علي الصراف
الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعديد من الدول الغربية الكبرى في العام 2008، وضعت شركات عملاقة فيها على حافة هاوية لا مخرج منها. فانبرت الحكومات لإنقاذ هذه الشركات بضخ المئات من المليارات في ميزانياتها، وشراء أسهم فيها، لكي تعود فتقف على أقدامها من جديد.
الإطار الذي دفع تلك الحكومات إلى “التدخل” هو أن تلك الشركات “أكبر من أن تنهار”، أو “أكبر من أن يُسمح لها بالانهيار”. والمعنى العملي هو أن تلك الشركات تحتل موقعا إستراتيجيا (في الأسواق) لا يمكن التخلي عنه أو القبول بضياعه، لاسيما وأن تعويضها بشركات أصلب عودا، مُكلف بدوره أيضا.
الشيء نفسه حصل مع مصر. لقد كانت، وهي ما تزال، أكبر من أن يُسمح لها بالانهيار، مهما تعاظمت التضحيات. وموقعها الإستراتيجي (في الأمن الإقليمي) لا يمكن التخلي عنه أو تعويضه بأي كان.
هذه الفكرة تعرفها الإدارة المصرية، مثلما تعرفها تلك الشركات التي أمكن إنقاذها. ولكن مقاربات العلاج كانت مختلفة.
القروض الجديدة التي حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي، وهي الأخيرة على الأرجح، يحسن أن يوضع لها هدف واحد: زيادة الدخل القومي. ذلك هو السبيل الوحيد لإصلاح ميزان المدفوعات
الشركات أسرعت إلى إصلاح لائحة موازناتها. استخدمت ما حصلت عليه من قروض وتمويلات، ليس للمحافظة على قدراتها التشغيلية فحسب، وإنما لرفع مستوى الإيرادات، وذلك إلى جانب إجراءات أخرى من قبيل خفض تكاليف التشغيل (غالبا بالاستغناء عن كل من يمكن الاستغناء عنه) وزيادة عائدات الأصول الجارية، بما يتجاوز معدلات كلفة الديون الجارية، قبل أن تعود لتنتج أرباحا تفوق كلفة الديون.
مرت أزمتان من بعد ذلك الوقت، وبقيت تلك الشركات تناطح السحاب بقوتها. ولم نشهد انهيارات. ما حصل هو العكس. ما حققته من أرباح، وبما تحصل من ضرائبها، عزز ميزانيات الحكومات التي أنقذتها من قبل.
طبعا، إدارة بلد مهما صغر حجمه، ليست كإدارة شركة مهما عظمت. فما بالك إذا كان بلدا عظيما من الأساس؟
ولكن في بلدين مثل اليونان وقبرص، عندما تلقيا حزمة إنقاذ في العام 2010، كان من الواضح، بعد جولة أولى من سياسات الإسراف على مشاريع المحسوبيات المحلية، أنهما اضطرا إلى التعامل مع الأزمة بعقلية شركة كبرى. فمع المحافظة على القدرات التشغيلية (للبلاد وشركاتها) فقد تقلص الإنفاق، وزادت العائدات الجارية وكان المواطنون أنفسهم يتصرفون مع أزمة بلادهم على مستوى المسؤولية نفسه. والذي اعتاد أن يسحب، لإنفاقه الشخصي، 500 يورو في الأسبوع، لم تمنعه ماكينة الصرف الآلي وحدها، ولكن منع نفسه أيضا.
وعلى الرغم من كل الانتقادات التي توجه إلى الجيش المصري، لأنه “يسيطر على قطاعات اقتصادية حيوية”. فالحقيقة هي أنه لولا الدور الاقتصادي الرائد لهذا الجيش، ما كان بوسع مصر أن تقف على قدميها أصلا. إنه قوة عاملة قليلة الكلفة. ولديه إدارات عالية الكفاءة. وضباطه يتصرفون بحس عال من المسؤولية. وإذ لا يستطيع المتحفظ القول إنه لا يوجد فيه فساد، فإنه محدود إلى أقصى حد، إن لم يكن معدوما. مدراء المشاريع الكبرى فيه لا يتقاضون، في النهاية، أكثر من رواتبهم التي تقررها رتبهم العسكرية، سواء أمضوا حياتهم المهنية بين الخنادق والمعسكرات، أو بين المعامل ومعدات البناء.
إنه صانع ثروة، وليس جيشا للاستهلاك. وإذا كان هناك من سبيل للحصول على أموال عن طريق “الخصخصة”، فمصانع ومنشآت الجيش المصري هي في الغالب مصدرها الأهم. وهو ما يكفي للدلالة على أنه يلعب دورا اقتصاديا إيجابيا، على العكس تماما من معظم الجيوش الأخرى، التي يقتصر دورها على أداء واجبات الدفاع.
