كريتر نت – متابعات
تواجه الحركة النسوية في العالم العربي هجمات شرسة، باعتبار أن النساء قد نلن حقوقهن في التعليم والعمل والسياسة والثقافة، وسط تجاهل تام لغياب حقوق المرأة في العديد من المجتمعات التي ما تزال تعتبرها مجرد ظل للرجل.
وتنتعش المناقشات والمساومات الرامية إلى تعديل أوضاع النساء وإفساح المجال لتحقيق مزيد من العدالة والمساواة في الحصول على الحقوق نفسها كالرجال، مع كل حادثة انتهاك صارخ لإنسانية المرأة في العالم العربي، ومع ذلك يجد المتخوفون من النسوية تبريرا لهذه الحوادث من منطلق الدفاع عن الأسرة والتقاليد المجتمعية المحافظة.
ابتداء من ضحايا الدفاع عن الشرف في الأردن إلى العنف الزوجي والأسري في العراق مرورا بقتيلات انتقام الحب التي باتت تتكرر في مصر، وليس انتهاء بسلب المرأة أطفالها وفق المذهب الجعفري في لبنان، تتوسع دائرة النقاش وتصل إلى فئات ودوائر لم تكن تشهد هذه النقاشات أو تشارك في تطويرها من قبل، عبر الشبكات الاجتماعية.
ووفق تقرير للكاتبة رابحة سيف علام الخبيرة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، فقد أسهمت موجة “أنا أيضاً” التي انطلقت قبل خمس سنوات في تعزيز الجدل على الإنترنت حول المظالم التي تمر بها المرأة في المجال العام، خاصة في بيئة العمل والدراسة من حيث التعرض للتحرش أو سوء استخدام السلطة من جانب من هم أعلى سلطة منها لابتزازها أو إجبارها على خيارات معينة أو تقييد حريتها، وقد امتدت إلى العالم العربي.
بين النسوية والذكورية
رابحة سيف علام: الحركة النسوية العربية أكبر وأكثر تفرعاً من أن يتم تأريخها وتقليبها في موجات
والجدل الذي تشارك فيه شرائح فكرية وعمرية واجتماعية مختلفة، فتح الباب على مصراعيه لتبادل الاتهامات بين المتابعين بالنسوية أو الذكورية أو الرغبة في اختطاف المجتمع في ظلمات الماضي أو تفكيك الأسرة المستقرة أو ربما الرغبة في النيل من التقاليد المتعارف عليها أو الأحكام الدينية المستقرة منذ مئات السنين.
وتعرف سيف علام النسوية وفقاً لموسوعة كامبريدج بأنها “الاعتقاد أن النساء يجب أن يتلقين مستوى الحقوق والسلطة والفرص والمعاملة نفسها التي يتمتع بها الرجال”. كما تُعرف النسوية أيضا بأنها الأيديولوجية الرامية إلى السعي بشتى الطرق المؤسسية أو الحركة غير المؤسسية لتحقيق هذه الغاية في المجتمعات. وقد عرفت المجتمعات الغربية تجليات النسوية على مدار عقود في شكل موجات متفرقة.
ويؤرخ للموجة الأولى من النسوية في القرن التاسع عشر، عندما بدأت تبرز بعض الشخصيات النسائية في الحياة العامة بحكم موقعهن وحركتهن في المجتمع وليس فقط بحكم قرابتهن لأحد الشخصيات البارزة من الرجال. إذ لم يكن هذا الأمر شائعاً في تلك الفترة، ولكنه بدأ يتزايد مفسحاً المجال لمزيد من النساء للظهور بفضل وصولهن إلى فرص أفضل من التعليم والثقافة. وعرفت نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين موجة نسوية امتدت في أوروبا وصولاً إلى عدد من الدول العربية وأبرزها مصر وسوريا ولبنان، حيث تمثلت في المطالبة بتعليم النساء ومنحهن حقوقاً متساوية في التصويت والتملك والظهور في المجال العام. ويعتبرها المتخصصون الموجة الأولى، والتي استطاعت تحقيق عدة مكتسبات بالفعل من أهمها حق التصويت والتعليم، خاصة الجامعي، ولكن ظلت النساء يتمتعن بحقوق أقل من أقرانهن من الرجال في بعض المناطق.
