كريتر نت – متابعات
لا تزال مراكز البحوث والدراسات منشغلة بتحليل أبعاد زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى المملكة العربية السعودية وانعقاد القمة العربية – الصينية وجمعت جينبينغ بنظرائه من القادة العرب، وتم خلالها توقيع العديد من اتفاقيات التعاون المشترك.
ورأى تحليل لمركز المستقبل للبحوث والدراسات المتقدمة أن انعقاد القمة العربية – الصينية سيمثل علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين الجانبين، وانعكس ذلك جليا في مقال منشور للرئيس الصيني في صحيفة “الرياض” يوم 8 ديسمبر 2022، أوضح فيه أن هذه القمة تعد بمنزلة بداية عصر جديد للعلاقات العربية – الصينية.
وترجع أهمية القمة العربية – الصينية بشكل كبير إلى توقيت انعقادها بالنسبة إلى الجانبين، فقد حصل الرئيس شي في أكتوبر 2022 على فترة ولاية ثالثة استثنائية، ليصبح بذلك أول رئيس صيني يحصل على ثلاث ولايات رئاسية منذ تضمين الدستور الصيني في عام 1982 لمادة تحدد الولايات الرئاسية بولايتين متتاليتين فقط.
كما تُعد القمة حدثا بارزا يمكن أن يساهم في تعزيز وضع بكين كقوة مؤثرة في العالم، وذلك من خلال توسيع نطاق حضورها في الشرق الأوسط، وبالتالي تعزيز وضعها كمنافس إستراتيجي للولايات المتحدة على الساحة الدولية. علاوة على أن هذه القمة ستعزز من شعبية الرئيس شي في الداخل الصيني باعتباره القائد الذي يسعى إلى إحياء الحلم الصيني وإعادة أمجاد الأمة الصينية.
في ظل الزخم في العلاقات ربما يتم التباحث حول آليات تطبيق استخدام اليوان لتسعير بعض صفقات النفط
وعلى الصعيد العربي، جاءت القمة في ظل وضع جيوسياسي واقتصادي عالمي غاية في التعقيد بسبب الركود الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا واستمرار الحرب الروسية – الأوكرانية. ومن ثم، فإن تعزيز أواصر الروابط العربية مع الصين، لاسيما على الصعيد الاقتصادي، من الممكن أن يساهم في التخفيف من الآثار الاقتصادية لهذه الأزمات.
أما الدلالة الأهم فتتمثل في كونها تأتي بعد حوالي خمسة أشهر فقط من انعقاد قمة جدة للأمن والتنمية بمشاركة عربية – أميركية. ومن ثم فإن توقيت انعقادها يعكس رغبة عربية حقيقية في تنويع تحالفاتها من دون الانحياز إلى قوى على حساب أخرى.
وفي مطلع ديسمبر، أصدرت وزارة الخارجية الصينية تقريرا حول “التعاون الصيني – العربي في عصر جديد” أكدت بكين فيه أنها “شريك إستراتيجي وصديق مخلص يلعب دورا بنّاء في الشرق الأوسط، وليس دورا يخدم مصالح الصين الجيوسياسية”. في الوقت ذاته، نفى التقرير رغبة الصين في ملء أي فراغ قد تتركه الولايات المتحدة في المنطقة، مؤكدا أن بكين ستدعم دول المنطقة لحل قضايا الأمن الإقليمي، وستدعم الشعوب في استكشاف مسار التنمية الخاص بها بشكل مستقل.
وينبع اهتمام الصين بتعزيز تعاونها الاقتصادي مع الدول العربية من ثلاثة عوامل رئيسية، يتعلق أولها بأمن الطاقة. ويتمثل العامل الثاني في كون الصين الشريك التجاري الأكبر للدول العربية. أما العامل الثالث فيتمحور حول كون الأسواق العربية ناشئة وجاذبة للاستثمارات الصينية.
وتمتلك غالبية الدول العربية رؤى تنموية وطنية تعتمد على تحقيق التنمية المستدامة من خلال تنويع مصادر النمو الاقتصادي، لاسيما دول الخليج التي تقوم رؤيتها التنموية على تنويع مصادر الدخل والنمو الاقتصادي وعدم الاعتماد على النفط وحده كمصدر رئيسي للنمو الاقتصادي. وتنطوي عملية تنويع مصادر النمو الاقتصادي على تطوير نشاطات جديدة، من أهمها تعزيز البنية التحتية للموانئ، وتطوير قطاع تكنولوجي قوي يتسق مع التوجه العالمي نحو الاقتصاد الرقمي. وتتلاقى هذه الرؤى بشكل إيجابي مع أهداف مبادرة الحزام والطريق الصينية، التي ترتكز بدورها على تطوير البنية التحتية والاتصال التكنولوجي بين الدول المنضمة إليها.
