محمد محجوب
مفكر تونسي
ما الذي ينبغي التنازل عنه، ما الذي ينبغي تقديمة قرباناً لكشف المُغالط والمغالطات؟ من منا لا يتذكر محاورة السفسطائي؟ من منّا لا يتذكّر مشهديات السّفسطائي في أعمال أفلاطون الأولى؟ كل ذلك كان يجري أمام الفيلسوف الذي لا يستطيع لذلك أكثر من محاججة لا تطمح في أبعد من الإيقاع بمحاوره في تناقض لا يقر به دائماً، وكثيراً ما تنتهي المحاورة إلى نوع من التسليم لسقراط بأفضلية ما ولكنها أفضلية غير مقنعة، غير مفحمة، غير مبكّتة: إنها أفضلية ما يترجّح من الرّأي ضمن خصام للمواقف يحتفظ فيه كل رأي بمؤيداته .. ثمة شيء كالفشل، أو كالقصور عن تحصيل اليقين، يقنع بتحبيب هذا الموقف أو ذاك، وكثيراً ما يعوّل فيه أفلاطون على الأسطورة، تمثيلاً للحقيقة بالاستمالة إليها. فكأنما يتستّر السفسطائي وراء هذا اللاحسم الذي يجعل مقالته “ممكنة”، ويجعل المغالطة تتخفى وراء منزلة “ما قد يجوز”.
روايات عديدة، سرديات متعددة، تجري بيننا اليوم، وكل يوم، تدفعنا سذاجة التفكير إلى تصديقها تحت الحكم البسيط: “لم لا ؟” قد لا يكون كل شيء مؤكداً ويقينياً ولكن كل شيء جائز على الأقل. في ظلمة انتفاء المعيار تتساوى كل الخطابات. وذلك هو تحديداَ مصدر قوة الخطاب المغالط: أنه يحوز من البداية وعلى نحو مبدئي على منزلة القول الممكن. تتنافس في تحويزه هذه المنزلةَ أدواتٌ وخطابات مختلفة: الإشهار، سطوة الميديا، سيطرة واقع الاستهلاك على كل شيء بما لم يعد يترك لا الوقت ولا الحاجة للتحقق والتأكد: لقد بات جوهر الخطاب أنه مغالِط، ولدى كل منعطف من منعطفات الخطاب يمكنك أن تنزلق إلى تصديق شناعة من الشناعات.
إنّ هذا الوضع الذي ليس جديداً في شيء إنّما يرجع إلى تساوي “المصداقيات” التي ليست تساوياً في قوة الخطاب الذاتية، بقدر ما هي تساوي “سذاجات” التصديق، وعراء الأذهان من المعايير: لسان حال هذه السذاجات أنّ “هذا رجلٌ صادق، فاضلٌ، فلا يمكنه أن يكذب علينا، ولا أن يغالطنا”.
ولسان حالها “أنّ ما يخاطبنا به هذا الصادق الفاضلُ هو عين ما نريده وما نحبذه، فلا يمكن أن يكون هذا الذي نريده كذباً وزوراً”. لا بد أن ندرك أنّ هذه هي مخابئ المغالطة.
إنها ليست في الخطاب إلا لأنها تجد فينا نحن مهبطاً لها يصدقها ويضفي عليها سمة الحقيقة. وهي ليست في الخطاب إلا لأننا ننتظرها ونشتاقها. ثمة بنية فينا هي بنية تصديق، قوامها الشوق والأمل، لا بنية تحقّق قوامها الرّيبة والتظنن.
أفلاطون على لسان الغريب الإيلي (L’étranger d’Elée) قدّم أباه، ذبحه ذبحاً للسفسطائي المغالط حتى يستطيع الكشف عن مخبئه الذي يتستر وراءه: لا مناص من الاعتراف بأنّ الكلام مأوى للاوجود وللوجود معاً، وأنّ السّفسطائي عندما يصرّف الأشياء ويعالقها في ما بينها فإنه يحملها على أن (لا) تكون هي هي، وأنه من ذلك الثقب في الوجود، يستطيع أن يغالط الناس بتزييف الوجود وتزيينه لهم، وحمل ما ليس هو على أنه هو. ثمة في فن المراوغة تعويل على تصديقٍ للمخاطَب غير متقاسَم مع قصد المخاطِب. وهذه المراوغة هي ككلِّ مراوغة تعوّل على ذلك التصديق. ما يقوله المغالِط بخطابه، صفر من كل صدق في عينيه.