وجاءت الموجة الثانية في نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن العشرين وعرفت بكونها موجة اجتماعية اقتصادية، حيث انتقدت الصور النمطية السائدة للمرأة التي تفرض عليها أدواراً من دون غيرها بفعل الآليات المجتمعية السائدة والنظام الرأسمالي المتجذر في الدول الغربية. ونتجت عن هذه الموجة بعض التغيرات وانتهت بإطلاق العديد من البرامج البحثية الدولية المرتبطة بالمرأة، وتمددت مشاركة المرأة في المجال الثقافي بمختلف فروعه من موسيقى وفنون وآداب، وأصبح هناك خط متميز لإنتاج المرأة في هذا الخصوص. وعرفت هذه الموجة أيضاً آنذاك بثورة الشباب على العادات الاجتماعية والاقتصادية الراسخة واتخذت شكل صراع جيلي ملحوظ.
وانعكست تلك الموجة أيضاً في خطوط الموضة التي أنتجت تصميمات لملابس أكثر راحة للنساء تناقض النمط السائد بفعل الرأسمالية التي “سلعت” النساء وحصرتهن في دور المرأة الفاتنة في السينما والدعايات الإعلانية.
أما الموجة الثالثة فقد جرت في بداية التسعينات، وتعددت الروايات عن الأسباب التي دعت إلى إطلاقها، ولكن بصفة عامة بدا أنها انطلقت احتجاجاً على عدم اكتمال عملية منح الحقوق المتساوية للنساء. وفي المقابل ظهرت أصوات مناهضة تعتبر أن النساء قد نلن حقوقهن بالفعل في التعليم والعمل والسياسة والثقافة وأن مطالب الحركة النسوية باتت بلا هدف. وفي كل الأحوال تميزت الموجة الثالثة بكونها أكثر وعياً بالفروق في نوعية الحقوق التي تحصل عليها النساء وفقاً لعرقهن ودينهن وطبقتهن الاجتماعية والمستوى السابق للتعليم والثقافة والدخل.
أما الموجة الرابعة والتي يرجح أنها سائدة حتى اليوم فقد انطلقت بعد عام 2012، وتميزت بدرجة عالية من الاعتماد على الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة، حيث ركزت على الاحتجاج على العنف المبني على النوع الذي تواجهه النساء، خاصة التحرش والاغتصاب وغيرها من مظاهر العنف.
وقد شهدت هذه الموجة العديد من المناسبات التي قدمت فيها النساء عبر الإنترنت شهاداتهن عن وقائع العنف والوصم التي تعرضن لها وطالبن بعقاب مرتكبي هذا العنف.
ولعل أبرز محطات هذه الموجة هي حركة #أنا_أيضاً أو Me_too# التي تمكنت النساء من خلالها من البوح عن العنف الذي تعرضن له والتشبيك لجمع الدعم والتضامن من أجل مقاضاة مرتكبي العنف، خاصة في المجال المهني ممن استغلوا سلطتهم ضد النساء لابتزازهن. ولعل أبرز هذه الوقائع التي نالت شهرة كبيرة حدثت في أكبر محافل صناعة السينما العالمية في هوليوود وتورط فيها بعض المشاهير من المنتجين والمخرجين. وقد امتدت هذه الموجة الأخيرة بقوة إلى العالم العربي، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي العربية عدة مناسبات للبوح وتقديم الشهادات ضد مرتكبي
العنف المبني على النوع ضد النساء أو محاولات الابتزاز الإلكتروني أو المساومة أو الوصم بحق النساء والفتيات ضحايا العنف. وكانت أشهر هذه المناسبات خلال الإغلاق لشهور بسبب وباء كورونا الذي انعكس بمعدلات عالية من العنف ضد النساء، سواء من خلال العنف المنزلي أو التحرش والابتزاز الإلكتروني.
