عمار علي حسن
يختلف كتاب “التوسمات” لشكري مصطفى مؤسس ما أسماها “جماعة المسلمين” وأطلق عليها “تنظيم التكفير والهجرة، كسائر ما خطه بنانه، عن سائر الكتب الأخرى التي أسست للتطرف السياسي العنيف المسنود إلى الإسلام ادعاءَ، في أنه كتاب لم يطبع، لأن صاحبه كان يحرم الطباعة، وبذا يعطي الكتاب فرصة عن معرفة إمكانية تنقل وتناسل نص واحد مخطوط في تجنيد الأتباع، لاسيما إن عرفنا أن عدد أعضاء التنظيم بلغ قبيل الإجهاز عليه خمسة آلاف عضو تراوحت أعمارهم بين أربعة عشر عاما وسبعين عاما.
فالمخطوط الواحد، الذي يقع في خمسة وثمانين صفحة فقط، ومنع صاحبه تصويره مثلما منع طباعته، لأن هذا في نظره رجس من عمل الشيطان، يبين أمرين أساسيين هما: كيف يحفظ الأتباع تعاليم أمير تنظيم، ويتبادلونها بينهم، وكيف يمكن أن يضاف إليها من هذا التبادل أو التنقل، شان أي نص شفاهي، خاصة أن النص لم ينسخ بعدد الأتباع.
وإذا كان لشكري مصطفى، وهو مهندس زراعي كان عضوا سابقا بجماعة “الإخوان المسلمين” كتابان آخران قصيران ومخطوطان هما “الخلافة” و”رسالة الحجيات”، فإن “التوسمات” انطوى على الأساس النظري لجماعته، وهو ما ألزم به أنصاره، ولا يخرج عن مسار “السلفية المحافظة الجهادية”، التي عرفناها عند تنظيمات أخرى لاحقة، بل يمثل النسخة الأكثر تطرفا فيها، حيث انطوى الكتاب على أفكار خطيرة هي:
1 ـ تحريم أموال الدولة، ولذا فإن كل من يعمل في وزارات الحكومة وهيئاتها ومصالحها ومؤسساتها وإداراتها يعد كافرا.
2 ـ اعتبار كل المجتمعات الحالية جاهلية وكافرة، بل أن أي ألفاظ تعبر عن سائر المعاصي كالظلم والفسق والذنب والخطيئة والسيئة والخطأ ونحوها من قبيل الكفر المخرج عن الملة، وبالتالي فكل من ارتكب أي مخالفة شرعية مما يطلق عليها أحد هذه المسميات في آيات القرآن أو في الأحاديث فهو كافر كفراً مخرجاً من الإسلام.
3 ـ كل من لم ينضم إلى دعوة “جماعة المسلمين” بعد أن بلغته يكون كافرا. لكن يجب التوقف في الحكم على كفر أي مسلم إلا بعد أن يعرض عليه فكر الجماعة ويرفضه، بزعم أن هذا التنظيم هو “جماعة الحق التى وضعت حدا فاصلا بين الكفر والإسلام ووضعت الحد الفاصل بين من هو المسلم ومن هو الكافر، وهى قضية لا يكون هناك إسلام ولا مسلمون إلا بمعرفتها.”
ويمتد تكفير الناس عند مصطفى إلى كل من يلجأ إلى القانون الوضعي للتقاضي أيا كانت دوافعه وأيا كان نوع هذا القانون، دون التماس أي أعذار من قبيل الإكراه والإجبار والاضطرار والجهل والخطأ. وحتى من دخل هذه الجماعة وفارقها فهو كافر، بل أشد كفرا وجب قتاله، إذ يقول: “كل من هم فى غير جماعتى كفار، وكل من دخلوها ثم خرجوا منها قتالهم أولى من أى قتال.”.
ورفض مصطفى فقه السابقين، وأقوال الأئمة والإجماع وسائر المسميات الأخرى كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، واعتبر هذا من ابتداع من وصفهم بـ “فقهاء السلاطين” الذين رخصوا لأنفسهم الكثير، واعتبروا كل من ينطق بالشهادتين مسلما، وأسلموا أمرهم للطاغوت، وهو عنده، الحكم بغير ما أنزل الله.
