عماد عبد الحافظ
كاتب مصري
جاءت دورة كأس العالم هذا العام مميزة عن مثيلاتها من الدورات السابقة، حيث تقام لأول مرة على أرض عربية، كما أنّها الدورة التي تم رصد ميزانية لتنظيمها هي الأضخم في تاريخ المونديال، لكنّها أيضاً هي الدورة الأكثر إثارة للجدل والمحاطة بزخم كبير وعدد من الصراعات والأزمات المختلفة البعيدة عن مضمون المونديال والمنافسة الكروية، فبرغم أنّ الحدث معتاد ومتكرر منذ عشرات الأعوام، وقامت بتنظيمه دول مختلفة تنتمي لثقافات وديانات متعددة وتتراوح أوضاعها الاقتصادية والسياسية بأشكال متباينة، وبرغم ما كان يحدث من استغلال للمونديال من الناحية السياسية والحقوقية، وما كان يتم توجيهه من انتقادات لأوضاع بعض الدول المنظمة له؛ إلا أنّه كان يمر بشكل طبيعي نوعاً ما، لكنّ الأمر كان مختلفاً بشكل كبير هذه المرة، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن السبب في ذلك.
المونديال بعيون عربية
وضعت قطر عدداً من الشروط والضوابط على سلوك المشجعين الذين أتوا من الدول الأخرى لمشاهدة المباريات، ورفضت بعض الممارسات والتعبير عن الآراء تجاه بعض القضايا، وقد أثار ذلك استياء العديد من وسائل الإعلام الغربية التي شنّت هجوماً على قطر رافضة تلك القيود، ومنتقدة كذلك بعض الأوضاع الداخلية في قطر والمتعلقة بالمونديال، ويرى بعض المراقبين أنّ مثل تلك الشروط هي أمر طبيعي من حق الدولة المستضيفة، في حين يرى آخرون أنّ هذا أمر مستهجن؛ لأنّه لم يسبق أن وضعت دولة منظمة للمونديال من قبل شروطاً كتلك التي وضعتها قطر، ويرون أنّ قطر وضعت تلك الشروط في وقت سابق على بداية المونديال بفترة قصيرة، وبعد حجز تذاكر السفر، ممّا يُعدّ نوعاً من القهر وفرض الأمر الواقع على المشجعين، لكنّ الأمر لم يقف عند حدّ الشروط والضوابط، بل تعداه إلى مجموعة من الإجراءات التي اتخذتها قطر، وبعض الإسلاميين المقيمين هناك، والذي بدا معه المونديال، وفق مراقبين، كأنّه مناسبة دينية يسعون لتوظيفها حتى يدخل الناس في الدين أفواجاً؛ مثل استدعاء دعاة من خارج قطر لإلقاء محاضرات حول الإسلام، وتنظيم إسلاميين لمجموعات تُعرّف المشجعين غير المسلمين بالإسلام في الشوارع.
وعلى جانب آخر، بدا قطاع من المجتمع من المتأثرين بخطاب التيار الإسلامي متحفزاً تجاه أحداث المونديال، وتحوّل الأمر في نظره من فاعلية رياضية إلى صراع حضاري وديني موضوعه الهوية، وبدأ الحديث عن استهداف الإعلام الغربي لقطر وانتقاده لبعض الأوضاع فيها فقط لأنّها مسلمة، ولأنّ الغرب لا يريد أن يتقدم المسلمون، على الرغم من أنّ تاريخ المونديال يقول إنّ مثل تلك الانتقادات تم توجيهها من قبل لدول غربية منظمة بسبب أوضاع داخلية كذلك، مثلما حدث من قبل في الأرجنتين وفرنسا وروسيا في حملات امتدت إلى الدعوة للمقاطعة، وتحول الأمر وكأنّه حرب على الدين وعلى المسلمين.
وجاءت حلقات إحدى برامج قناة الجزيرة تحت عنوان “الهوية قبل الهواية” في بداية المونديال تتناول دفاعاً عن الإجراءات والشروط التي وضعتها قطر، وتتحدث عن قضية الهوية وضرورة الدفاع عنها في إطار المونديال، كما جاء في تدوينة لأحد قيادات الجبهة السلفية يقول: “من ثمرات كأس العالم هذا أنّه فتح معركة الصراع الحضاري وصراع القيم والأخلاق بيننا وبين الغرب، الآن يقف الغرب مدافعاً عن الفجور وهو على أرضنا وبين شعبنا يحاول إخضاعنا”، وآخر يقول: “إنّ أيّ انتصار لبلد عربي أو إسلامي على أيّ بلد غير إسلامي في أيّ مجال هو انتصار للهوية العربية والإسلامية”، ويقول آخر: “استطاعت قطر أن تحقق فوزاً غالياً في ساحة القيم والأخلاق، وقدّمت نموذجاً للصمود في الثبات والدفاع عن الدين والهوية”، وعلى جانب آخر يهاجم بعض الرموز الإسلامية تنظيم دولة عربية لكأس العالم من منظور ديني يرى أنّ كرة القدم ما هي إلّا أداة استعمارية لإلهاء الشعوب، وأنّ تنظيم دولة عربية لحدث كهذا فيه الكثير من المخالفات الدينية التي تجعل تنظيم المونديال غير جائز شرعاً.
