كريتر نت – متابعات
تزايدت مخاوف شركاء واشنطن العرب مما بات يسمى «الانسحاب الأميركي البطيء من المنطقة». ويرى خبراء استراتيجيون أن الالتزام الأميركي بأمن الخليج مازال قويا، رغم الخلاف الأميركي – السعودي الأخير بشأن أسعار النفط. ومع ذلك فإن الأساس النظري لالتزام أميركا بأمن الخليج الذي يجسده “مبدأ كارتر” يحتاج إلى تحديث وإعادة تأكيد.
وكان الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر قد أطلق مبدأه الشهير بشأن أمن الخليج في العام 1980، مؤكدا التزام الولايات المتحدة بالتدخل لمنع أي قوة خارجية من السيطرة على المنطقة، بما في ذلك التصدي لأي عدوان على دول الخليج العربية كما حدث مع الغزو العراقي للكويت عام 1990.
لكن مشهد طوابير الدبابات التي تخترق الصحراء لم يعد من بين كوابيس الأمن لدول الخليج في القرن الحادي والعشرين؛ فالمخاوف الآن تتركز على الصواريخ الموجهة بالغة الدقة، وهجمات الصواريخ والطائرات المسيرة، وهجمات التنظيمات غير الرسمية والمجموعات الإرهابية و”مجالات الحرب الرمادية” مثل الهجمات الإلكترونية والأشكال الجديدة المعقدة من أعمال التخريب، كما يقول المحلل السياسي حسين إبيش لوكالة بلومبرغ.
وبسبب بعض النكسات، مثل رفض الرئيس السابق دونالد ترامب الرد على الهجوم الصاروخي الإيراني على منشآت شركة النفط السعودية العملاقة أرامكو عام 2019، تزايدت في الخليج شكوك شركاء واشنطن في ما يمكن أن يدفع واشنطن إلى التحرك العسكري ضد التهديدات التي تستهدف أمنهم.
ويرى إبيش، وهو كبير باحثين مقيم في “معهد دول الخليج العربية” بواشنطن، أن إدارة الرئيس جو بايدن تبدو في المقابل عازمة على التعامل مع دورها الأمني في الخليج بجدية أكبر؛ ففي الشهر الجاري، بعد اكتشاف المملكة العربية السعودية تهديدات شبه مؤكدة تفيد بأن إيران تنوي مهاجمتها بالصواريخ أو بالطائرات المسيرة، انطلقت الطائرات الأميركية المقاتلة وحلقت بالقرب من الأجواء الإيرانية في استعراض قوي للردع. وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي بشكل قاطع “لن نتردد في التحرك دفاعا عن مصالحنا وشركائنا في المنطقة”.
وكان يجب أن يحظى هذا التحرك الحاسم باهتمام أكبر من المعتاد في المنطقة. ثم جاء الجهد الأميركي الهائل الجديد في مجال الأمن البحري في الخليج وبحر العرب والمياه المجاورة.
ولكي تؤمّن تدفق الطاقة وحركة السفن التجارية، إلى جانب الأمن البحري بشكل عام، أنشأت واشنطن ونشرت منظومة مراقبة بالغة التطور تعرف باسم “ديجيتال أوشن”. وهذه المنظومة ستساعد بشكل خاص على حماية نقاط العبور البحرية الحيوية الثلاث في الشرق الأوسط وهي قناة السويس ومضيق باب المندب على مدخل البحر الأحمر، ومضيق هرمز في الخليج العربي.
وتضم هذه المنظومة الأمنية التي تقودها “قوة العمل 59” التابعة للأسطول الخامس الأميركي أنظمة مراقبة بحرية وجوية مسيرة بفضل أحدث الابتكارات التكنولوجية، حيث يتم التنسيق بين كل مكوناتها بشكل فوري. وتُقَيّم أجهزة تعمل بالذكاء الاصطناعي المعلومات التي تجمعها الكاميرات وأجهزة الرادار ووحدات الاستشعار لتكوين صور ثلاثية الأبعاد يتم تحديثها على الفور لكل السفن العاملة في المناطق البحرية الواسعة. وعندما ترصد أجهزة الذكاء الاصطناعي أي تحرك غير معتاد أو لا يمكن تفسيره يتم تبادل المعلومات بسرعة، وإجراء المزيد من التحقيقات حولها باستخدام طائرات مسيرة أخرى وعناصر بشرية. ويتولى مشغلون في ولاية كاليفورنيا الأميركية تشغيل هذه الأنظمة والربط بينها عبر الأقمار الاصطناعية.
ورغم أن الولايات المتحدة هي رأس الحربة في هذا الجهد، فإنها ليست وحيدة. ويقول الأدميرال براد كور قائد الأسطول الخامس الأميركي إن “الهدف هو نشر 100 قارب مسير غير مأهول للقيام بدوريات في مياه الخليج بنهاية صيف العام المقبل، بحيث يكون 20 في المئة منها من الولايات المتحدة، و80 في المئة من الشركاء الإقليميين والدوليين”. ويقول إبيش الحاصل على الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة ماساتشوستس الأميركية إن “هذا النوع من التطور الأمني يظهر بوضوح ليس فقط عمق التزام الولايات المتحدة بأمن المنطقة وإنما أيضا رغبة حلفائها في تقاسم عبء هذا الأمن”.
وسوف تُستخدم هذه المنظومة الأمنية في المناطق البحرية الحساسة حول العالم. لكن نشرها أولا في الخليج العربي دليل واضح على جدية الولايات المتحدة في التعامل مع الأمن الإقليمي في المنطقة. ورغم تداعياتها السياسية الضخمة مازالت منظومة “ديجيتال أوشن” غير معروفة بدرجة كبيرة لدى الرأي العام المحلي، كما لم يدركها المحللون وقادة الرأي العام الذين ينتقدون واشنطن باستمرار بسبب انسحابها المفترض من المنطقة والتركيز على الصين ومنطقة المحيط الهادئ.
وكان الاستعداد الأميركي للوقوف أمام إيران خلال الشهر الجاري، بنشر منظومة “ديجيتال أوشن”، بمثابة رد فوري مؤكد على أي تهديد وشيك. لكن على واشنطن أن تنظر إلى الأمر على مدى أطول من خلال التوضيح الدقيق لكيفية تطبيق “مبدأ كارتر” في القرن الحادي والعشرين، وما هي أشكال التهديدات التي تستوجب ردا عسكريا أميركيا؛ فدول الخليج العربي تحتاج إلى معرفة متى ستتحرك الولايات المتحدة للدفاع عنها بشكل دقيق.
إن تحديث “مبدأ كارتر”، إلى جانب جهود الردع طويلة المدى مثل “ديجيتال أوشن”، يمكن أن يبدد بشكل كامل سوء الفهم الخطير والاعتقادَ في أن الولايات المتحدة تنسحب من الشرق الأوسط وتتخلى عن شركائها في منطقة الخليج.