ولذلك فإن خطاب المغالَطة خفيف، زهيد الثمن، لا يكلف أكثر من ضارب صدقية زائف يعلقه المغالِط على قوله: قد يكون استمالة بالقول، أو سياقاً من الحكاية، أو ضرباً لأمثلة غير تامة الانطباق.
إنّ مثَل المغالطة في خفتها وجسامة أثرها على الذين نغالطهم كمثَل مراوغة لاعب كرة القدم يوهم، من خلال حركة لا تكاد ترتسم، يوهِمُ بقصدٍ لا يقصده في الحقيقة. ولكن الذي يراوِغ إنما ينجح في المراوغة على قدر ما يُلطف فيها بما يخيِّل للمراوَغ أنه قد انتبه إلى قصدٍ خفي يكاد المراوغ أن يبذل نفسه في إخفائه والتكتّم عليه. إنّ أروع المراوغات وأجملها، إذا كان للكذب من جمال، هي التي توهم المكذوب بأنه في الحقيقة قد “كشف الملعوب”، فيراوغه المغالِط في عين يقينه من أنه قد أوقعه، وكشَف “ملعوبه”.
ثمّة في الفرنسية فعل كثيف التلبُّد من كثرة طبقاته، هو فعل: Feindre، تجتمع فيه معاني الختل والمخاتلة والمخادعة والمراودة والاحتيال، والمدالسة والمخالسة والمداورة.
ولكن جميع هذه إنما تجتمع في وحدة “إعلان ما ليس”. على أنّ المشكل كله قائم في “هذا الذي ليس”: هل هو مضمون قول مخاتلٍ، كاذب، مراوغ، يُقصَد منه الإنهاضُ إلى فعل لا يمكن الإنهاض إليه بقول صادق، بل لا يمكن للقول الصادق إلا أن يُقْعِدَ عنه، أم هو كيان كاذب، لا يعبر بالقول بقدر ما لا يعبر أصلاً، بل يعوِّل في التعبير عن نفسه بما يترسّخ عند المغالط من حكم مسبق يزيّن له قراءة النية والقصد ولو لم يعبر المغالِط عن أية نية وعن أي قصد. إنّ جوهر هذه المغالطة الثانية هو قراءةُ كيان لا ينطق، لا يسمع، لا يتفاعل، لا يكون.
ولكنّ ذلك يعني أوّلاً أنّ العطش إلى الصدق قد كان هو مربى المغالطات، بما رسخه من شوق إلى الثقة في القول، ومن الجزم بأنه لا يمكن حمل الشيء على اللّاشيء.
ثمة نوع من الطيبة فينا هي أولى طبقات التصديق التي تتحالف مع المغالطة. ينبغي لكي نكشف المغالطات أن ننفض عنها غبار الطمأنينة التي وجدناها في “أبينا”: يقنعنا السفسطائي بالشيء ونقيضه، ويستنتج الماهيات عن غير أصل، أو عن أصل متبدل، ويعين للناس والأشياء فضائل ليست فيها، ويجمع المختلف تحت لافتة المتشابه، ويزين للناس الجبن على أنه شجاعة، والجهالة على أنها معرفة، ويعد بما ليس في مكنته، ويتعهد بما لا قبل له به: المغالط يضع في الخطاب شحنة كيان متشوَّق ولذلك نخفّ إلى تصديقه.
ولكنّ الاسم المعاصر للسفسطائي هو اليوم “السياسي”.
لا شك أنّ السياسي يرث كل تقنيات المراوغة الخطابية التي وصفناها عند السفسطائي.
وهو من هذه الناحية صانع أوهام يصوغها ضمن الخطاب الذي ينشره وعوداً ونهجاً على منوال تقوى تتكلم لغة الكتاب والحديث، وتتحرى إن أمكنها حتى السجع فيه، وإعراب أواخر الكلم،
وتضمين الآيات والأمثلة في كل خطاب: قد لا تكون لتلك الأمثلة قيمة حجاجية في حد ذاتها، ولكن لها قيمة بلاغية إقناعية عند من يسمعها وينفعل بها.
ولكنّ سياسي اليوم قد تحول أيضاً إلى سياسي مقتصد، مثلما أنّ مبدأ السياسة اليوم هو الاقتصاد: ربما أمكننا أن نصوغ هذا المبدأ على غرار القضية السابعة من تراكتاتوس فيتغنشتاين: “ما لا ضرورة في إنفاقه ينبغي الاحتفاظ به”.
