسكري يدفع لتنازل سياسي
ومع تكرار الخسائر البريطانية في الجبهات المختلفة، وإلحاح وضغط الجانب الصهيوني أقنع الأخير الحكومة البريطانية بإمكانية الاستعانة بالدعم اليهودي الأمريكي خاصة مع رغبة بريطانيا في انضمام الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحلفاء، حيث ستسعى جماعات الضغط اليهودية إلى إقناع الإدارة الأمريكية والرأي العام بضرورة الانضمام للتحالف، بالإضافة إلى ما تواتر إلى أسماع الحكومة البريطانية عن مبادرة ألمانية للتعاطف مع تطلعات اليهود؛ استقطاباً للدعم المالي الهائل القادم من رجال المال والأعمال اليهود.
من أجل كل ذلك تم الاتصال بين وزارة الخارجية البريطانية والقيادات الصهيونية في نهاية العام 1917؛ لتحديد الأهداف التي يصبو إليها الطرفان بعد الحرب، ومن ناحية أخرى اجتمعت قيادات صهيونية مع الجانب الفرنسي ونجحت في الحصول على تنازلات تتعلق بضم فلسطين بأكملها إلى دائرة السيطرة البريطانية، على عكس معاهدة سايكس البريطانية الفرنسية السرية التي عُقدت في العام 1916، التي قسمت مناطق نفوذ الحلفاء في هذه المنطقة.
الأسباب الحقيقية للمسألة اليهودية
لا يجب أن تصرف تلك المعلومات أنظارنا عن حقيقة طالما شدد عليها المفكر المصري عبدالوهاب المسيري، وهي أنّ هذا الوعد كان نتيجة لعلاقات ملتبسة وشائكة بين الحضارة الغربية والجماعات اليهودية التي عاشت في إطارها، فالمسألة اليهودية تفاقمت بسبب تعثر التحديث في شرق أوروبا وبخاصة روسيا وعجز اليهود عن التكيف مع سرعة التحديث؛ مما أدى بعد ذلك إلى تبني قطاعات منهم للفكر الاشتراكي، بالإضافة لحدوث انفجار سكاني بينهم في منتصف القرن التاسع عشر ولم يتمكن الاقتصاد الروسي من استيعابهم مما دفعهم للهجرة بثقافتهم المتخلفة وجمود عقيدتهم الدينية إلى الغرب الصناعي الثري؛ ما شكّل عبئاً على الغرب دفع النخبة السياسية والانتلجنسيا اليهودية في غرب أوروبا إلى طرح الفكر الصهيوني على مائدة النقاش والمداولة؛ بحثاً عن حل للمسألة اليهودية كانت دولة إسرائيل أنجح حلولها.
المصدر حفريات