عماد عبد الحافظ
كاتب مصري
لا تحدث التحولات الكبرى في المجتمع دفعة واحدة، ولا تظهر فجأة أو تأتي من العدم، لكنها تتشكل بصورة تدريجية متراكمة عبر فترة طويلة من الزمن، بينما تظهر بوادرها قبل ذلك بكثير لمن يستطيع التأمل.
عدد من المتغيرات صاحبت فترة السبعينيات من القرن الماضي كانت سبباً في حدوث تحولات كبرى في المجتمع لاتزال تلقي بظلالها حتى اليوم، ومن بين تلك المتغيرات المد الوهابي السلفي الذي بدأ يتسلل إلى المجتمع المصري، ومع الفرصة المتاحة آنذاك للتيار الإسلامي بكل تنوعاته في العمل والانتشار في المجتمع بكل أريحية؛ فقد استطاع أن يحدث تأثيراً وتغييراً كبيراً وعميقاً في الشخصية المصرية، ومن بين مظاهر التأثير هذه كانت ظاهرة الحجاب التي بدأت تنتشر بشكل كبير وتزداد مع الوقت ليس فقط على مستوى النطاق ولكن على مستوى العمق؛ حيث اتخذت القضية حجماً كبيراً وأبعاداً مختلفة عما كانت عليه من قبل، لكن ومع حلول “الربيع العربي” وما تبعه من تداعيات بدأت تتشكل ظاهرة جديدة تتمثل في نزع العديد من النساء للحجاب وقد ارتدينه قبل ذلك في فترات انتشاره، الأمر الذي يطرح السؤال حول أسباب ذلك ودلالاته؟
# أنا_والحجاب
خلال الشهرين الماضيين بدأت تنتشر العديد من المنشورات في بعض المجموعات الخاصة بمناقشة قضايا فكرية واجتماعية على موقع “فيسبوك” تحت هاشتاغ “أنا والحجاب”، ما يقرب من مئتي منشور كتبنها نساء وفتيات حول قصتهن مع الحجاب، يحكين فيها كيف ارتدينه ومتى، وكيف خلعنه ولماذا، أو كيف يرغبن في خلعه لكن لا يستطعن، هذا بخلاف مئات التعليقات على تلك المنشورات، منها المؤيد والمعارض، وكثير منها لنساء يعبّرن عن نفس الرغبة كذلك.
ومن خلال قراءة وتحليل عدد معقول من تلك المنشورات أو الشهادات يتضح أن الغالبية ممن كتبن حكايتهن مع الحجاب ارتدينه في فترة الثمانينيات والتسعينيات، وكذلك الغالبية منهن خلعنه بعد الثورة، كما يتضح أنّ أسباب ارتداء الحجاب منذ البداية كان تنحصر في ثلاثة: إما تأثر من الفتاة ذاتها بالخطاب الديني السائد، أو بسبب ضغط الأسرة والمجتمع، أو لأنه تحول إلى عرف سائد يتم ممارسته بشكل تلقائي، كما يتضح أنّ البعض لا يزلن يرتدين الحجاب لكن دون قناعة به ومع وجود رغبة قوية في خلعه لكن لا يقمن بذلك خوفاً من المجتمع، كما لا تزال بعضهن يرتدينه رغم التحولات الفكرية التي حدثت لهن بعد الثورة لكنهن رغم ذلك يخفن من خلعه؛ بسبب ردود الفعل من دوائرهن المحيطة، تقول إحداهن “أنا حالياً ربوبية مش مسلمة من الأساس لكن ما زلت وكتير زيي لابسينه لأنه بالإجبار ومفيش نقاش في لبسه”.
