كريتر نت – متابعات
تفرض التغيرات الجيوسياسية العالمية على دول الشرق الأوسط إعادة تقييم جماعي للمسائل، ستقودها إلى عقد تحالفات جديدة يطلق عليها المفكر المصري عبدالمنعم سعيد مفهوم “الإقليمية الجديدة”، أي تلك التي بدأت بالفعل تتكون مشكلة نسيجا من الشراكات، التي لا تزال عاجزة حتى الآن عن مواجهة الأزمات المزمنة في المنطقة، ومنها موقع إسرائيل الذي يضعها كمعادلة صعبة.
وتمثل الحالة الإقليمية مكانة وسطا في التحليل السياسي الدولي ما بين حالة الدولة الوطنية وإطارها “الجيوسياسي”، تعاونا وتنافسا، والنظام الدولي المعبّر عن توزيع القوة الهرمي بين القوى الرئيسية في العالم. وفي هذا الموقع الوسطي، تولدت روابط إقليمية قامت أحيانا على التحالف العسكري، وأحيانا أخرى على العلاقات الاقتصادية. ولعل الغرض الدائم من الروابط الإقليمية هو الاستفادة من القرب الجغرافي، وبزوغ تهديدات ومصالح مشتركة بين الدول.
وانطلاقا من ذلك، تناول الكاتب والمفكر المصري عبدالمنعم سعيد في مقال بموقع المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، التفاعلات والتحالفات الإقليمية المتوقعة في منطقة الشرق الأوسط خلال عام 2023، استنادا إلى السوابق التاريخية، والتطورات التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الماضية، خاصة على صعيد الدول الرئيسية الفاعلة في الإقليم.
تحالفات متنوعة
يقول عبدالمنعم سعيد إن الشرق الأوسط عرف العديد من أشكال التحالفات العسكرية، والتي تمثلت في معاهدة الدفاع العربي المشترك، وفي حلف بغداد، ومن بعده الحلف المركزي. ولكن من الناحية الاقتصادية، فإن الروابط الإقليمية بزغت في إطار من التهديدات الدولية أو الإقليمية.
وأثناء الحرب العالمية الثانية مثلا، وجدت بريطانيا أنه لابد من وضع آلية يمكن من خلالها التعامل مع الأوضاع الاقتصادية المتعثرة، بفعل عمليات الغواصات المتقاتلة في البحر المتوسط.
وفي أبريل 1941، أنشأت بريطانيا ما سمي بـ”مركز إمداد الشرق الأوسط”، لكي يوفر الحاجات الأساسية من الغذاء والدواء، سواء كان ذلك بالاستيراد من مناطق أخرى، أو من خلال تشجيع الإنتاج المحلي، أو التعاون الإقليمي الذي كان نقطة البداية فيه بين مصر وفلسطين وسوريا. وتمدد هذا المركز خلال فترة الحرب آنذاك، وخفف من آلامها، وتشجعت صناعات محلية على تعويض المفقود الناتج عن العمليات الحربية.
ويقول المفكر المصري إن عمل ذلك المركز انتهى مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن الجائز أن فكرة الحاجة إلى التعاون الإقليمي ظلت باقية، وربما كانت من الدوافع وراء إنشاء جامعة الدول العربية.
وتراوحت التجارب الإقليمية في الشرق الأوسط بين محدودية النتائج والفشل الكامل، لأسباب كثيرة تعود إلى طبيعة الدولة الوطنية، والضغوط التي أوقعها الصراع العربي – الإسرائيلي على الدول العربية. ولم يكن العقدان الأولان من القرن الواحد والعشرين رحيمين بالعرب عندما تراوحت أحوالهم بين الجمود خلال العقد الأول، والثورة في العقد الثاني والتي سُميت بـ”الربيع العربي”.