كما رفض مصطفى كل ما ورد حول الإسلام من الفقهاء والمفسرين وعلماء الحديث وأصول الدين وشرح العقيدة وغيره، بزعم أن الإسلام الحق، في نظره، هو الذي تتبناه “جماعة المسلمين” وهو ما كان عليه الرسول وصحابته وعهد الخلافة الراشدة فقط، وأن المعرفة الدينية لا يمكن تجديدها، لأنها اكتملت على يدي جيل الصحابة والتابعين، والمسلم مأمور بالإقرار بهذا، ولا يتبع غيره.
4 ـ كل كافر يستحق القتل، فردا كان أو جماعة، لأن دم الكافر وماله وعرضه مستحل.
5 ـ تتم إقامة “دولة الإسلام” على أنقاض “دولة الكفر”، التي يجب تدميرها وتوريث مقدراتها للمؤمنين، وكذلك الأرض ومن وما عليها، وهنا يقول شكري في توسماته: “يا لها من لحظة رائعة أن يترك الله أعداءه ليبنوا ويؤسسوا ويشيدوا ويرتعوا ويعدوا وينفقوا ثم يأتيهم من حيث لم يحتسبوا فيدمر عليهم ما بنوه وما شادوه، وبقدر بنيانهم يكون دمارهم. ويا للحكمة الربانية والكيد المتين.”
وهذا التدمير لن يتم، في رأيه، إلا بعد انتهاء وجود الأسلحة الحديثة من قنابل ذرية وصواريخ وطائرات حربية، وعودة الجيوش إلى الاقتتال بالأسلحة القديمة مثل السيوف والحراب والرماح والنبال، وهنا يقول: “إقامة دولة الإسلام على أنقاض دولة الكفر، ومن سننه تعالى الصراعات بين القوتين العظميين المختلفتين فكريًا، وهذا قائم بين الروس والأمريكان، كما كان قائما بين الفرس والرومان، ومن سُنَّة الله في نشوء الدعوات أن تصطرع هاتان القوتان العظيمتان في حروب طاحنة تهلك بعضها بعضًا، والجماعة المسلمة ليست على مستوى هاتين القوتين؛ فتفكير الجماعات التي تزعم الانتساب للإسلام بالانقلابات العسكرية هو سذاجة وانحراف: أن نتصور أننا سنتفوق ماديًا وعسكريًا على الجاهلية، والنصر الجاد للجماعة المسلمة هو أن تعبد الله؛ وبعد هذا يُمكن الله تعالى لها بِقَدَرِه، وبأن تقضي القوتان المتصارعتان على بعضهما تمهيدًا لنصر المؤمنين، وهذا له صلة بأسلوب القتال وسلاحه، فتدمير الكافرين بتدمير سلاحهم، وأصول قتال المسلمين هو قتال رجل لرجل، وليس قتال الجاهلية في تدمير الأرض بمن فيها بالصواريخ والقنابل الذرية، ومن سنة الله أن يكون القتال بالسلاح القديم للجماعة المؤمنة .. الجنة تحت ظلال السيوف” .. لا بد أن تُدمَر الأرض بمن عليها، وتبقى القوة المؤمنة، ويبقى السلاح الفطري”.
ثم عاد في كتابه “الخلافة” ليؤكد الفكرة نفسها، فقال: “أنا لا أقول ذلك لأثبت وجوب التسابق مع الشرق والغرب في عمل قنبلة أو صاروخ، وإنما على العكس من ذلك تماما؛ فلا يمكن أن يكون ذلك التسابق هو الحل؛ حيث إن العدو قد سبق في هذا المجال، مما لا يدرك حتى لو سرنا على درب السنن الذي قد سار هو عليها، وحتى لو سمح لنا بذلك، ولن يسمح”.
6 ـ أي معصية هي كبيرة محرمة، وبذا تكون شركا بالله تعالى، حتى لو وقع فيها مسلم.
7 ـ الامتناع عن إقامة فريضة واحدة في الإسلام يحبط ويبطل عمل الفرائض الأخرى، حتى لو حرص عليها المسلم، وإقامة الجماعة المسلمة لا تكون إلا بالعودة لما وصفه بـ “الإسلام الصحيح”، ثم تطبيق تعاليمه. وهذا الصحة مرتبطة لديه بما اقتنع هو به، وساقه إلى أتباعه، وأراد أن يبشر به سائر المسلمين.