المرأة في الخطاب السلفي
ينشغل الخطاب السلفي في جزء كبير منه بالمرأة ويركز على العديد من الموضوعات الخاصة بها، مثل حجابها وعملها وخروجها من المنزل ومكانتها بالنسبة للرجل وعلاقتها بزوجها وقضية التعدد، إلى غير ذلك من الموضوعات، والخطاب السلفي يبرز المرأة على أنها “كائن أدنى درجة من الرجل” وأنها “ناقصة عقل ودين” وأنها “فتنة” يجب إخفاؤها داخل البيت وعن أعين الرجال ولا تخرج إلا للضرورة، وأنها السبب في تخلّف المسلمين، ويعتبر أنها السبب في جرائم التحرش والاغتصاب بمظهرها وملابسها، كما يعظّم هذا الخطاب من قضية الحجاب، ويعمل على التهويل من شأن العقاب الذي ستناله المرأة التي لا ترتدي الحجاب بشكل مبالغ فيه ويخلق بداخلها “مشاعر الذنب” التي ترافقها بشكل مستمر تجاه كل شيء، كما أنه يربط بين الحجاب وبين العفة والخلق الحسن ويعتبر عدم ارتداء الحجاب دليلاً على انحلال المرأة وفسادها، وتعبر إحداهن عن تلك المشاعر المتأثرة بنظرة الفكر السلفي للمرأة “ياما بكيت وانتحبت علشان أنا إنسان مذنب”، وتقول أخرى “بدأ الجميع يتعامل معي وكأن هناك ما ينقصني، فبدأ الشعور بالذنب يحاوطني، الصلاة ليست كافية، والدعاء ليس كافياً، والذهاب إلى الدروس الدينية وحفظ القرآن والتجويد ليس كافياً، كل ما تفعلينه لا قيمة له بدون حجاب، هكذا كان الجميع يخبرني، وهكذا بدأت أردد لنفسي، شعرت وكأنني مرتدة ويجب أن أعلن إسلامي بارتداء الحجاب، فارتديته”، ويحكي شاب في أحد التعليقات عن نظرته سابقاً لغير المحجبة “كان عندي جارة غير محجبة وكان كل شارعنا شايفينها بنت فاجرة وكان بعض الناس شايفين أبوها راجل ديوث”.
لكن على جانب آخر ترفض العديد من النساء تلك النظرة والمكانة، ويرين أنّ المرأة “إنسان كامل له إرادته الحرة والمستقلة لا مجرد تابع للرجل، ويجب أن يكون لها كل الحقوق وأن تتمتع بكل الحريات”، ويرفضن تلك القيود التي يضعها عليهن المجتمع المتأثر بالخطاب السلفي، ويرفضن الحجاب؛ لأنه، بوجهة نظرهنّ، تم إجبارهن عليه ويرينه “رمزاً لتلك القيود”، وقد عبرت الكثيرات منهن عن ذلك الشعور في حكاياتهن فتقول إحداهن: “لبست النقاب خمس سنوات عجاف، ممنوعة من العمل، ممنوعة من الاختلاط بأي رجل، ممنوعة أن صفحتي على فيسبوك يكون عليها رجال، ممنوعة من كل شيء، تقوقعت تماماً وخسرت مهنتي، وعلاقاتي وكل شيء”. وتقول أخرى “أنا مش عايزة استخبى أنا عايزة أاتفاعل مع الناس بتعابير وشي الانفعالية وأضحك والناس تشوف لمعة عيني ومحسش إني حبيسة فكرة”، وكتبت إحداهنّ “أنا مبسوطة بكل اللي وصلت له لحد دلوقتي، راضية عن إني تخلصت من تبعية وقيد شايفة إنه بينتقص من كوني ست”.
كاتبة أخرى محجبة ومؤمنة بفرضية الحجاب تكتب في موقع آخر عن نظرة المرأة وشعورها تجاه الحجاب لتكشف عن جانب مخفيّ من الأمر فتقول “لقد آن الأوان لأن تكتب المرأة عن حجابها دون أي تدخل رجولي، ومن الرائع أن تمتلك الشجاعة لتحكي هي عن مكنونات نفسها دون خوف من سياط الناس وسيوف الأفكار المسبقة.. مخطئ من يقول إن الحجاب فطرة تنزع إليها نفس المرأة، كلا، إن كل النساء بدون استثناء، جُبلن على حب التزين والتجمل، نعم، نحن نشعر أن الحجاب يحرمنا من أشياء كثيرة كنا نستطيع فعلها لو لم نكن محجبات.. نعم، نحن يؤلمنا جداً أنه يمكن لأي شخص أن يحاكمنا من خلال مظهرنا الخارجي، أعرف أنّ الجميع لا يقولون الحقيقة عندما يتعلق الأمر بالحجاب، الرجال لأنهم لا يعرفون، والنساء لأنهن يخجلن أو يخفن أو يشعرن بالسوء”.