والنتيجة الأساسية لهذه المرحلة، وفق سعيد، كان أولها بزوغ الإسلام السياسي كقوة ساعية إلى شكل “الخلافة الإسلامية” كرابطة بين دول المنطقة، وثانيها الحروب الأهلية والنزاعات العنيفة الداخلية بين قوى سياسية وطائفية، وثالثها أن الدول غير العربية الإقليمية، خاصة إيران وتركيا، عملت على استغلال “حالة الخلل الثوري” من أجل التدخل في مجمل الإقليم العربي، ورابعها واعتبارا من عام 2015 شهد الإقليم الكثير من التطورات التاريخية في المنطقة، لا يزال بعضها عاكسا لانهيارات ما بعد الثورات ونجمت عنها اعتداءات عسكرية قامت بها ميليشيات موالية لإيران ضد السعودية ودولة الإمارات، ولكن بعضها الآخر ولّد موجات من الإصلاح القائم على مفهوم الدولة الوطنية ذات الحدود المقدسة، والهوية التاريخية لمواطنين متساوين في الحقوق، ومشروع وطني للتنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.
ويوضح المحلل المصري أن نتيجة تلك المرحلة كانت حالة من الفرز في التحالفات الإقليمية، حيث تكون “التحالف الرباعي” المكون من السعودية والإمارات ومصر والبحرين، وجميعها من “دول الإصلاح”، في مواجهة محور إقليمي آخر كانت بعض دوله داعمة لجماعة الإخوان المسلمين.
“الإقليمية الجديدة”، غزلت نسيجا من العلاقات التعاونية في مجالات شتى، ولكنها لم تخرج إسرائيل من المأزق الفلسطيني
ومن الذائع في علم العلاقات الدولية أن السياسات الخارجية للدول ترتبط كثيرا بالسياسات الداخلية لها وكان طبيعيا، وفق ذلك، أن يترتب على عمليات الإصلاح الداخلي واسعة النطاق، السعي إلى إعادة ترتيب العلاقات الإقليمية.
والإصلاح هكذا حالة متعددة الأبعاد ولكنها لا تستمر ولا تؤتي ثمارها إلا بالكثير من الاعتدال للفكر ورفض التطرف، ليس فقط في الساحات الداخلية للدول، وإنما كذلك في ساحاتها الخارجية. والقول الشائع دائما هو أن “دول الإصلاح” تسعى إلى “تصفير الصراعات والمشاكل”، وهذه الدول بحكم طبيعتها التنموية تخلق شبكات من العلاقات القائمة على مصالح أمنية وسياسية واقتصادية مشتركة تُسهل عمليات التنمية وتعالج المطبات العالمية والإقليمية.
وأخذت أشكال جديدة من الدبلوماسية والسياسة طريقها إلى الساحة الإصلاحية، وهنا فإن تخطيط الحدود البحرية بين مصر والسعودية لم يفصل بين البلدين، وإنما قربهما من بعض، حينما خلق مشروعات كبرى لتنمية شمال غرب المملكة في إقليم “العُلا”، لكي تلتقي مع التنمية في شمال شرق جمهورية مصر العربية في سيناء، بحيث يقدمان حزاما سكانيا جنوب فلسطين وإسرائيل والأردن.
كذلك، فإن تخطيط الحدود البحرية بين مصر وكل من قبرص واليونان، فتح مجالا واسعا لمنتدى غاز شرق المتوسط لكي يجمع بين فلسطين وإسرائيل والأردن، وثلاث دول أوروبية: قبرص واليونان وإيطاليا، في تجمع اقتصادي تكون مصر فيه هي المركز والمعبئة للموارد لصالحها وصالح جميع الأطراف.
ويرى عبدالمنعم سعيد أن هذا النهج في العلاقات الإقليمية فتح الباب لعدد من الروابط الإقليمية الجديدة، بعضها ظل قليل الأثر، إلا رابطة التشاور المستمر مثل محاولة قيام ما سمي بـ”الشام الجديد” الذي يربط بين مصر والأردن والعراق. ولكن هذه فتحت الباب لمرور “خط الغاز العربي” من مصر إلى الأردن فسوريا ليصل إلى لبنان، الذي نجح بدوره في توقيع اتفاق الخطوط البحرية مع إسرائيل واقتسام حقل الغاز بينهما.
