منال نحاس
يرى هنري كيسنجر في مقالة نشرها موقع “ذي سبكتايتور” البريطاني أن العالم، أوروبا تحديداً، أمام مفترق طرق حاد لا يستخف به شأن مفترق الحرب العالمية الأولى الذي انساقت إليه دول غرب أوروبا وقوض قوتها.
وأودت الحر بملايين القتلى. وأميركا وأوروبا أمام مفترق طرق من هذا القبيل للحؤول دون سقوط مزيد من القتلى إذا تركت المعارك العسكرية على غاربها في حسم المسائل، ولا بد من أن تُسلك طريق المفاوضات.
ويخلص إلى أن أوكرانيا صارت قوة كبرى في أوروبا الوسطى في سابقة من نوعها في التاريخ المعاصر. فقوضت بمساعدة حلفائها وقيادة فلوديمير زيلينسكي القوة التقليدية الروسية التي كان خطرها يهيمن على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. والنظام الدولي- والصين ضمناً- يعارض لجوء موسكو إلى السلاح النووي.
وينبه مستشار الأمن القومي الأميركي الأشهر إلى أن هذه التطورات غيرت طبيعة مسألة انضمام أوكرانيا إلى الناتو. فهي صارت صاحبة أكثر القوات البرية [القارية] نجاعة وأكبرها حجماً في أوروبا. وحري بعملية السلام أن تربط أوكرانيا بالناتو. فخيار الحياد لم يعد يعتد به بعد انضمام فنلندا والسويد إلى “الأطلسي”.
ويذكر كيسنجر أنه في مايو (أيار) الماضي، أوصى بإرساء خط وقف إطلاق نار بناء على الحدود حيث بدأت الحرب في 24 فبراير (شباط).
فإذ ذاك “يسع روسيا احتساب التقدم الذي أحرزته هناك من دون استعادة المناطق التي احتلتها قبل عقد، بما فيها القرم [في 2014].
وهذه الأراضي تكون مدار تفاوض بعد وقف إطلاق النار. ولكن إذا كانت العودة إلى الخط الفاصل بين أوكرانيا وروسيا متعذرة من طريق القتال أو التفاوض، ففي الإمكان النظر في احتمال اللجوء إلى مبدأ تقرير المصير في الأراضي التي انتقلت طوال قرون من يد إلى أخرى مراراً وتكراراً”.
وإشارة كيسنجر إلى موقفه قبل نحو عام، تسلط الضوء على تباين بين موقفه حينها في دافوس وموقفه اليوم على رغم تمسكه بالدعوة ذاتها: تفادي تهميش روسيا. ففي 27 مايو، شارك في منتدى دافوس عن بعد. وحث واشنطن وأوروبا على الإحجام عن السعي إلى تهميش روسيا أو إلحاق هزيمة بها، ودعا الأوكرانيين إلى الصدوع بخسارة شطر من أراضيهم في 2014 (ضم روسيا شبه جزيرة القرم) في سبيل طي صفحة الحرب ووقفها. ولكنه اليوم عزف عن دعوة الأوكرانيين إلى قبول خسارة أراضيهم، وأقر بمكاسب أوكرانيا ومكانتها الجديدة لاعباً وازناً في أوروبا.
والغاية من عملية السلام على قول كيسنجر مزدوجة: التوكيد على حرية أوكرانيا ورسم وجه بنية نظام [أمني] عالمي جديد، تحديداً في أوروبا الوسطى وشرقها. وفي مثل هذا النظام لا مفر من أن تجد روسيا مكانها فيه.
“ويرى بعضهم أن الحل المثالي هو جعل الحرب روسيا “بلا حول أو قوة”، أي أن تقتلع الحرب شوكة روسيا، وتصبح مفككة وغير قادرة على ضبط مركزي لشعوبها المتعددة من جهة وإقصائها من أي دور دولي، من جهة أخرى. ولكن كيسنجر يخالف هذا الرأي قائلاً “على رغم ميلها إلى العنف، روسيا قدمت مساهمات حاسمة لحماية التوازن الدولي وتوازن القوى طوال 500 سنة”. ويدعو إلى الحفاظ على دورها التاريخي و”عدم تقويضه”.
والنكسة العسكرية الروسية لم تطح قدراتها النووية النافذة.
وهذه القدرات وراء تمكينها من تهديد أوكرانيا بالتصعيد.
وعلى رغم تراجع قواتها، حل روسيا [فرط عقدها] أو إطاحة قدرتها على التزام سياسة استراتيجية يودي بأقاليمها الممتدة على نطاق 11 منطقة زمنية إلى فراغ متنازع عليه. فأقوامها المتنافسة قد تقرر حل خلافاتها من طريق العنف.
وقد تسعى دول أخرى إلى توسيع مطالبها بواسطة القوة. وهذه المخاطر يفاقمها وجود ترسانة من آلاف الأسلحة النووية.
وهذه الترسانة ترتقي بروسيا إلى مصاف ثاني أكبر قوة نووية في العالم.
ومع سعي قادة العالم سعياً حثيثاً إلى طي صفحة حرب في بلد مسلح تقليدياً ومدار تجاذب بين قوتين نوويتين، حري بهم النظر إلى أثر هذا النزاع ونتائجه على الذكاء الصناعي والتكنولوجيا المتطورة واستراتيجياتها الطويلة الأمد. ويبدو أن كيسنجر يحث قادة العالم على احتساب مخاطر المستجدات والمنعطف في تاريخ العالم: بروز الأسلحة الذاتية العمل [المؤتمتة].
وهذه “موجودة وقادرة على تحديد أهدافها وتقدير مكامن قوتها واستهداف المخاطر التي تحددها. فهي، عليه، في وضع يخولها شن حربها الخاصة. ولكن ما إن تتجاوز العتبة وتتحول التكنولوجيا إلى أسلحة عادية- وتلعب الكمبيوترات دور الفيصل في الاستراتيجيا- سيجد العالم نفسه في عالم لا يملك مفاهيم مكرسة لفهمه. ويتساءل كيسنجر من أين للقادة السيطرة على الكمبيوترات حين تحدد هي التعليمات الاستراتيجية على نطاق واسع وعلى نحو يقيد الدور البشري ويهدده؟ ومن أين للحضارة النجاة في مثل هذا التخبط والمعلومات المتضاربة والقدرات المدمرة؟
ويخلص إلى التذكير بأن “ثمة عناصر في السعي إلى السلام وإرساء النظام [غالباً ما] ينظر إليها على أنها متناقضة: السعي إلى عناصر تحفظ الأمن والحاجة إلى ما تقتضيه المصالحة.
وإذا لم يسعنا بلوغ هذين الشقين، السلام والنظام، تعذر علينا الحل. وقد تبدو الطريق إلى الدبلوماسية معقدة ومحبطة. ولكن سلك دربها يقتضي التحلي برؤية وشجاعة.
ويبدو أن أوكرانيا نجحت في انتزاع مكانة لها في حسابات كيسنجر، ولم يعد يستخف بدورها واستقلالها وتوقها إلى الحرية، وأن شاغله الأبرز اليوم هو الحيرة أمام توازن قوى جديد يبرز وسُبل تفادي حرب عالمية جديدة وإرساء أسس الاستقرار في عالم مجهول المعالم مع بروز دور الأسلحة المؤتمتة، وتوجسه من استقلال قرارها عن البشر.
المصدر أندبندنت عربية