ماهر فرغلي
كاتب مصري
لم ينشأ الجهاز السري داخل جماعة الإخوان من الفراغ، بل عبر معالم فكرية واضحة، وسلوك عنيف ترعرع عليه عناصر الجماعة منذ تأسيسها، حينما أسس حسن البنا جمعية منع المحرمات ونصّب نفسه مسؤولاً عن تقويم السلوك الديني للمسلمين، قائلاً في مذكراته: “إنّ من يشق عصا الجمع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان”، وحتى تشكّل النظام الخاص، الذي واجه عمليات إقصاء وانحسار إلى مدٍّ وانتشار، ليس في مصر فقط، بل في كل الدول التي نشأ فيها التنظيم، الذي كان يسير في خطين متوازيين؛ أحدهما علني، وآخر ضارب في السرّية.
1 ـ حسن البنا ومأسسة السرّية:
بدأ البنا التأصيل لتأسيس الجهاز السرّي بالرسائل التي وجّهها إلى الشباب، فقد اعتبر الجهاد الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، وأنّ أول مراتبه إنكار القلب للمنكر، وأعلاه القتال في سبيل الله، وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة الحق عند السلطان الجائر.
وكانت نظرية البنا الجهادية تتمحور حول نقاط رئيسية:
أ) الجهاد لحماية الدعوة.
ب) إنشاء كتائب خاصة معنية بقضية الجهاد.
تجلّى ما سبق في بعض المظاهر التالية التي أوردها موقع فقيه الجماعة الشيخ يوسف القرضاوي في مذكراته: جعل البنا المصحف والسيف شعاراً للدعوة، وجعل الجهاد في هتاف الجماعة “الله غايتنا، والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا، والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”، وجعل الجهاد ركناً من أركان البيعة التي يأخذها على أتباعه، فقال في رسالة التعاليم: أريد بالجهاد الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، والمقصود بقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يَغزُ، ولم ينوِ الغزو، مات ميتة جاهلية)، وأوّل مراتبه إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة الحق عند السلطان الجائر… وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: (الجهاد سبيلنا)، خصص للجهاد رسالة خاصة من رسائل الدعوة، وبدأها بقوله: فرضَ الله الجهاد على كل مسلم ومسلمة فريضة لازمة حازمة لا مناص منها ولا مفر معها… ولستَ تجدُ نظاماً قديماً أو حديثاً دينياً أو مدنياً عني بشأن الجهاد والجندية واستنفار الأمّة، وحشدها كلها صفاً واحداً للدفاع بكل قواها عن الحق، كما تجد ذلك في (رسالة المؤتمر الخامس) في توضيح معالم الطريق: “وفي الوقت الذي يكونُ فيه منكم ـ معشر الإخوان المسلمين ـ (300) كتيبة، قد جهزت كلُّ منها نفسَـها روحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لُجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل جبار عنيد، فإنّي فاعلٌ إن شاء الله”.
وأضاف القرضاوي: أنشأ البنا الكتائب، وأشرف بنفسه على تسليحها وتدريبها وتثقيفها، وحين يُسأل هل سيستخدم الإخوان المسلمون القوة؟ يقول: “أمّا القوة، فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ” [الأنفال:60]. والنبي يقول: “المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف”.
2 ـ تأصيل منهج حركي لتنظيم موازٍ:
وفق ما ورد في موقع الإخوان ويكي، فقد عني البنا منذ نشأة الجماعة أن يقوم عناصره بنشر الفكرة العامة بين الناس، ونظامُ الدعوة في هذه المرحلة نظام الجمعيات الإدارية، ومهمتها العمل للخير العام، ووسيلتها الوعظ والإرشاد تارة وإقامة المنشآت النافعة تارة أخرى، إلى غير ذلك من الوسائل العملية، وكل شُعَبِ الإخوان تمثل هذه المرحلة من حياة الدعوة، ثم التكوين باستخلاص عناصر تحمل أعباء (الجهاد) وضم بعضها إلى بعض، ونظام الدعوة ـ في هذه المرحلة ـ صوفي بحت من الناحية الروحية، وعسكري بحت من الناحية العملية، وشعار هاتين الناحيتين (أمر وطاعة) من غير تردد ولا مراجعة ولا شكٍّ ولا حرج، وتُمثِّلُ الكتائب الإخوانية هذه المرحلة من حياة الدعوة، وتنظمها رسالة المنهج الذي وضعه البنا نفسه، ثم التنفيذ، وهي مرحلة جهاد لا هوادة فيه، وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية.
بناء على ما سبق، أنشأ البنا في عام 1940 جهازاً داخل الجماعة؛ سمّاه “النظام الخاص” يضم إليه من أفراد الجماعة من يلتزمون بتعاليمه وتوجيهاته، كما يتميزون باللياقة البدنية، والقدرة على الاحتمال، والسمع والطاعة، وكلَّف (5) بالإشراف عليه واختيار جنوده، وكان وراء تكوين هذا النظام عدة أهداف يسعى لتحقيقها؛ أوّلها: مقاومة الإنجليز الذين يحتلون مصر والسودان وغيرهما من بلاد العرب والمسلمين. وثانيها: مقاومة المشروع الصهيوني. وثالثها: حماية الدعوة من أعدائها الذين قد يحاولون اقتلاع جذورها، وإيقاف مسيرتها، وإعاقة حركتها، بقانون القوة، ورابعها: غرس روح الجهاد من أجل السعي لتغيير الحكم العلماني الذي برأيه لا يحكم بما أنزل الله، ولا يحتكم إلى شريعة الإسلام، عن طريق “انقلاب عسكري” تكون طلائعه من أبناء النظام الخاص .