لماذا خلعن الحجاب؟
كان لأحداث يناير 2011 العديد من التداعيات على كل المستويات، منها زيادة درجة الوعي تجاه العديد من القضايا بسبب زيادة التفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي ومناخ الحرية المتوفر حينها، وكذلك بروز التيار الإسلامي وتعبيره عن أفكاره بشكل أوضح من ذي قبل، ونزول الحركة الإسلامية ساحة التجربة وانكشاف العديد من العيوب نتيجة لذلك، فضلاً عن حالة السيولة التي أصابت المجتمع وطالت كل شيء من قيم ومعايير ورموز.. الخ، ولذلك يمكن القول بأن هناك 3 أسباب رئيسية لظاهرة نزع الحجاب في الأعوام الأخيرة، وهي:
1. سقوط النموذج
قبل الثورة كان رموز التيار الإسلامي يتمتعون بمكانة متميزة لدى شريحة كبيرة في المجتمع، وكانت الصورة الذهنية عنهم تحمل قدراً من الثقة والصدق والعديد من السمات الإيجابية، وكانت الحركات الإسلامية تقدم نفسها على أنّها النموذج الذي يفهم الإسلام بشكل صحيح ويطبقه وأنّه نموذج يكاد يكون خالياً من العيوب، وكانت جماعة الإخوان تقدم نفسها على أنّها البديل المناسب الذي يملك الرؤية والمشروع والحل لما في المجتمع من مشكلات، لكن أداء التيار الإسلامي بكل تنوعاته بعد الثورة أصاب الكثيرين بالصدمة وجعل تلك الصورة تهتز في العقول بعدما رأوا طبيعة الخطاب المتعالي والمثير للأزمات، والأفكار التي اختلف معها الكثيرون، وطبيعة القضايا والأهداف الخاصة بالحركات الإسلامية والتي تنفصل بدرجة كبيرة عن هموم المجتمع وأولوياته، تقول إحداهن على جماعة الإخوان “بقى واضح للأعمى لهفتهم على الوصول للحكم بأي وسيلة، وقتها فهمت إن الحجاب كان أحد أدواتهم لقياس انتشارهم وتأثيرهم وقدرتهم على التحكم أو الحكم، مانساش أبدًا أحد الشخصيات البارزة لما طلع يقول لما نمسك الحكم حانفرض الحجاب بالقانون واللي مش عاجبها تسيب البلد”، كما تقول أخرى عن التيار السلفي التي كانت متأثرة به قبل الثورة ثم اكتشفت تناقضاتهم بعد الثورة “فجأة اتحول شيوخ الحق ليهود بنو قريظة وخانونا وخانوا العهد وسقطوا مع أول شربة مياه من نهر السلطة، بدأت أنقم عليهم بس وأتساءل فين الحكم والمواعظ بنصرة الحق!”، كما تقول أخرى في السياق نفسه عن الإخوان وعدم مشاركتهم في الثورة منذ بدايتها “كنت متوقعة إني ألاقي الإخوان واقفين في الصف الأول لكن موقفهم في الثورة خلى الخلاف بيني وبينهم مش حركي ولا نسوي ولكن أخلاقي.. ونقدر نقول إنّ أكتر حاجتين حققتهم ثورة 25 يناير بنجاح باهر هي كشف الأقنعة”.
2. الشعور بالوهم
بعد الثورة، وكما قلنا، مع زيادة درجة الوعي وانكشاف العديد من أخطاء وعيوب التيار الإسلامي والخطاب الديني؛ صار كل شيء محلًا للتناول والنقد، وبدأ البعض يعيد قراءة وتقييم العديد من الأفكار والقناعات الموروثة، وبدأ يظهر اتجاه فردي في البحث والتفكير والممارسة بعيداً عن القوالب النمطية، وأصحبت هناك قناعة بأنّ على الإنسان أن يفعل ويؤمن بما يطمئن إليه دون وصاية، وتأتي شهادات المشاركات في الهاشتاغ لتكشف عن ذلك التحول، فتقول إحداهن “اكتشفت بعد التعافي أنّ جماعات الاسلام السياسي والصحوة الموهومة والمزعومة ناس تاجروا بمشاعر الذنب دي عند أغلب جيلي”، وتتحدث أخرى عن الخطاب السلفي “سمعت لشومان وحسان كام مرة، وكلامهم كان صعب جداً ومقرف الحقيقة ومهين جداً، وكرهتهم حقيقي”، وتقول إحدى المشاركات “حسيت إني لازم ابتدي أدور بجد وأقرا وأبطل أحط كلام وأمثلة محفوظة وبدأت مشوار العصف وانفتح قدامي باب سحري، ورا الباب ده كان مستنيني كنز معلومات مستخبي عن عمد، دفنوه اللي عاوزينا نفضل مسحولين وراهم بلا عقل أو فهم”، وتقول أخرى: “بدأت أدور في الموضوع وعرفت إن في آراء تانية غير الآراء السلفية دي وبطلت أسمعهم تماماً”.
