علي الصراف
هب جدلا أن إيران حققت انتصارات غير مسبوقة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأنها صارت راسخة بفضل الطبيعة الميليشياوية للتمدد الإيراني في هذه الدول، وأن ضحاياها استسلموا لأقدارهم حيالها. ولكن إيران مهزومة في الداخل. وكل تلك الانتصارات إنما يتعلق بمصائر سلطة، هي نفسها، لم تعد تعرف طريقا للبقاء. وفي أفضل الأحوال، فإنها تقف في محطة قطار فاتت مواعيده.
الاقتصاد الإيراني مهزوم. الفقر والتضخم ينهشان عظام الملايين من الإيرانيين. الذين يشاركون في الانتفاضة إنما يعبرون عن النقمة من أحوالهم، وليس بالضرورة احتجاجا على مقتل شابة قُتل من بعدها المئات. صحيح أنهم لا يجدون سبيلا لتغيير النظام، إلا أن النظام نفسه لا يجد سبيلا أيضا لإصلاح أحواله. استئناف العلاقات الطبيعية بين الشعوب الإيرانية ونظامها بات مستحيلا. ربما يعتقد الولي الفقيه أن رفع العقوبات عن إيران سوف يوفر المال لإنعاش الاقتصاد، وبالتالي استرداد القدرة على أن يملي بقاءه لمدة أطول من الزمن. إلا أن هذا مجرد وهم. إيران تحتاج إلى أن تتخلى عن الكثير لكي تحظى برفع شامل للعقوبات. دورها في الحرب الروسية ضد أوكرانيا زاد الكراهية لنظامها، وقد لا يطول الوقت حتى يصبح ذلك الدور موضع إدانة بقصد الحصول على تعويضات، تُستقطع من الاحتياطات المالية نفسها التي تنتظر سلطة الولي الفقيه الإفراج عنها. كما أن عليها التخلي عن برنامجها النووي أيضا، وأن ترضى بقيود وأعمال مراقبة أشد، وهو ما لا تجد أن لها مصلحة حقيقية فيه.
◙ إيران تعيش خارج الزمن. وهذا كاف بمفرده لكي يدفعها ويدفع نظامها إلى الهاوية، من دون الحاجة إلى نزاع خارجي
إيران رضيت بالذهاب إلى استئناف العلاقات مع السعودية لأنها لا تملك خيارا آخر يفتح لها أبوابا لتخفيف ما تعانيه من ضغوط اقتصادية وعزلة سياسية. لو كان لدى إيران خيار آخر يترافق مع ما تحقق لها من نفوذ في تلك البلدان الأربعة، فإنها كانت ستفضل التصعيد ضد السعودية، بدلا من مصالحتها. على الأقل، لأن ذلك يتلاءم أكثر مع طبيعتها كـ”مشروع لتصدير الثورة”.
إيران بلد يمتلك إمكانيات ضخمة من الموارد، ليس النفط والغاز سوى جزء منها. هذه الموارد، لو أنها اُستغلت، فلقد كان بوسعها أن تتحوّل إلى قوة اقتصادية أكبر من تركيا بكثير. لا يجب نسيان أن تركيا تفتقر إلى موارد الطاقة التي تتوفر لإيران. ولكن 44 سنة من سلطة الولي الفقيه، كفلت تحويل إيران إلى بلد لا يقوى على تدبير احتياجاته الأساسية، حتى بات يستعين بميليشيات نهب في العراق لتدبير شؤونه.
التنمية، سباق مع الزمن. تكسبه أو تخسره بما يتوفر لك من الموارد، ولكن أيضا بما إذا كنت قادرا على اللحاق بركب ما يتقدم مع الزمن. إيران تبدو في اللحظة الراهنة خارج الزمن كليا. إنها صفر على الشمال من هذه الناحية.
السعودية والإمارات في وضع مختلف تماما. إنهما تتسابقان مع الزمن على كل وجه، من أجل استجلاء الفرص التي تضمن لهما موقعا متقدما ليس بين دول المنطقة وحدها، ولكن بين دول العالم أيضا. إنهما تشقان طرقا لم يسبق أن تم شقها في أعمال التحديث والتطوير والتنمية. وتقومان باستثمارات محلية وخارجية، وتعقدان شراكات مع شركات عملاقة، وتنشئان شركات عملاقة أيضا تدر من الموارد ما يعاد تدويره في استثمارات أخرى.