3 ـ تأصيل مفهوم الجهاد التضامني:
تبنّت جماعة الإخوان المسلمين مفهوم “الجهاد الدفاعي التضامني”، وهو لا يحدث في العادة دون نظام خاص وجهاز سرّي، وعبر فقه يعتمد على ضرورة إعادة الخلافة، ومقاومة الاستعمار، وتحرير المسلمين، ومقاومة الظلم.
في افتتاحية العدد الأول من مجلة الجماعة (النذير) الصادر في عام 1937، كتبها أحمد عبد الرحمن البنّا، وهو والد المرشد العام الأول، قال فيها: “استعدوا يا جنود، وليأخذ كل منكم أهبتَه، ويُعدّ سلاحَه، ولا يلتفت منكم أحدٌ، وامضوا إلى حيث تؤمرون”… حتى قال: “فإذا الأمّة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرِّعوها الدواءَ بالقوة، وإن وجدتم في جسمها عضواً خبيثاً، فاقطعوه، أو سرطاناً خطيراً، فأزيلوه”.
يقول الباحث حسن أبو هنية: إنّ الجهاد التضامني مفهوم راسخ وفق نظرية “دفع الصائل”، وقد تجلت تطبيقاته في المشاركة الإخوانية في حالات عديدة داخلياً إبّان المرحلة الاستعمارية، وخارجياً برزت في “المسألة الفلسطينية”، وظهرت في “القضية الأفغانية”. فموضوع جهاد الدفع وجهاد التضامن أساسية في فقه المؤسس حسن البنا وخلفائه وصولاً إلى عبد الله عزام، وهي ظاهرة في حركة (حماس)، على الرغم من محاولة سيد قطب إبّان محنة الجماعة مع نظام عبد الناصر وثورة تموز (يوليو)، توسيع مفهوم الجهاد ليشمل العدو القريب.
4 ـ تأصيل إيديولوجية الخروج على المجتمع:
صاغ سيد قطب أفكاراً رئيسة فصّل فيها أفكار البنا، وتجاوز بها بعض أفكار المؤسس، وكانت كلها تنظيرات أسهمت في دعم استمرار وبقاء الجهاز السرّي للجماعة.
يقول الباحث معتز الخطيب: “صاغ سيد قطب مفهوم (الإسلام ثورة وانقلاب)، وتكفير المجتمعات المسلمة (التوحيد حاكمية سياسية وقانونية)، وأنّ النظام الإسلامي الشامل لا يقبل التبعيض (نظام مطلق)، ولا يتحرك إلا في محيط هو الذي يصنعه (الطهورية والعزلة الشعورية)، أي أنّه صاغ -في واقع الأمر- البيان النظري أو المنهج الحركي القائم على الثورية والإطلاقية والطهورية. ويعتبر مبدأ “الحاكمية”، الذي لعب سيد قطب دوراً أساسياً في ترسيخه، من أهم الرؤى التي تتمحور حولها المرجعية الفكرية والإيديولوجية للجماعة، وكان له التأثير الكبير على أعضاء الجماعة بجميع فئاتها ممّن تشبعوا بأفكاره الخطيرة الداعية لتحقيق الشريعة ولو بالقوة والعنف من أجل الوصول إلى الحكم”.
يكمل الخطيب قائلاً: تمحورت القطبية على بعض الفرضيات، وهي “جاهلية القرن الـ (20)” التي جعلت المجتمعات المعاصرة تتخبط في مشكلات سببها الابتعاد عن الدين الإسلامي وعدم العمل بمبدأ “الحاكمية”، ويعني المنهج الحركي لدى سيد قطب الحركة بالنص أو المعركة مع ما يسميه “الجاهلية المعاصرة” أو “الجاهلية الحاضرة”، والجهاد لمواجهة التحولات التي عصفت بالأمّة المسلمة. فالواقع والتحولات التي يتمحور بها مفتاح لفهم النص، ومن خلال هذا التفاعل بين النص والواقع يتشكل “فقه الحركة” الساعي لتغيير العالم. وفقه الحركة ضروري لمواجهة هذه التغيرات التي عصفت بالمجتمعات الإسلامية وأدخلتها في وحل الجاهلية الأولى من جديد، وفرضت استئناف الإسلام الذي انقطع وجوده وفق منظور سيد قطب، وأنّ الجهاد من مقتضيات الحاكمية. فإذا كانت السمة الأولى للحاكمية تصوغ مفهوم التوحيد، والسمة الثانية تقوّم الناس والواقع بناء على هذا المفهوم الجديد للتوحيد، فإنّ السمة الثالثة للحاكمية تقدّم الوسيلة المناسبة لتغيير هذا الواقع ليطابق ذلك المفهوم.
بناءً عليه، لم يجد الإخوان عناءً في الأطروحات التي تشرعن للتنظيمات الموازية والنظام الخاص المسلح، إذ إنّ التأصيل الفكري لوجود جهاز سرّي للجماعة هو عامود رئيسي في الأفكار المؤسسة للجماعة.
المصدر حفريات