والاحتفاظ في اللغة والمصطلح هو الاقتصاد، وهو ضد أي شكل من أشكال الإسراف.
سفسطائي اليوم لم يعد سفسطائياً يصنع بقدر ما أصبح سياسياً لا يقطع سلسلة التخيل، لا يكبح تيار الإيحاء الذاتي بالوهم. السياسي اليوم لا يتكلم،
ولكنه يطلق العنان للناس حتى يكوّنوا بأنفسهم ما لا حد له من الخرافات ذاتية الإنشاء: ثمة في آلية إنشاء الخرافة نوع من التداعي الذاتي إلى انتساج الخيوط وتشابكها في حكايات لا مقابل لها إلا ضمنيات قراءة لا ضامن لها.
واللافت في هذه القراءة أنها تنشئ كل شيء بما في ذلك مقروؤها، بل هي تنطلق منه كأنما هو حيثية (considérant) من حيثيات مرافعة.
فكأنما كل ما تطلبه من السياسي يقتصر على أن يكون. لسان حالها وهي تخاطب السياسي: “ما عليك إلا أن تكون، وسأنشئ أنا سرديتك”.
مم تأتلف هذه السردية؟ إنها تأتلف فقط ممّا ينسجه “القارئ” (هذا المُغالَط المثالي ce leurré idéal, ce trompé, dupé, mystifié, idéal … ) من كيان لا مقابل له إلا في وهمه، بل وهمه هو كيانه. ذلك هو مستقر السياسي الجديد، السياسي المعاصر:
تراه خارج كل تبادل حواري، بعيداً عن كل محادثة حجاجية تقوم على الرد والرد المعاكس، تَنسب إليه من غير أن يتكلم. يقال إنه صادق، أمين، نظيف حد الإشفاف والرّهَف، يكاد الهزال يجعله “خزلة” فينومينولوجية خارج كل وجود طبيعي، وحين يصرُّ نبي الله أنه يمشي في الأسواق، ويأكل ويشرب ويحب العطر والنساء، يكاد يخيَّل إليك أنّ هذا السياسي فوق ذلك، لا يحب النساء ولا يأكل ولا يشرب، وأنه، مثل واحد أفلوطين، صدور محض.
هذا السياسي المعاصر هو أكبر خدعة، لأنه يعول على خيالك لكي يسكن فيك، وعلى وهمك لكي يكلمك وهو لا يحرك شفتيه، وعلى سمعك لتسمعه وهو لا يقرع طبقات الهواء. أترى هذا السياسي خالياً من كل قصد؟ كلا طبعاً. ولكن قصده مثل جميع الأحجيات لا يظهر إلا في “الحلقة الأخيرة”، عندما لا يكون بإمكانك حتى أن تتلفت إلى الوراء لترى مدى ما قطعت من الأشواط سيراً على قصد تخيلته من دون أن تسندك الوقائع.
هو لم يقل شيئاً. هو لم يغالطك بأحابيل خطاب.
هو فقط أرخى الحبل لخيالك لكي تراه كما يحلو لك، فنسجته من محض وهمك.
لا شك أنّ ما وصفته هو جوهر ظاهرة السياسي المعاصر، المقيم بيننا، السياسي الشعبوي: قيل لنا الكثير في تعريف هذه الظاهرة. أما أنا فلا أراها في غير هذا الاستدرار لأوهام لا يوحي لك بها، ولكنه لا يفعل شيئا لإيقافها. هذا الاحتلاب لهذيان التماهي: تلك هي الشعبوية التي باتت اليوم تأكلنا كل يوم.
فإذا كان أفلاطون قد ذبح أباه لفضح السفسطائي وكشفه وتعريته، فإنّ ثمن الكشف عن الشعبوية اليوم هو كبح (ذبح ؟) ملكة الهذيان فينا، تلك الملكة التي تتحرك من تلقائها لتنشئ من عين ذاتنا ذاتاً أخرى تسمعنا وتردِّدنا وتتماهى معنا: وهل أكثر تماهيا مع ذاتنا من ذاتنا ؟ ولا شك عندي أنّ الفلسفة بما هي نقد ذاتي، ومصاحبة بالتفكر لكل عمليات التفكير والتخيل والهذيان فينا، هي العدو الأول للشعبوية، لكل شعبوية.
نقلاً عن حفريات