ذهبت السعودية إلى استئناف العلاقات مع إيران، من أجل أن تحمي هذا السباق، ولكي تواصل الجري فيه. أرامكو وحدها حققت أرباحا قياسية بلغت 161 مليار دولار من العائدات في العام الماضي. ومع الإعلان عن نتائج أعمال هذه الشركة، أعلن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن تأسيس شركة “طيران الرياض” ويتوقع أن تضيف 20 مليار دولار إلى الدخل القومي، وتوفر 200 ألف وظيفة. وزير النقل والخدمات اللوجستية صالح الجاسر قال “إنّ إطلاق الناقل الجوي الجديد جزء من حزمة ضخمة من المشاريع هي الأكبر على الإطلاق في تاريخ الطيران بالمملكة لترسيخ مكانة بلادنا كمحور دولي للطيران ومركز لوجستي عالمي”.
هذا نموذج واحد من عدة مشاريع عملاقة لخوض السباق مع الزمن، من دون الحاجة إلى ذكر مشروع “نيوم” أو إنتاج الهيدروجين ومشاريع الطاقة الخضراء الأخرى، والتحول إلى اقتصاد محايد مناخيا. أين إيران من ذلك؟ إنها صفر على الشمال. وأين يمكن أن تضع إيران ميليشياتها في هذا الخضم؟ لن تجد مكانا ملائما لها أفضل، بحسابات الزمن، من برميل قمامة عملاق يليق بما تراكم فيه من أعمال الفساد والنهب والانتهاكات.
التفاهة هي التي شكلت الجانب الأهم من نزعة العداء الإيرانية ضد دول الخليج. وهذا الجانب يتعلق بالحسد من ثراء هذه الدول ونجاحها التنموي. وهو حسد من النوع الذي يمارسه ذوو النفوس الصغيرة. في حين أن إيران تملك موارد أكبر. وكان بوسعها أن تحقق أكثر مما حققت دول الخليج، مما لا يستوجب الحسد من الأساس. إلا أن النفوس الصغيرة تظل صغيرة في النهاية. ومنها يجيء القول “الحسود لا يسود”. لأنه تافه.
الحرب مكلفة، سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة. واحد من دروس التاريخ يقول إن الهمج أكثر سطوة في الحرب من غيرهم. لأنهم لا يخسرون فيها الكثير. بينما المتحضرون والأثرياء يميلون إلى تحاشيها، ليس خوفا بالضرورة، ولكن للمحافظة على ما عمّروه.
◙ إيران بلد يمتلك إمكانيات ضخمة من الموارد، ليس النفط والغاز سوى جزء منها. هذه الموارد، لو أنها اُستغلت، فلقد كان بوسعها أن تتحوّل إلى قوة اقتصادية أكبر من تركيا بكثير
وماذا تفرق بالنسبة إلى غلمان الولي الفقيه أن يطلقوا صواريخ ضد منشآت النفط السعودية؟ لا شيء بالأحرى. وماذا تفرق لهم، لو أن رد الفعل الدفاعي أدى إلى موت مئة أو مئتين منهم؟ لا شيء أيضا.
السعودية واجهت هذا النمط من الهمجية في اليمن. ولئن كانت همجية الحوثي لا تأبه بحياة البشر، فلأن الولي الفقيه، لا يفرق معه أن يموت ألف أو مئة ألف من مواطنيه أنفسهم. كلهم عنده بسوية تراب المداس. وهو ما حصل بالفعل عندما اجتاح وباء كورونا إيران، فتساقط عشرات الآلاف، بعد أن زودهم بلقاحات وهمية.
إيران تعيش خارج الزمن. وهذا كاف بمفرده لكي يدفعها ويدفع نظامها إلى الهاوية، من دون الحاجة إلى نزاع خارجي. وفي الواقع، فإن تجريد إيران من أدوات إثارة النزاعات، يضعها في مواجهة ما فاتها من الزمن، ليكتشف مواطنوها الحفرة التي انتهوا إليها بعد أربعة عقود ونيف من “انتصار الثورة الإسلامية”، حتى ليسأل سائلهم: مَنْ سيكون بحاجة إلى هزيمة مع هكذا انتصار.
تقف إيران، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، في محطة بلا قطارات. بينما تستقل السعودية قطارا بعد الآخر في أعمال التنمية والاستثمارات. مشاريع الطاقة والبتروكيمياويات التي تبنيها أرامكو في الصين وكوريا الجنوبية وماليزيا وإندونيسيا وغيرها، بما يعادل عشرات المليارات من الدولارات، لن يمكن لإيران أن تخوض غمار المنافسة فيها ولا حتى بعد عشرين عاما. هذا إذا بدأت الآن لتبحث عن سبيل للخروج من دوائر النزاعات وتنشغل بإعادة بناء اقتصادها المتهالك.
إنها لن تفعل. فلديها غلمان في العراق وسوريا ولبنان واليمن، يوفرون لها الشعور بمتعة العيش خارج الزمن.
نقلاً عن العرب اللندنية