خالد هدوي
غرقت تونس في الانتدابات العشوائية منذ العام 2011 في إطار الترضيات، عبر تقديم وظائف وهمية لإسكات أصوات قد تحتج ضد السلطة وتطالب بالتشغيل في أيّ لحظة، ما طرح تساؤلات لدى المراقبين بشأن كيفية تعامل حكومة نجلاء بودن مع هذه الوضعية، وآليات التشغيل الاسترضائية التي تستنزف موارد الدولة.
ونفّذ عدد من أعوان الآلية عشرين الرافضين للاتفاقية القطاعية المشتركة، وقفة احتجاجية مؤخرا، أمام مقر وزارة الشؤون الاجتماعية، للمطالبة بتوظيفهم المباشر في الوظيفة العمومية.
وأوضحت آمنة الزويدي المنسّقة الوطنية للآلية في تصريح لإذاعة محلية أنه “تم الاتفاق مع وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي على توظيفهم في الوظيفة العمومية لمدة سنة ثم ترسيمهم، لكن تم تغيير العقود في ما بعد إلى التوظيف في منشآت عمومية (المركز الدولي لذوي الاحتياجات الخاصة) مع تنظير الأجور”.
وأضافت الزويدي أنّ الرئيس قيس سعيد وعد في لقاء سابق بتوظيف أعوان الآلية عشرين في الوظيفة العمومية”، ملوّحة بـ “إمكانية الدخول في إضراب جوع وحشي”، داعية “المنظمات الوطنية والرئيس سعيد إلى إيجاد حلّ للملف”.
وتواجه تونس أزمات اقتصادية واجتماعية عمّقتها تداعيات جائحة كورونا التي أحالت الكثير من المواطنين على البطالة، كما ارتفعت نسبة الفقر وتراجعت القدرة الشرائية للتونسيين، ما يجعل الحكومة غير قادرة على معالجة تلك الملفات مع صعوبة إعلان رفضها، خشية إثارة استفزاز الشارع.
ودعا مجمع التنسيقيات الجهوية لعمال الحضائر (45 – 55 سنة) المعنيين للمشاركة في التحرك احتجاجي الثلاثاء بساحة الحكومة بالقصبة.
وأعرب في بيان له عن استنكاره من “سياسة التسويف والمماطلة التي طالت أكثر من اللازم في تطبيق القانون عدد 27 لسنة 2021 وتوجتها مؤخرا بعدم إدراج أيّ اعتماد ضمن ميزانية الدولة لسنة 2023 لتسوية وضعيتهم طبقا لما نص عليه القانون المذكور”.
كما أكّد مجمع التنسيقيات، “العزم على مواصلة خوض النضال بكل الطرق والأساليب القانونية”، مطالبا “بالشروع في إحداث منصة إلكترونية لتسجل الراغبين من العملة في الحصول على صك مغادرة أو الانتداب وتدارك ما فات من سنوات منذ صدور القانون”.
ولم تفلح الحكومات المتعاقبة في معالجة الملف المتوارث فضلا عن الفشل في إدارة الشأن العام مع ارتفاع سقف المطالب الاجتماعية في البلاد.
ويرى متابعون أنه كان على السلطات فتح هذا الملف منذ فترة لتجاوز الأزمة الحالية ودون إهدار المال العام، عبر تخصيص منحة بطالة أو إيجاد آليات أخرى مقابل التشغيل الفعلي.
وقال محسن حسن، الخبير الاقتصادي ووزير التجارة السابق، “من المفروض أن الدولة قطعت مع آليات التشغيل الهش منذ سنوات، ولكن ربما وضع المالية العمومية جعلها تؤجّل تسوية تلك الوضعيات”.
وأكّد حسن في تصريحات لـ”العرب”، “اليوم لا مجال للتشغيل الهشّ في دولة تحترم نفسها، وتأسيس هذه الآليات بعد 2011 هو شكل من أشكال الفساد”، لافتا إلى أنه “من حقهم القيام بوقفات احتجاجية ومن حقّ الدولة أيضا أن تحسن التصرّف في المال العام ومحاسبة المتجاوزين”.
وأضاف الخبير الاقتصادي “الانزلاقات الكبرى في تونس تمت مع حكومة الباجي قائد السبسي في 2011، فتمّ تأسيس هذه الآليات للتوظيف مقابل شراء السلم الاجتماعي، وكان لا بدّ من التفكير في آليات وحلول أخرى حتى نتجنّب هذا المأزق عبر إحداث منحة بطالة وقتية”.
وأردف “هناك أكثر من 250 ألف موظّف زائد في الوظيفة العمومية، وهذا يتطلب إصلاحا شاملا للقطاع العام عبر مراجعة سياسة التأجير وقانون الشغل”.
