رياض حمادي
كاتب يمني
مفهوم العلمانية بأنها فصل الدين أو سلطته عن مؤسسات الدولة مفهوم غير دقيق. لم يحدث هذا الفصل في تاريخ العلاقة بين الدين والدولة القائم على تفاعلهما. تُحيل كلمة (فصل) إلى استقلالية تامة يُكذبها واقع العلمانيات القائم على تفاعل مدروس تقوم فيه السياسة بدور المُوجِّه ويسهم الدين بتعزيز قيم العلمانية التي لا تضر بالدين. عملية التفاعل هذه يطلق عليها “علمنة الدين”.
وهي مرحلة مهمة لا تهدف إلى إلغاء الدين من الحياة العامة، فليس من المستطاع ولا المحبذ القيام بذلك، وإنما الهدف ترشيد الدين لخدمة الدولة أفراداً ومجتمعاً، وذلك باستثمار أهم ما في الدين من القيم الإيجابية التي تنسجم مع الأفكار العلمانية.
تكمن الخطورة في العملية النقيض؛ أي تدَيُّن العلمانية أو تدْيين السياسة. والهدف من هذه العملية هو ترشيد السياسة لصالح فئات دينية أو سياسية محددة. في هذه العملية يتم توظيف أسوأ ما في الدين؛ كالتحريض على الكراهية والقتل والإرهاب باسم الدين.
خلافاً لعلمنة الدين التي تعني عقلنته وروحنته واستثمار أفضل ما فيه من قيم العدل والمحبة والمساواة والسلام.
والخلاصة إن تفاعل الدين والسياسة أمر لا مفر منه، والسؤال إلى أي جهة يصب هذا التفاعل، لصالح علمنة الدين أم تدَيُّن السياسة.
التكفير هو وسيلة أتباع الأحزاب الدينية لإفساد الخطاب العام والحياة السياسية. وحين توصم الدولة أو الأحزاب الليبرالية والعلمانية بالكفر أو أتباعها بعدم التَّديُّن يكون الهدف جر الأحزاب غير الدينية إلى مربع الدين وخلق شقاق زائف داخل المجتمع. يتحقق هذا الهدف بخطوتين: الخطوة الأولى بدفاع أتباع هذه الأحزاب عن أنفسهم لرد تهمة الكفر.
والخطوة الثانية بالدفاع عن الدين نفسه باعتباره ملكية عامة يمكنهم التعبير والدفاع عنه خير من خصومهم المتدينين، أو الإسلاميين في السياق العربي.
بهذه الخطوة ينجح المتدينون في جر العلمانيين إلى حيز الدين مما يحوِّل الصراع والمنافسة السياسية إلى خطاب يدَّعي فيه كل طرف بأنه المُعبِّر الحقيقي عن الدين.
يعتقد العلماني بتصرفه السابق بأنه يغزو الإسلامي في عقر داره والحقيقة أنه يغوص في مستنقعه أو يلعب في أرضه.
وحين تكون هذه الصورة هي السائدة في أي مجتمع، اعلم أن الدولة والمجتمع يسيران في اتجاه واحد هو تديين العلمانية والسياسة، في الوقت الذي كان يجب على الأحزاب غير الدينية علمنة الدين أو عقلنته.
تبدأ هذه الردة عن مسار العلمانية على نحو براغماتي بهدف كسب أصوات اليمين المتطرف أو الوسط المعتدل.
حدث هذا في أمريكا منذ حملة نيكسون 1968 وحتى بوش الابن وما تزال إستراتيجية الحزب الجمهوري قائمة على أساس هذا الاستقطاب الديني المحافظ، خلافاً لإستراتيجية الحزب الديموقراطي القائمة على خطاب اقتصادي وتنموي وثقافي. حدث الشيء نفسه في الهند في نهاية سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن العشرين في عهد أنديرا غاندي.
فمن أجل إضعاف حزب “أكالي دل” المنافس لحزب “المؤتمر” الحاكم قام هذا الأخير بدعم أحد شباب السيخ المتعصبين من أجل إيجاد حزب ديني بديل منافس لحزب “أكالي دل” وهكذا تم إنشاء حزب “بهاراتيا جاناتا” المتعصب الذي وصل إلى السلطة فيما بعد، وأسهم في اغتيال أنديرا غاندي.
وفي مصر قام الرئيس أنور السادات في مطلع السبعينيات بدعم السلفيين من أجل إضعاف الناصريين واليساريين واليمين المعتدل وكانت النتيجة اغتياله من قبل الجماعات التي دعمها.
اللعب بالنار ومن ثَمّ الاحتراق بها ما يزال قائماً، يعتقد السياسي القدرة على ترويض القوى الدينية لصالحه لكن النتيجة في الحالات التاريخية السابق ذكرها، وفي الوقائع على الأرض اليوم, تشهد باستحالة احتواء هذه الجماعات؛ فعندما تتحول الأداة الدينية إلى سلطة سياسية مقدسة تقتل الجميع باسم الدين وتبدأ بالرئيس.
نقلاً عن حفريات