ويقول تقرير مركز المستقبل إنه لطالما ساد انطباع بأن العلاقات الاقتصادية بين الدول العربية والصين تتمحور حول استيراد النفط من منطقة الخليج، أو التعاون مع الصين في تنفيذ بعض مشروعات البنية التحتية خصوصا في مجال الإنشاءات، بيد أن هذا المشهد بصدد التغير بشكل جذري في ضوء المباحثات التي شهدتها القمة العربية – الصينية، والتي تشير إلى أن الفترة القادمة ستشهد بداية تحولات عميقة في العلاقات الاقتصادية بين الصين والدول العربية.
ويمكن رصد أهم ملامح هذه التحولات في احتمالية دعم مكانة “اليوان” الصيني كعملة دولية، وهو أمر سبق اقتراحه مرارا ولم يفضِ إلى نتائج ملموسة، إلا أنه في ظل الزخم الحالي في العلاقات العربية – الصينية، ورغبة الدول العربية، خصوصا الخليجية، في تحقيق المزيد من التوازن في شبكة تحالفاتها وعلاقتها الدولية، ربما يتم التباحث بشكل جاد حول آليات تطبيق استخدم اليوان لتسعير بعض صفقات النفط مع الصين.
علاوة على ما سبق، قد تتزايد أيضا احتمالية اتجاه المزيد من البنوك العربية إلى إصدار سندات مالية باليوان، وهو توجه انتهجته عدة بنوك بالفعل في المنطقة مؤخرا. ومن شأن هذه الجهود أن تعزز تدويل اليوان.
كما يمكن تعزيز التعاون التكنولوجي بين الجانبين حيث تعد رقمنة الاقتصاد المحرك الرئيسي لنمو الاقتصادات وتعزيز جهود التنوع الاقتصادي خصوصا في دول الخليج.
ومن المتوقع توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول الخليج قريبا. ومن شأن هذه الاتفاقية المساهمة في إضفاء طابع مؤسسي على العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، وتهيئة الطريق لتصبح هذه الدول مركزا للتجارة الصينية خلال العقود القادمة، فضلا عن أن توقيع الاتفاقية وتفعيلها سيعززان آفاق التعاون التجاري في المجالات المتعلقة بالطاقة المتجددة.
غالبية الدول العربية تمتلك رؤى تنموية وطنية تعتمد على تحقيق التنمية المستدامة من خلال تنويع مصادر النمو الاقتصادي
وتتوافق رؤية الجانبين الصيني والعربي حيال تعزيز الوجود في الفضاء الخارجي، فبكين تسعى إلى أن تكون رائدة عالميا في مجال تقنيات الفضاء بحلول عام 2045. على الجانب الآخر، يمتلك عدد كبير من الدول العربية، وعلى رأسها الإمارات والسعودية ومصر، برامج فضاء طموحة. وعلى المدى المتوسط والطويل، فبالإمكان أن يتعاون الجانبان لإنشاء مركز مشترك لاستكشاف القمر والفضاء العميق، فضلاً عن زيادة عدد رواد الفضاء العرب الذي سيتلقون تدريبات في الصين.
من جانب آخر، من المتوقع أن تدعم الصين جهود الدول العربية في تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري والبحث عن مصادر أكثر استدامة للطاقة.
ويؤكد التقرير أنه على الرغم من فرص التعاون العديدة المطروحة أمام الجانبين العربي والصيني، فإن المسار المستقبلي للعلاقات الاقتصادية بينهما سيُصادف على الأرجح تحديات في الأمد القصير، ويأتي على رأسها تباطؤ الاقتصاد الصيني، وضعف الطلب المحلي، وتضخم الديون، في ظل سوق العقارات الصيني المُضطرب.
ومستقبلا، قد يؤدي استمرار التوترات الجيوسياسية بين الصين والغرب إلى التقليل من فرص تطوير العلاقات العربية – الصينية إلى المستوى المرغوب من كلا الجانبين.