وتجد حكومة نجلاء بودن نفسها في مواجهة آليات التشغيل الهشة والمعقدة، بسبب اتفاقيات سابقة التزمت بها الحكومات وتعجز ميزانية الدولة عن الإيفاء بها خاصة وأن عدد العاملين وفقا لهذه الاتفاقيات يقدّر بالآلاف.
وأفاد رافع الطبيب أستاذ العلوم الجيوسياسية أن “هؤلاء يمثلون نوعا من أنواع المافيا ويستنزفون موارد الدولة ويعتمدون على الفوضوية النقابية من أجل ترهيب السلطة”.
وقال لـ”العرب” إن “هناك من يستفيد من وجود هذه الآليات، والأحزاب بيمينها ويسارها خرّبت من الداخل وأصبحت بيوتا فارغة لأنها استعملت هذه الآليات واستغلتها لتحقيق مآرب سياسية عبر الحملات الانتخابية من فترة إلى أخرى على غرار حركة النهضة التي شغّلت الكثير بعد 2011”.
وتابع رافع الطبيب “شركات البستنة تحوّلت إلى خطر اجتماعي، وهناك استضعاف للدولة والكثير من العمّال لا يملكون مستوى ثقافيا وعلميا ويعملون على حساب أصحاب الشهادات العليا، وهذا يستدعي إعادة النظر بصفة جدية في التشغيل بالوظيفة العمومية”.
وبخصوص التساؤلات المتكرّرة حول عدم حسم الحكومة لملف الآليات الاسترضائية، أفاد الطبيب أنه “على الدولة أن تكمل أوّلا بناء المؤسسات ثمّ تمرّ إلى الإصلاحات الحقيقية في المجتمع على غرار تحرير المبادرة الحرّة للشباب وفسح المجال للجميع لخلق الثروة وتشجيع القطاع الخاص والمؤسسات الصغرى والمتوسطة”.
وأمضى رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي والأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي اتفاقا في 20 أكتوبر 2020 يقضي بتسوية وضعيات عمال الحضائر بعد مشاورات طويلة مع الحكومات المتعاقبة منذ سنوات.
ومكّنت تلك الاتفاقية من تسوية وضعية قرابة 31 ألف عامل من عملة الحضائر الجهوية وعمال الحضائر الفلاحية وشملت ثلاثة عناوين كبرى، يهمّ العنوان الأول الذين يقل سنهم عن 45 سنة في حين يهم العنوان الثاني ما فوق 45 سنة إلى حدود 55 سنة أما العنوان الثالث فيخص ما فوق 55 سنة.
لكن اقترنت بالملف العديد من التجاوزات، حيث أكدت محكمة المحاسبات في تقارير سابقة تسجيل الآلاف من الأسماء الوهمية والحصول على رواتب ومنح من دون ممارسة العمل الموكل إليهم، فضلا عن عمل بعض الأشخاص ضمن هذه الآلية من دون استكمال شروط الانتفاع بها، من قبيل العمل في وظيفة أخرى غير تلك التي منحه إياها هذا الإجراء، وذلك إلى جانب التجاوزات المتعلقة بعمليات تسوية الأوضاع.
كما بيّنت المحكمة من خلال عملية تدقيق شملت أوضاع أكثر من 70 ألف عامل حظائر في مختلف الجهات أنّ نحو 9 آلاف عامل يتقاضون منحا مزدوجة أو لديهم مشكلات تتعلق بحصولهم على معرّف جبائي أو أرقام تخص التغطية الاجتماعية.
وفي 2019، قامت وزارة التنمية والتعاون الدولي بعملية تدقيق أدت إلى تسريح أكثر من 30 ألف عامل كانوا يتقاضون رواتب من دون وجه حق، وكان بعضهم يعمل في قطاعات أخرى، سواء خاصة أو عامة، وتبيّن أنّ آخرين من الموتى أو تجاوزوا الستين عاما، كذلك ثمّة أشخاص يتقاضون رواتب شهرية منذ سنوات وهم يلزمون بيوتهم وعاطلون عن العمل.
وتعوّل تونس على موافقة صندوق النقد الدولي على منحها قرضا بقيمة 1.9 مليار دولار لإصلاح توازناتها المالية وتمويل ميزانيتها وفتح الآفاق لإبرام اتفاقات مالية مع أطراف مانحة أخرى، مقابل الالتزام بحزمة من الإصلاحات تشمل نظام الدعم والمؤسسات العمومية المتعثرة والتحكم في كتلة الرواتب وغيرها من الإصلاحات الأخرى.
المصدر العرب اللندنية