هذا لا يمنع من القول، إن هناك ثلاث معضلات لم تتمكن مصر من حلها. الأولى، هي أن عائدية العامل المصري منخفضة (21 ألف دولار سنويا)، ولا تؤهل الاقتصاد لتسديد تكاليف القروض.
وحيث أن مصر استكانت لسنوات طويلة على فكرة أنها تستطيع الحصول على مساعدات وقروض، وكأن الأمر بئر لا ينضب، فقد تم تجاهل هذه المشكلة، لأسباب تتعلق بالسياسات الاجتماعية للدولة. وهي سياسات جعلت منها “ماما بهية” أو “ماما حنان”.
والمسألة هنا، ليست مسألة أن “العامل المصري” قليل الإنتاج، على الإطلاق. المسألة هي أن “ماما حنان” لم تستثمر مواردها لكي تقيم مشاريع إنتاج، بما يكفل تحسين موارد البلاد وعائداتها لكي تضمن استقرار “لائحة الموازنة”.
هناك ثلاث معضلات لم تتمكن مصر من حلها. الأولى، هي أن عائدية العامل المصري منخفضة (21 ألف دولار سنويا)، ولا تؤهل الاقتصاد لتسديد تكاليف القروض
كما أن الجهاز الإداري المتضخم هو أكبر قائمة بطالة مقنّعة في البلاد، وأكبر مستهلك للموارد، وهو أكبر مصادر الاستنزاف للدخل القومي. كما أنه في الوقت نفسه صاحب أكبر عضوية في “حزب الكنبة”.
المعضلة الثانية، هي أن الإنفاق على المشاريع غير الإنتاجية، قصد امتصاص البطالة، إلا أنه أعاد إنتاجها بعد الانتهاء من تلك المشاريع، بينما نضبت الأموال.
أما المعضلة الثالثة، فهي استسهال الحصول على مساعدات وقروض. وهو وهم سمح بالإفراط في الاقتراض، حتى أصبح عبء الديون أكبر من القدرة على التسديد.
الناتج الإجمالي المصري، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، خلال العام 2022، ارتفع إلى 469 مليار دولار. بينما ارتفعت نسبة الدين الإجمالي إلى الناتج المحلي إلى 94 في المئة. وهذه نسبة عالية، حتى وإن لم تكن هي الأعلى في العالم. نسبة ديون الولايات المتحدة إلى ناتجها الإجمالي تبلغ نحو 150 في المئة. ولكن عندما تكون عائدية العامل الأميركي (140 ألف دولار سنويا) سبعة أضعاف عائدية العامل المصري، فإن نسبة 94 في المئة (ديون/ناتج إجمالي) ورطة حقيقية، لأن الاقتصاد يعجز عن تسديد أعباء الديون، فيجد نفسه على حافة الإفلاس (التقني على الأقل).
مفهوم لماذا تتصرف “ماما بهية” بحنان زائد مع أبنائها خوفا من تمردهم. ولكن إذا كان نصف الـ22 مليون يد عاملة الذين ينتجون ناتجها الإجمالي، يمارسون بطالة مقنعة في دوائر البيروقراطية، وينتظرون المعاش، ليستكملوا البقية الباقية من حياتهم غير العملية على الكنبة ويريدون “عيشا” رخيصا، وخدمات صحية وتعليما لدستة من الأبناء، وطرقا ومواصلات شبه مجانية، وأجهزة وتقنيات حديثة مستوردة، فلا تستغرب لماذا تعجز البلاد عن تسديد فاتورة ديونها.
مصر أكبر من أن تنهار. لا أحد يتجرأ على القبول بذلك. ولكن نحو 100 مليار دولار من المساعدات في أقل من 10 سنوات، ليست بئرا لا ينضب. وعندما يتعلق الأمر بموقعها الإستراتيجي في الأمن الإقليمي، فلا تؤديه، فإنها مشكلة مضاعفة، تبعث على اليأس وتثير المرارة.
الأزمات تأتي وتذهب. وعندما تعود للمرة الثانية، فإنها لا تُداوى بديون أصبحت هي الداء.
القروض الجديدة التي حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولي، وهي الأخيرة على الأرجح، يحسن أن يوضع لها هدف واحد: زيادة الدخل القومي. ذلك هو السبيل الوحيد لإصلاح ميزان المدفوعات.
لا غنى عن دعم مصر. ولكن لا غنى عن أن تؤدي دورها، لنفسها على الأقل.
نقلاً عن العرب اللندنية