ويعتبر البعض أن النسوية هي لفظ مكروه ويثير الكثير من الجدل بمجرد ذكره لكونه مصطلحاً دخيلاً يأتي من السياق الغربي، ليقتحم مجتمعاتنا العربية التي تقوم على ثوابت وروافد ثقافية مختلفة عن تلك التي تقوم عليها الثقافة الغربية. فيما يرى آخرون أنه حتى في الغرب يجد مصطلح النسوية الكثير من الأعداء الذين يعتبرون أنه مرادف لهدم قيم المجتمع واستقرار الأعراف الاجتماعية. ولعل من أهم أسباب هذا العداء للفكرة النسوية سواء في الشرق أو الغرب هو الاعتقاد الخاطئ أن كل حق ستأخذه المرأة يعني بالضرورة انتقاصاً من حقوق الرجل، بمعنى أن زيادة حقوق النساء هي خصم من حقوق الرجال وفق القاعدة الشهيرة للمباراة الصفرية zero sum game وهذا غير صحيح في المطلق.
فهم ضيق
ربما ساعد على ترسيخ هذا الفهم الضيق ما ينتهجه مناصرو النسوية أحياناً من أسلوب “عكس الصورة” لاستفزاز التفكير في قضية المساواة وللتدليل على ظلم النساء، بمعنى أن يتم طرح ما تعانيه النساء بشكل معكوس لإقناع المتلقي بأن الوضع ظالم ولو كان واقعاً على الرجال ما كانوا ليقبلوا به، ولكن الفهم القاصر للمتلقي جعله يظن أن هدف النسوية هو عكس الصورة بالفعل وليس مجرد تحقيق المساواة للنساء. فضلاً عن ظهور بعض الآراء المتطرفة التي تستهدف لفت الانتباه الإعلامي بالأساس وليس المساهمة الفكرية الحقيقية في نقاشات المجال العام بهذا الشأن.
و بصفة عامة فإن التحليل الضيق للمباراة الصفرية يغفل أن توسيع الحقوق والفرص التي تحصل عليها النساء يضيف إلى رصيد المجتمع ككل ويرفع من معدلات التنمية والدخل والتراكم في رأس المال الاقتصادي والاجتماعي ويوفر مساحة لاستثمار الطاقات الكامنة في المجتمع. ولكن السؤال الأمثل يجب أن يكون كيف يمكن تصميم هذه المساحة التي تسمح باستثمار طاقات النساء وحمايتهن من التهديد والعنف ومساعدتهن على الموازنة بين الأدوار المختلفة تجاه أسرهن ومجتمعهن على حد سواء؟ ولكن بدلاً من طرح هذا السؤال بأمانة وموضوعية يتم طرح بدائل لعرض مدى تهديد الحقوق الإضافية للنساء للاستقرار المجتمعي كي يصبح سؤال النسوية منفراً ومكروهاً لفئات واسعة في الغرب والشرق على حد سواء.
الممارسات المتطرفة لمنتسبين إلى التيار النسوي تجذب الانتباه بفعل التضخيم الإعلامي وتفاعلات مواقع التواصل
وينكر البعض على المجتمعات العربية احتياجها إلى موجات النسوية، إذ اعتبروا أن الأعراف التي تحكم المجتمعات العربية لا تتوافق مع متطلبات النسوية والآثار المترتبة على انتشارها. ولكن المفارقة هنا أن هذه الجدلية تتبنى النظرة الاستشراقية نفسها للمجتمعات العربية والمسلمة. كما أن القول إن النسوية في المجتمعات العربية هي صنيعة الاستعمار الغربي يغفل حقيقة بارزة وهي أن بداية المد النسوي في الدول العربية قد جاء قريناً لحركة الاستقلال الطامحة للتخلص من الاستعمار، سواء في نهاية القرن التاسع عشر أو منتصف القرن العشرين.