أزمات المونديال… أسباب ودلالات
يمكننا القول: إنّ هناك عدة أسباب لظهور تلك الأزمات على هامش المونديال، وإنّ تلك الأزمات لها دلالات تعكس طبيعة الواقع العربي المأزوم، أمّا عن الأسباب، فإنّ ذلك ينتج عن سبب رئيس يتمثل في طبيعة نظرة الفرد العربي لنفسه وللآخر الغربي، حيث يقع بين نقيضين، فهو من ناحية يشعر بالضعف والتراجع أمام الآخر، وفي الوقت ذاته ينظر إلى نفسه بصورة استعلائية طهرانية تضخم الذات، ويرى نفسه الأفضل على الإطلاق، وينظر إلى الغرب على أنّه دائماً يحارب الإسلام، ويسعى لهدمه وصرف المؤمنين به عنه، ولذلك تم تفسير العديد من الأمور من هذه الزاوية، فنظر إلى الغرب وكأنّه جاء لنشر الفساد في بلاد المسلمين، ونظر إلى انتقاد بعض وسائل الإعلام الغربية لبعض الممارسات في قطر على أنّها من قبيل المؤامرة على المسلمين وبسبب الغيرة والحقد عليهم. وهذه النظرة ليست بجديدة، لكنّها تعبّر عن أزمة يعيشها العقل العربي منذ أعوام طويلة، منذ أن وطأت أقدام الفرنسيين مصر في نهاية القرن الـ (18)، حينها أدرك العقل العربي حجم الهوة بين العالمين العربي والغربي، فقد رأى مدى تقدّم آلته العسكرية وما يقف وراءها من تقدّم علمي وفكري؛ منذ ذلك الحين أصابت العقل العربي صدمة حضارية راح يبحث على إثرها عن سبب تلك الهوة وعن كيفية سدها أو ترميمها قدر الإمكان، وتعددت الأجوبة واختلفت الآراء وتنوعت محاولات الإصلاح، ونشأت التيارات الفكرية تبعاً لاختلاف الرؤى في توصيف الواقع ووضع الحلول، ومن بين تلك التيارات تيار عريض ما يزال مؤثراً حتى اليوم، رفض الاعتراف بالقصور والتراجع، فراح يتمترس خلف هويته وانغلق على نفسه رافضاً كلّ ما يأتي من الخارج من أفكار، حتى جاء الغرب إلى بلاد العرب اليوم في مناسبة رياضية، وجاء في دولة تتميز بالثراء، فراحت تتفنن في إبرازه ظناً بأنّ هذا هو معيار التفوق الوحيد، وأخذ الكثيرون يشعرون بالفخر، وبأنّ الدورة الحضارية قد أخذت في التحرك ليصبح المسلمون هم الغالبون وليسوا المغلوبين، وهم المتبوعون وليسوا التابعين، وتحوّل الأمر من مناسبة رياضية إلى مناسبة دينية وفكرية، ومن منافسة كروية إلى صراع حضاري وثقافي، وأصبح صراع الهوية هو عنوان المونديال، لكنّ الأزمات والحوارات المتداولة على هامش المونديال كشفت عن أنّ المال وحده لا يكفي لتقدم أمّة طالما ظل عقلها وفكرها مأزوماً، كما ينتج عن هذه النظرة وجود رغبة في الشعور بالقدرة على فرض ثقافتنا على الآخر الذي جاء إلينا مشاركاً في حدث عالمي نقوم بتنظيمه لأول مرة بمستوى مبهر مادياً، وكأنّ لسان الحال هو: فلنفرض اليوم قوانينا وثقافتنا عليكم، ولو مرّة واحدة، وتولد شعور كاذب بأنّه يمكن للمسلمين التفوق على الغرب فقط بقدرتهم على تنظيم كأس العالم بإمكانات مادية ضخمة.
وفي هذا السياق، يوضح الدكتور أشرف منصور أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية في تصريح لـ”حفريات” أسباب ظهور تلك الأزمات والصراعات الدينية والثقافية حول قضية الهوية وقضايا أخرى على هامش المونديال، فيقول: “المونديال كان فرصة للاحتكاك بين ثقافتين؛ إحداهما ثقافة شرقية تقليدية، والأخرى ثقافة ما بعد الحداثة الغربية، وهذا الاحتكاك أبرز التناقض بينهما، كما أبرز سلبيات كلّ طرف منهما، وتلك الثقافة التقليدية تمثل ثقافة قروسطية تنتمي للقرون الوسطى لم يصبها التحديث، ولم تستطع أن تتكيف مع العصر الحديث، فهي خارجة عن الواقع المعاصر، وتنتج تلك الثقافة عقلاً منغلقاً على ذاته، يفكر بطريقة حدّية، ويؤمن بالمطلقات، وهذا ما يدفعه إلى تقسيم العالم إلى حق وباطل، ومشكلة الإنسان العربي أنّه تائه في هذا العالم، فهو لم يحقق إنجازاً يساهم به في الحضارة الحديثة، كما أنّه يشعر بالانسحاق؛ ولذلك فهو يسعى لتعويض ذلك الشعور بالاهتمام البالغ بقضية الهوية والحديث عنها دوماً”.
