صالح البيضاني
يواصل الحوثي سياسة إرسال طائراته المفخخة في محاولة لاستعراض القوة وانتزاع المزيد من التنازلات تحت جنح الظلام الأممي والارتباك الدولي الذي يخيم على المنطقة، في الوقت الذي تدرس فيه الحكومة الشرعية خياراتها لمواجهة التصعيد الحوثي الخطير الذي يستهدف بنية الاقتصاد الهشة ويعمق من الأزمة الإنسانية التي تجتاح اليمن منذ سنوات.
وفيما يبعث الحوثي برسائله المفخخة نحو موانئ تصدير النفط في المناطق المحررة، مستغلا سلسلة غير مسبوقة من التناقضات والتحولات الإقليمية والدولية، يبدو أن هامش المناورة بات محدودا لدى الشرعية اليمنية، لنفس الأسباب تقريبا التي منحت الحوثيين هامشا أوسع للتصعيد والمتمثلة في حسابات الإقليم والمنطقة التي تتحاشى إشعال المزيد من الأزمات في عالم تجتاحه الفوضى وتلوح في سمائه نيران صراعات محتدمة، على غرار حرب أوكرانيا التي أعادت إلى الأذهان المخاوف من اندلاع حرب نووية.
وفي ظل هذا المشهد المرتبك والعبثي، الذي يمنح القوى والميليشيات المنفلتة مساحة أكبر للابتزاز ولي ذراع المجتمع الدولي، كما يفعل الحوثيون اليوم، تواصل الميليشيات المدعومة من إيران في اليمن سياسة الضغط التي تهدف إلى انتزاع مكاسب غير مستحقة ولشرعنة وجود الانقلاب المرفوض دوليا، إلى جانب إرسال رسائل لأنصار الجماعة وأتباعها لرفع معنوياتهم وإظهار الميليشيات كقوة مسيطرة وقادرة على فرض شروطها وتحدي العالم وحتى التلويح بخيارات لا تستهدف مصالح الحكومة الشرعية فقط بل تتجاوز ذلك إلى تأديب الدول العظمى، كما يحلو للإعلام الحوثي أن يصور الأمر لأتباعه!
وبقدر ما تبدو اللحظة مغرية للحوثيين للمضي قدما في هذا الاستعراض الزائف للقوة، حينا عبر إرسال الطائرات المسيرة إيرانية الصنع وحينا آخر عبر التلويح بشن حرب بحرية تشل مصالح الإقليم والعالم وتعطل خطوط الملاحة وإمدادات الطاقة، إلا أن ذلك الترف السياسي والعسكري الذي يمارسه الحوثيون اليوم بدون أي رادع ويقابل بصبر إستراتيجي من قبل الشرعية اليمنية والتحالف العربي، قد يكون أكبر فخ نصب للحوثيين الذين أساؤوا قراءة المشهد والتحولات الإقليمية والدولية اللافتة التي شهدتها الشهور الأخيرة منذ فشل جهود تمديد الهدنة الأممية في الثاني من أكتوبر الماضي.
وإذا كان صبر “الشرعية” اليمنية محكوما في الحقيقة بعوامل عديدة داخلية وخارجية وليس مجرد “حكمة” صرفة كما قد يبدو الأمر للوهلة الأولى، إلا أن ثمة تحولات هامة باتت تجعل من هذا “الصبر”، الذي تتحلى به الشرعية مكتفية بإطلاق تصريحات التحذير والتلويح بأن لهذا الصبر حدودا، مؤشرا على مسارات قادمة قد يشهدها الملف اليمني برمته على صعيد التغير الكبير في الخطاب الأممي والدولي الذي شهدناه إزاء التعنت الحوثي، في مقابل انكشاف شعارات الادعاء والمظلومية الحوثية الزائفة، بعد أن خدع صبر الشرعية والتحالف العربي الحوثيين، فحولوا خطاب “المظلومية” في لمحة عين إلى خطاب آخر تغلب عليه لغة العنف والتحدي والإصرار على الإيذاء والإمعان في التعنت ورفض السلام وهي صفات ظل الحوثي يخفيها خلف عباءة الاستكانة في لحظات الضعف والخور التي مر بها.
ولا تتوقف أخطاء الحوثي القاتلة عند الاستهانة بصبر الإقليم والعالم والتلويح بشل حركة الملاحة الدولية، ولا عند تعامل الحوثي باستخفاف مع بيانات الإدانة الأممية والدولية التي صارت أكثر وضوحا وتماسكا، بل أن أكبر أخطاء الحوثي اليوم يكمن في سوء قراءة التحولات التي يمر بها النظام الإيراني داخليا وخارجيا، والتي تجعل هذا النظام أمام مأزق وجودي كبير في حال استمرت هذه الاحتجاجات، أو مأزق أخلاقي واجتماعي في حال مضى قدما في وأد صوت الشارع الإيراني الذي لم يكن أكثر وضوحا مثل اليوم في المطالبة بإسقاط النظام الثيوقراطي المتخلف الذي أغرق البلاد في دوامات من العنف والإفقار وبدد ثروات الشعب الإيراني في تمويل فوضى اجتاحت المنطقة لعقود.
هذه التحديات لا تهدد وجود النظام الإيراني فقط بل حتى أذرعه في المنطقة، بما في ذلك الحوثيين الذين سيجدون أنفسهم فجأة في حال سقطت عمامة “خامنئي” بدون خبراء أو طائرات أو صواريخ لتهديد العالم، بقدر ما سيجدون أنفسهم أمام فاتورة كبيرة مستحقة الدفع للعالم والمنطقة وقبل ذلك الشعب اليمني المتحفز للخلاص من هذا الكابوس الحوثي الجاثم على صدره!
نقلاً عن “العرب” اللندنية