8 ـ لا يصبح أي مسجد حاملا لهذه الصفة إلا إذا توافرت فيه ثلاثة شروط هي: تقوى من يؤسسه، إخلاص الدعوة لله وحده، وأن يكون من يعمره مؤمنا بالله واليوم الآخر.
9 ـ إسقاط صلاة الجمعة، لأنه لا تجوز إقامتها للجماعة المسلمة إلا إذا تمكنت من الوصول إلى السلطة وإقامة الحكم على أساس مبادئ “جماعة المسلمين”، بل إن مصطفى كان ينظر إلى أئمة المساجد على أنهم كفار ملحدون، ولذا يجب مقاطعة الصلوات التي يؤمونها، وتقام الصلاة في المنازل.
وبلور شكري رأيه هذا بوضوح أثناء محاكمته في قضية قتل تنظيمه وزير الأوقاف الشيخ الذهبي بعد اختطافه، فحين سألته المحكمة عن رأيه في القتيل، قال”هو عندى كافر”، فلما سألته عن الدليل، قال: “يعمل فى هيئة الأوقاف، وكان وزيرا لها ومديرا للإشراف على المساجد، وأقسم اليمين على الحكم بغير ما أنزل الله فى قسم الوزارة.”
ويعبر هو شعرا عن موقفه من الصلاة بالمسجد، قائلا:
“سأشيد في قلبى المسجد … وسأرفع عمدان المعبَد
وسأبنى في جسمى المجهد … صرح الإيمان.”
10 ـ الالتزام بالهجرة، وهي تبدأ بهجرة ما نهى الله عنه، وهجرة معابد غير المسلمين، وهم ليسوا أهل الكتاب ولا أتباع المعتقدات الأخرى فقط، بل أيضا من لم ينضموا إلى دعوة شكري مصطفى من المسلمين أنفسهم، ثم هجرة طقوس وعادات وتقاليد وملابس وأزياء وإشارات من لم ينضووا تحت لواء دعوته الغريبة، واعتزال كل هؤلاء، ويكون بالهجرة من “دار الكفر” أي أي دولة لا تحكم بالشريعة إلى أرض أخرى، وهذا واجب حتمي لا فكاك منه.
وبنى مصطفى فكرته عن الهجرة على أن “الرسول لم يقم للإسلام دولة إلا بعد الهجرة، فهل علينا نحن جماعة آخر الزمان أن نهاجر تأسيا بالرسول حتى نقيم للإسلام دولة؟ والإجابة نعم. فلابد من الهجرة ولا إسلام ولا دولة تقام له إلا بعد الهجرة. والإذن بالقتال لم يأت إلا فى المدينة بعد الهجرة .. ولكى يعود الإسلام إلى الأرض فإنه سيعود كما بدأ، وعبر ذات المراحل التى مر بها الرسول من سمع وطاعة واضطهاد وفتنة وتمحيص ثم هجرة ونصر.”، وهو هنا يتناسي أو يجهل أو ينكر بالطبع أنه ليس الرسول، وأن الزمن اختلف عن أيام الدعوة الأولى، وأن المسلمين الآن ليسوا كفار مكة.
وفي موضع آخر يقول: “كانت الهجرة في دمي، وكانت الهجرة عندي هي العزلة، أو هي الفرار، أو هي الثأر، لا أدري كل الذي أدريه، إنها كانت المنطلق لنفسي من سجنها، أو المرفأ لها في بحر همومها” ثم كتب قصيدة من قصائده ليعبر فيها عن هذا الموقف، قائلا:
“من قبل الطوفان
اسمعني يا عبد الله…
وأخرج من أرضي واتبعني… في أرض فلاة
أرضي في قلبي لم يعبد فيها الشيطان
أرضي في فكري أحمله في كل مكان
عظمها في قلب المؤمن… طهرها فيض الإيمان
فاحمل أوزارك واتبعني يا عبد الله
يكفينا زاداً في الدنيا هذا القرآن
في أرض الهجرة يا صحبي طهر وسلام
وعبادة صدق وخشوع بين الآكام
وفرار من سخف الدنيا ومن الآثام
وحكومة عدل وأمان
وصدقني في الأرض الواسعة أمان
فتعال الله تعالى يا عبد الله
ماذا يعنيك من الدنيا بعد الإسلام
أنا لن أستسلم
سأحارب جيش الأصنام.”