صحيح أن المد النسوي في الغرب قد انتقل في العصر الحديث إلى الشرق وأثر فيه بشكل أو بآخر، ولكن لا يصح القول إن هذا التأثير كان مجرد تقليد للغرب، فالتاريخ العربي والإسلامي حافل بمحطات للمرأة فيها أدوار رئيسية، وأن تدوين هذا الدور هو ما أصابه النسيان وليس الدور نفسه وما كان ذلك إلا مجرد تذكير بهذه الأدوار.
وعلى الرغم من تبني العديد من الحكومات في المنطقة العربية عدة برامج تركز على تمكين المرأة، فإن فكرة النسوية، خاصة على المستوى المجتمعي، عادة ما تكون محل جدال شديد، ويرجع ذلك في جزء منه إلى الإطار الذي تطرح من خلاله قضايا المرأة، حيث عادة ما يصور أي حديث عن حقوق المرأة بأنه تصادم صريح مع التقاليد المجتمعية وثورة على تعاليم الدين، وما عزز ذلك ظهور بعض الأفكار والممارسات المتطرفة من قبل بعض المنتسبين إلى التيار النسوي من آن لآخر، وحتى وإن كانت تلك الأفكار هي الاستثناء، إلا أنها وحدها تجذب الانتباه، خاصة بفعل التضخيم الإعلامي وتفاعلات مواقع التواصل الاجتماعي.
لحظات تاريخية
ويمكن القول بصفة عامة إن الحركة النسوية العربية أكبر وأكثر تفرعاً من أن يتم تأريخها وتقليبها في موجات، وقد شهدت تظافر جهود سيدات من المنتميات إلى الحكومات فضلاً عن سيدات المجتمع المدني في لحظات تحالف تاريخية، كما ضمت أيضاً في رحمها الكثير من الرجال المتضامنين مع أهمية منح حقوق وفرص متساوية للمواطنين والمواطنات على حد سواء.
ولا بد من توضيح أن السعي لمنح هذه الفرص المتساوية ليس بالقدر نفسه من السهولة في كل المجالات، إذ عادةً ما يكون منح الحقوق في المجال العام أيسر وأوضح مساراً، فهو يمر بسن قوانين ثم سن قواعد إدارية أو برامج سياسية أو خلق هياكل مؤسسية لتنفيذ القانون والسهر على تقديم هذا الحق للنساء.
ولكن منح هذه الحقوق في المجال الخاص يعتبر أكثر تعقيداً لأنه عادة ما يصطدم بهياكل مجتمعية مستقرة وراسخة تمتد من الأسرة والعائلات ومجمل عملية التنشئة الاجتماعية للفتيات، ولذا فالفاعلون فيها أكثر تنوعاً وإقناعهم بقيم المساواة أكثر صعوبة. وهو ما يفسر حالة الزخم الكبيرة التي تشهدها بعض الدول العربية على مستوى سن قوانين وبرامج داعمة لحقوق المرأة، ثم نجد وقائع قتل مروعة بحق النساء من جانب الرجال أو العكس في معرض التنازع في ما بينهم على تعريف الحقوق والواجبات أو تقاسم الأدوار في المجال الخاص.
وهذا الزخم الذي يأتي مصحوباً بالكثير من الإثارة والجدل أصبح مادة إعلامية دسمة تتقاذفها المنصات الإعلامية كي تضيف إلى قائمة قرائها ومتابعيها، بما رسخ من فكرة أن النسوية هي بالضرورة مرادف للجدل والإثارة وربما أيضاً الخطر على مستقبل المجتمعات العربية، رغم أن الخطر الحقيقي يكمن في استمرار الأوضاع غير العادلة في بعض المجتمعات والتي تعانيها النساء.