أمّا عن الدلالات، فإنّ تلك الأزمات الحادثة على هامش المونديال تعكس بعضاً منها، ففي البداية يضع الدكتور أشرف منصور يده على نقطة مهمة، تبرز إحدى هذه الدلالات، حيث يعقد مقارنة بين المونديال وبين مؤتمر المناخ الذي عُقد بمدينة شرم الشيخ في فترة زمنية متقاربة، ويرى أنّ اهتمام الناس البالغ في مجتمعنا العربي بالمونديال وبالقضايا المثارة حوله في مقابل عدم الاهتمام بمؤتمر المناخ رغم أهميته بالنسبة إلى مصير كوكب الأرض، كله يعكس السطحية التي يتسم بها العقل العربي الذي لا يعبأ كثيراً وبالقدر المطلوب بالقضايا المهمة التي تؤثر على مستقبل البشرية، بينما يمنح اهتمامه البالغ لمناسبة رياضية ولبعض القضايا الفكرية التي لا تساهم في إصلاح واقعه وتقدمه، كما تعكس أزمات المونديال أنّ الثقافة العربية السائدة غير قادرة على استيعاب الآخر وتقبل وجوده والاختلاف معه، وأنّ قيمة الحرية لديها عليها كثير من القيود بشكل يجعل ممارسة العرب للحرية في المجتمعات الغربية أكثر من قدرتهم على ممارستها في مجتمعاتهم، وأكثر من قدرة الغربي على ممارستها كذلك في المجتمعات العربية، كما تعكس تلك الأزمات الاهتمام بالمظاهر والشكليات بشكل أكبر من الجوهر والمضمون، مثلما رأينا في نموذج بعض الإسلاميين في قطر الذين يحرصون على تحقيق أعلى معدل لدخول أفراد جدد في الإسلام في دقائق معدودة، بغضّ النظر عن كيفية ذلك ونتائجه ومضمونه.
أولويات الإصلاح في المجتمع العربي
ما سبق يجعلنا نطرح سؤالاً حول أولويات الإصلاح في المجتمعات العربية، وهل مجرد وجود إمكانات مادية ووضع اقتصادي جيد يكفي لأن يتقدم المجتمع؟ وهل الحل فقط في إجراء إصلاحات سياسية في الدولة دون الاهتمام بالبنية الثقافية وبالإصلاح الفكري في المجتمع؟
في الحقيقة؛ إنّ واقع المجتمعات العربية في الأعوام الأخيرة، ومنذ ثورات الربيع العربي التي تركزت الجهود المبذولة في سياقها على الإصلاح السياسي بشكل أكبر، وعلى تغيير الأنظمة الحاكمة؛ قد أثبت أنّ هذه الإصلاحات غير كافية ما لم يحدث تغيير وتطور في الثقافة التقليدية السائدة، وفي البنية الفكرية للمجتمع المتمثلة في الأفكار وأنماط التفكير ومنظومة القيم الموجودة فيه، وفي هذا السياق يتحدث الأستاذ سعيد ناشيد الباحث والمفكر المغربي موضحاً أولويات الإصلاح في المجتمع العربي، ويرى أنّه يتمثل في الإصلاح الوجداني، ويقول في تصريح لـ”حفريات”: “الإصلاح الوجداني أوّلاً؛ بمعنى قدرة الإنسان على أن يتحكم في رغباته وانفعالاته وأفكاره، فنحن شعوب تغلب عليها الانفعالات السلبية، ونحن سريعون إلى الغضب والحزن والغيرة والحقد، يسهل تجييشنا ضد هذه الجهة أو تلك، إلى هذا النوع أو ذاك، يسهل دغدغة مشاعرنا، ويسهل أن نشتري الأوهام والانتصارات الوهمية، وبذلك النحو لا نتصرف وفق مصالحنا الحقيقية، بل نتصرف وفق الأهواء والأوهام، وهذا كله بسبب الخلل الوجداني الذي يجعل العقل هو الحلقة الأضعف في ذواتنا، فالإصلاح الوجداني معناه تنمية القدرة على إدارة انفعالات الذات ورغباتها، والقدرة على التفكير النقدي ومساءلة مسلّمات الذات، والقدرة على التصرف الحكيم، معناه الذكاء العقلي والعاطفي أيضاً”.
ومن هنا، فالواقع العربي لن يتقدّم، ولن تُحلّ أزماته العميقة، ما لم يحدث تغيير في بنيته الفكرية، وفي منظومة الأفكار الحاكمة لعقله.
المصدر حفريات