3. التمرد على وصاية المجتمع
بسبب التأثر بهذا الخطاب الديني أصبح المجتمع مع الوقت ينظر إلى الفتاة غير المحجبة نظرة دونية ويرى عدم ارتداء الحجاب قريناً للخلاعة والفجور، ومن ثم بدأ يمارس ضغطاً على الفتاة بطرق مختلفة حتى ترتدي الحجاب، وقد أدى ذلك إلى شعور الفتيات بالإكراه والاضطهاد حتى جاءت اللحظة التي استطاع بعضهن التخلص من ذلك الإكراه، وتحكي العديد من النساء صوراً من ذلك في إطار شهادتهن، فتقول إحداهن “لبسي الحجاب مكنش بإرادتي والمستر كان بيضربني بالجلدة علشان مش لابسه طرحة”، وأخرى “والدي الله يرحمه جه في مرة وأنا في سن ١٧ وقرر بالنيابة عني أني خلاص مش خارجة من البيت من غيره، وكنت معترضة على مبدأ فرض الرأي مش على مبدأ الحجاب في حد ذاته”، وأخرى تقول “كل بنت في قريتي معندهاش أصلاً حق الاختيار تلبسه ولا لأ”، وتقول أخرى “محاولات حبس وإجبار وضرب، لما كنا في إعدادي كانوا المدرسات المحجبات يتكلموا في الطابور إن البنات لازم تتحجب واللي مش هتتحجب حتتبهدل”، وأخرى تقول “محبي عمرو خالد وأتباعه بدأوا ممارسة ضغوط علي من نوع آخر: اتحجبي وأنا اخليكي تسافري، اتحجبي وأجيبلك عريس”، وأخرى تقول “اتضربت واتحبست في البيت واتقص لي شعري واتمنعت من الخروج فترة طويلة، والعيلة تواصلت مع شيخ أزهري عشان يهديني ويرجعني لعقلي ولما كلامي معجبوش قالي إنتي “عايزة تمشي على حل شعرك”، واتهمت إني ملحدة”.
هذه الممارسات خلقت نوعاً من رد الفعل فيما بعد تمثل في قرار بخلع الحجاب في لحظة معينة كانت فيها الظروف تسمح بذلك على الرغم من ردود الفعل المتوقعة من الأسرة والمجتمع المحيط.
رسائل غير مباشرة
ثمة رسائل تريد المشاركات بحكايتهن أن توصلها إلى المجتمع الذي يجب عليه أن يقرأها جيداً، تريد المرأة أن تعلن وتؤكد حقيقة غائبة وهي أنّها إنسان كامل مستقل، ليست نصف إنسان أو تابعاً، وأنّ الإجبار على شيء مهما طال أمده لابد أن يولّد نتيجة عكسية في يوم ما قد تكون أحياناً متطرفة، وأنّ التدين الشكلي لا يعكس جوهراً حقيقياً ولكن يولّد نفاقاً وازدواجية، نستطيع كذلك أن نرى أنّ تغيرات كثيرة تحدث، هناك ثوابت تهتز، وأوضاع تتغير، وأسئلة تُطرح وكثير منها لا يجد إجابات شافية، وأنّ الفكر الديني في مأزق حقيقي لا يستطيع التغلب عليه بإجاباته المعتادة وأساليبه التي أصبحت بالية، وأنّه إن لم يجدد نفسه سوف تتخطاه حركة المجتمع غير عابئة به.
المصدر حفريات