وأدى الإيمان بهذه “الهجرة” إلى مقاطعة أتباع شكري مصطفى للمجتمع المصري المسلم، فلا يتزوجون منه، إنما يتزوج فتيانهم من فتياتهم، وكان هو الذي يعقد القران بكلمة منه دون توثيق قانوني، ويمنع أطفال جماعته من الذهاب إلى المدارس، وشبابها من أداء الخدمة العسكرية.
11 ـ حرم شكري مصطفى التعليم على أفراد الجماعة، وقصره على تعلم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ودراسة كتابيه “التوسمات” و”الخلافة”، ورأى أن غير ذلك هو من قبيل “العلم الذي لا ينفع”، مدعيا أن الجماعة المسلمة الأولى لم تتعلم، وتعليمهم لم يكن لعمارة الأرض، ثم يقول: “نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، فلا بد وأن نكون مثلهم أميين، نوجه كل جهدنا ووقتنا لنتعلم الكتاب والحكمة، وما دون ذلك فهو ضلال مبين، ومتى يتعلم الإسلام من أمضى أكثر من نصف عمره في تعلم الجاهلية”، ثم يقول في موضع آخر”الدعوة إلى محو الأمية فكرة يهودية لشغل الناس بعلوم الكفر عن تعلم علوم الإسلام، ووجود من يقرأ ويكتب بيننا لا ينفي أننا نحن أمة أمية طالما نوجه كل وقتنا لتعلم الإسلام.”
12 ـ رفض شكرى مصطفى كل مظاهر المدنية الحديثة، لأن في نظره“يستحيل التوفيق بين بذل العمر في صنع هذه المدينة الرائعة والدنيا العريضة المزخرفة وبين عبادة الله. فهذه المدينة الحديثة ليست سوى صنم معبود أقامه المكر الشيطاني لصرف الأنظار عن عبادة الله”. ولهذا دفع أتباعه إلى حياة بدائية أقاموها في معزلهم المؤقت الذي أنشأوه في حي هامشي من القاهرة وهو “عزبة النخل”.
وفي إطار تطبيق هذا الكتاب هاجم أتباع شكرى مصطفى دور السينما والمسارح، ثم خطفوا الشيخ الذهبي وقتلوه، بعد أن لم تستجب الحكومة لشروطهم ومن بينها الإفراج عن المعتقلين من الجماعة، وكذلك المحكوم عليهم فى قضايا سابقة، ودفع مائتى ألف جنيه فدية، واعتذار الصحافة المصرية عما نشرته من إساءات فى حق الجماعة، وتسليم طفلة لأم منتمية للجماعة رفضت الذهاب مع زوجها.
وإثر هذا الحادث الأليم هاجمت قوات الأمن الجماعة، وقبضت على مؤسسها في 8 يوليو 1977، وأعدمته وأربعة معه، بعد أن أحالته وبعض أتباعه إلى محكمة عسكرية، ترافع فيها شكري عن نفسه، وتمسك بأفكاره، وقد عوقب اثنا عشر متهما منهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وأربعة عشر بالأشغال الشاقة المؤقتة، وتمت تبرئة ثلاثة عشر آخرين.
كان شكري مصطفى يتوهم أنه “أمير آخر الزمان” لأن علامات قيام الساعة، في نظره، قد ظهرت، ومنها عمران بيت المقدس، وخراب يثرب، وفتح القسطنطينية، وخروج المسيخ الدجال، ولهذا تملكته ثقة غريبة أثناء المحاكمة في أنه سيخرج منها ناجيا، وأنه فاتح مصر المنتظر، واستمر هذا الشعور يطغى على نفسه حتى سيق إلى المشنقة، معتقدا أن الله سيتدخل في آخر لحظة لينقذه، ويتركه يكمل دعوته الفاسدة.
نقلاً موقع “عين أوروبية على التطرف”