منتصر حمادة
كاتب مغربي
على غرار القواسم المشتركة التي نجدها بين الإسلاموية والتيار الإيديولوجي الغربي الذي يرفع شعار “التخويف من الإسلام”، من قبيل ترويج خطاب المؤامرة، التفكير الاختزالي، عدم التفرقة بين الدين والتديّن، ضمن قواسم أخرى، نعاين قواسم مشتركة أيضاً بين الإسلاموية نفسها وتيارات فكرية استشراقية.
من باب التدقيق، لا نتحدث هنا عن الاستشراق بإطلاق لأننا نجد عدة مدارس فيه، ولا ضير من التذكير بأنّ المدرسة الاستشراقية الألمانية مثلاً تختلف كثيراً عن المدرسة الاستشراقية الفرنسية، وقس على ذلك أمثلة أخرى، ويكفي تأمل تميز اشتغال الاستشراق الألماني على التصوف الإسلامي، والذي يندرج ضمن اشتغال أكبر وقديم عنوانه التأليف في الإسلاميات، وما يُحسبُ للمدرسة الاستشراقية الألمانية بالتحديد أنّها أكثر إنصافاً في سياق هذا الاشتغال مقارنة مع باقي الاتجاهات، وثمة أعمال بحثية صدرت في المنطقة العربية خلُصت إلى ذلك، قد يكون أهمها كتاب مرجعي للمفكر اللبناني رضوان السيد بعنوان “المستشرقون الألمان: النشوء والتأثير والمصائر” (دار المدار، الطبعة الأولى، 2007).
وإجمالاً، يمكن حصر التباين في أداء المدارس الاستشراقية في اتجاهين اثنين:
ــ اتجاه ينهل من “مركزية غربية”، ويتعامل باستعلاء مع الموروث الإسلامي، إضافة إلى تورطه في خدمة المشاريع الاستعمارية كما عاينا مع أداء العديد من المستشرقين الفرنسيين في التعامل مع القضايا الدينية والاجتماعية في المنطقة المغاربية.
الخطاب الاستشراقي غير المنصف، يُساهم في تغذية خطاب الإسلاموية العربية؛ لأنها تعمم ذلك الخطاب على الثقافة الغربية، بينما الأمر خلاف ذلك
ــ واتجاه آخر يحاول أخذ مسافة على قدر المستطاع من تلك المركزية، مجتهداً في الانتصار للإنصاف العلمي في معرض قراءة التراث الإسلامي، في تفرعاته الدينية والسياسية والاجتماعية وغيرها، وضمن هؤلاء، يصعب تجاهل التراكم البحثي النوعي الذي حققته المدرسة الاستشراقية الألمانية، من فرط الأسماء الوازنة التي أنجبتها، منها جوزف فان أس، هاينريخ فلايشر، ثيودور نولدكه، آن ماري شيميل، جوزيف شاخت، هلموت ريتر ومجموعة من الأسماء، وقد يكون أحدثها في التأليف، الباحث الألماني توماس باور، مؤلف كتاب يحمل عنوان “لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟ الشرق وتراث العصور العتيقة”. (منشورات الجمل، الطبعة الأولى، 2020)
ما يهمنا في هذه المقالة التوقف عند أحد هذه القواسم المشتركة بين الاتجاه الاستشراقي غير المنصف، والإسلاموية العربية بالتحديد، وعنوانه التعامل مع ثقافة شعوب المنطقة العربية الإسلامية، كأنها قاصرة ثقافياً، وشاذة ثقافياً، كل من وجهته الإيديولوجية، وسوف تتضح معالم هذا المأزق من خلال النموذج التطبيقي الذي نتوقف عنده هنا، وجاء في مضامين حوار مطول حديث الإصدار، أجرته أسبوعية “الأيام” المغربية، مع الرئيس الجديد لحركة “التوحيد والإصلاح”، والتي تنهل من مرجعية إخوانية، وهي الحركة التي سبق أن ترأسها الباحث والداعية أحمد الريسوني، الرئيس السابق لما يُصطلح عليه “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”.
يتعلق الأمر بآراء الداعية أوس الرمال جعلت المنبر الإعلامي ينشر عنواناً دالاً نعتقد أنه يساعدنا في استحضار ذلك القاسم المشترك؛ حيث نقرأ في العنوان “الوجه العجيب للرئيس الجديد لحركة التوحيد والإصلاح”، ومن ذلك حديث المعني أنه كان “مولعاً بالموسيقى” أو “بعد انتمائي للإسلاميين لم أتخل عن قيثارتي، إلا بسبب ضيق الوقت”، ورداً على سؤال يهم أسباب أخذ مسافة من العزف على آلة موسيقية، إن كانت مرتبطة باعتقاد ديني، جاء الجواب كالتالي: “لا، فقط مشكل وقت، عندما انخرطت في الحركة الإسلامية كنا نخصص وقتاً لحفظ القرآن وأحاديث الأربعين النووية، بل كنا نحفظ مقدمة كتاب في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله كاملة، لم يكن لدي الوقت لأفعل ما كنت أفعله في السابق، بما في ذلك مشاهدة الأفلام السينمائية والمشاركة في الأندية الثقافية السينمائية التي كنت أحرص على حضور مناقشتها البناءة”. (صدر الحوار في أسبوعية “الأيام”، الدار البيضاء، العدد 1010، 27 أكتوبر/ تشرين الأول ـ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني، 2022).