الطريق إلى 2023
شكل “بيان العُلا” الذي خرج عن قمة مجلس التعاون الخليجي في الخامس من يناير 2021، مجالا للتهدئة في الإقليم، وإزاحة العقبات في العلاقات القطرية مع دول الرباعية العربية، وعودة العلاقات بين دول الخليج إلى طبيعتها، وفتح أبواب الدبلوماسية والسياسة مع إيران وتركيا، والاقتراب المختلف إلى إسرائيل من خلال اتفاقيات السلام الإبراهيمي، ومن قبله منتدى غاز شرق المتوسط، واجتماع النقب الذي حضرته 4 دول عربية مع إسرائيل والولايات المتحدة، مع نية تطوير أشكال مختلفة من التعاون والتنبيه إلى أن القضية الفلسطينية لا تزال باقية وحاضرة. كما قامت مصر وإسرائيل بتوقيع اتفاق مع الاتحاد الأوروبي لإمداد الأخير بالغاز المسال لتعويض دوله عن خسائر الغاز الروسي، الذي بات مستعصيا على الحضور بسبب الحرب الأوكرانية.
ويتوقع الكاتب المصري أن تقوم “الإقليمية الجديدة” في عام 2023 على نسج علاقات ومصالح يجري إنضاجها على نار هادئة، وتكون مهمتها الاستجابة لمصالح قائمة ومتوقعة، وباختصار فإنها تضيف إلى قوة الدولة وسعادة شعبها، وفي الوقت نفسه تخلق توازنات جديدة ليست فيها الشعارات المألوفة عن الوحدة العربية، وإنما يوجد فيها الترويض والاستيعاب لقوى دولية وإقليمية. فهي نوع من “الصبر الإستراتيجي”، والقدرة على إقامة الجسور من دون تعجل، المركب العربي فيها واضح، يبادل ويوفق مصالح.
وفي هذا الصدد، فإن لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن مع قادة تسع دول عربية في منتصف يوليو 2022، ثم القمة الصينية – العربية في السعودية في التاسع من ديسمبر الحالي، يوضحان إلى أي حد تتغير توازنات القوى في المنطقة، ليس فقط عسكريا واقتصاديا، وإنما أكثر من ذلك ثقافيا، حيث أصبح “التجديد الفكري” دينيا ومدنيا وأكثر من ذلك استيعاب التقدم وشروطه.
لكن، داخل المنطقة العربية لا تزال أزمات “الربيع العربي” قائمة، والمحيط الإقليمي لا تزال له عقده. وبالرغم من مرور نحو 43 عاما على اندلاع الثورة الإيرانية في عام 1979، فإن فكرة “الدولة” لا تزال على مسافة بعيدة من “الثورة”.
كذلك، فإن تركيا بالرغم من النجاح الذي حققته في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، فإنها دخلت إلى مرحلة حائرة بين حلمها القديم بأن تكون جزءا من الاتحاد الأوروبي، وواقعها “الجيوسياسي” الذي يجعل حدودها تتخبط بجوار الصدام الروسي – الأوكراني وصدامات آسيا الوسطي، بينما يبقى الحلم التركي لما بعد كمال أتاتورك أن يكون هناك مجال لـ”فتح عثماني جديد”.
ومن جانبها، فإن إسرائيل سوف تظل “عُقدة العقد” بموقعها في وسط الإقليم العربي، وبطاقات القوة الكبيرة لديها، سواء كانت ذاتية أو بحكم العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب.
واختتم الكاتب تقريره بالقول إن “الإقليمية الجديدة”، حتى الآن، غزلت نسيجا من العلاقات التعاونية في مجالات شتى، وبعثت الحياة في مثيلاتها التي مضت، ولكنها لم تخرج إسرائيل من المأزق الفلسطيني على أرض الواقع. وما تحتويه كل هذه الإشكاليات من معضلات، يخلق فرصا صغيرة وكبيرة، أهم ما فيها أنها يمكن أن تتجسد في الواقع من دون اعتماد على قوى خارجية.