يتعامل الاستشراق غير المنصف مع شعوب المنطقة على أساس أنها متخلفة حضارياً، ومن ذلك أنها قاصرة على بلوغ التحضر الذي تزعم المركزية الغربية أنها وصلت إليه، ولذلك وجدت نفسها مكلفة بمهمة حضارية عنوانها المساهمة في مساعدة هذه الشعوب والمجالات الثقافية على التحضر، وهذا ما جرى فعلاً في التجربة الاستعمارية، وإن كانت الأطماع الأساسية من الاستعمار أكبر من هذه الشعارات المثالية المزيفة للوعي.
لا تختلف الرؤية الاختزالية لثقافة الشعوب نفسها عند الإسلاموية، أقلها إنها تتعامل معها على أساس أنّ الأمر يهم شعوباً جاهلية كما سطرت ذلك أدبيات العديد من الأسماء، وخاصة الثنائي محمد قطب وسيد قطب، بل إنّ الأول ألف كتاباً بعنوان “جاهلية القرن العشرين”، أما سيد قطب، فإنّ مضامين كتابه “معالم في الطريق”، لم تخرج عن هذا الأفق النظري الاختزالي، ولذلك وجدت الحركة الإسلامية نفسها كأنها مكلفة بإعادة أسلمة ثقافة شعوب المنطقة، كمرحلة أولية تسبق محطة أسلمة النظام السياسي الحاكم وبالتالي أسلمة الدولة، ومن هنا الحديث عن أدبيات “الدولة الإسلامية”.
(شعار تنظيم داعش يلخص ذلك بشكل عملي، وكذلك تفاعل الأقلام الإسلاموية مع كتاب “الدولة المستحيلة” للمستشرق الكندي وائل حلاق).
يتعامل الاستشراق غير المنصف مع شعوب المنطقة على أساس أنها متخلفة حضارياً، ومن ذلك أنها قاصرة على بلوغ التحضر الذي تزعم المركزية الغربية أنها وصلت إليه
بالعودة إلى مضامين الحوار أعلاه، واضح أنّ الحديث عن تعامل القيادي الإسلاموي للحركة الإسلامية المعنية، والخاص بتعامله مع أسئلة الموسيقى والسينما، يشفع للمنبر المعني عنونة الحوار بأننا إزاء “وجه عجيب”، لأنّ هذه الآراء كانت ولا زالت شاذة ثقافياً في الأدبيات الإسلاموية بشكل عام، بل حتى في حقبة المراجعات، وحتى في خطاب أسماء بحثية تزعم أنّها انفصلت تنظيمياً وإيديولوجياً عن الإسلاموية، نعاين تبعات النهل من هذه التربية الإسلاموية، وتعاملها مع هذه الأسئلة، ويمكن إلقاء نظرة عابرة على تفاعل العديد من أعمال مراكز “أسلمة المعرفة” للتأكد من ذلك، أي تعامل الأسماء الإسلاموية حالياً أو الإسلاموية سابقاً، التي تنشر في هذه المراكز، مع قضايا الفن والمرأة والجمال والتصوف.. إلخ.
(انظر على سبيل المثال ما يصدر في المنابر الإعلامية والمنصات البحثية التابعة لمركز “نهوض” الكويتي أو مركز “أواصر القطري”، أو مركز “نماء” السعودي.. ضمن أمثلة أخرى، ولا نتحدث هنا عن الأسماء البحثية التي لا علاقة لها بالمرجعية الإسلاموية، وتنشر في منصات هذه المراكز، وإنما المقصود بالتحديد الأسماء الإسلاموية حالياً، أو التي كانت إسلاموية).
تعامل الداعية المعني مع أسئلة الموسيقى والسينما بشكل خاص، أو مع أسئلة الفن بشكل عام، يوحي بسبق إسلاموي في الساحة، لكنه سبق يهم الأرضية الإسلاموية حصراً، ولا يهم المجتمع؛ لأن هذا المجتمع، بخلاف ما تربى عليه العقل الإسلاموي، متصالح مع هذه القضايا، بصرف النظر عن طبيعة ومعالم المدارس والتيارات الفنية السائدة، فيها الصالح والطالح، ثم إنّ هذه الجزئية تحيل على تعددية قائمة فنية في العالم بأسره، لكن الأمر مختلف مع العقل الإسلاموي الذي انكسبت نسبة من أتباعه على ما يُشبه إعادة النظر في تبعات النهل من أدبيات إسلاموية لم تختلف كثيراً في التعامل مع ثقافة شعوب المنطقة مقارنة مع التعامل الاستشراقي سالف الذكر: نحن إزاء فرق في النوع وليس في الدرجة.
ليس صدفة أنّ القراءة الإسلاموية لثقافات شعوب المنطقة، تساهم للمفارقة في تغذية الخطاب الاستشراقي غير المنصف؛ لأنه يُعمم تلك القراءة الاختزالية على تلك الشعوب، والحال أنّها قراءة تهم منظومة إسلاموية أولاً وأخيراً، ولا تهم شعوب المنطقة.
وليس صدفة أيضاً، أنّ الخطاب الاستشراقي غير المنصف، يُساهم في تغذية خطاب الإسلاموية العربية؛ لأنها تعمم ذلك الخطاب على الثقافة الغربية، بينما الأمر خلاف ذلك، وهذا متوقع من الجانبين معاً: التيار الإسلاموي والتيار الاستشراقي غير المنصف، ما داما ينهلان من أرضية نظرية اختزالية.
نقلاً عن حفريات