هلا كريّم
الإرهاق الأبوي! هل سبق وسمعت هذا التعبير؟ هل جالست أحد الوالدين، وهو يتساءل إن كان فعلاً أباً جيداً، أو أماً محتارة إذا كانت تستحق لقب الأمومة؟ بخاصة إذا شعروا بالتقصير والاحتراق بين واجبات الحياة والإمداد بالعاطفة والاهتمام؟ عندما تسمع الشكاوى التي يطلقها الأهل تشعر كأنهم علقوا في فخ الأمومة والأبوة الذهبي.
عادة نسمع عبارة القفص الذهبي عندما يعقد شريكان زواجهما الذي بطبيعة الحال يفرض قواعد جديدة تحد من حريتهما في كثير من الأمور التي اعتادوا القيام بها، سواء كانت روتينية، أو تصل أحياناً لتكون مصيرية.
يولد الأطفال عادة مرافقين بكم من الآمال التي رسمها لهم الأهل كالقصص ذات النهايات السعيدة، وتكون غالباً نهاية مبتورة أو بالأحرى بداية جديدة لم تروَ بعد، ويتصدع الأهل بعد إنشاء العائلة تحت عبء الحياة وضغوطاتها، يلملمون أنفسهم، ويستيقظون لينخرطوا في دوامة الروتين اليومي المشحونة بضغط العمل وتنشئة الأطفال والركض لتأمين لوازم الحياة اليومية وملامح المستقبل، ما يجعل احتراقهم النفسي يظهر في انفعالات وتصرفات غير مرتبطة بشكل مباشر بالحدث الذي كان السبب، ويصلون في نهاية المطاف إلى الإرهاق الأبوي.
العطلات العائلية تنمي مهارات الأطفال فيكتشفونها مع أهاليهم ويستمتعون بها (بكسلز)
يقال إن الأهل ينقلون السعادة أو التعاسة لأطفالهم بالجينات وبالتربية والسلوك، وعليهم تقع مسؤولية إنشاء جيل سعيد ومتوازن. فكيف يمكنهم ذلك؟ ومن يساعدهم؟ وهل بالضرورة ألا يحيا جسد إلا بعد أن يفنى آخر؟
إلى ألمانيا در!
يحق لكل الآباء والأمهات فرصة للملمة الذات، ووقتاً للتنفس والانطلاق من جديد لتحسين أسلوب حياتهم وحياة أطفالهم، وهذا ما التفتت إليه ألمانيا بشكل جدي ووطني حفاظاً على صحة العائلة النفسية.
وبحسب تقرير نشرته هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، قد تكون ألمانيا الدولة الوحيدة في العالم التي يحق فيها بشكل قانوني للوالدين الحصول على ما يسمونه “Kur”، وهو خلوة بين الأهل والأطفال، لعلاج نفسي جسدي في منتجع صحي لمدة ثلاثة أسابيع تقريباً، كل أربع سنوات، ويصف الطبيب هذه الخلوة للأهل المنهكين وتموله غالباً شركات التأمين.
ويتضمن برنامج المنتجع الصحي رعاية للأهل والأطفال، وعلاجات، ووجبات طعام وعديداً من الأنشطة مثل الاسترخاء والتأمل واليوغا، ويمكن للطبيب وصفه ليس فقط لعلاج مشكلة صحية أو نفسية، إنما كإجراء وقائي لمنع المشكلات الخفيفة من التحول إلى الأسوأ.
ويشير التقرير إلى أن أكثر المشكلات شيوعاً هي النفسية، مثل القلق أو الأرق أو أعراض الاكتئاب التي تؤثر في أكثر من 90 في المئة من الأهالي الذين يأتون إلى المنتجع بسبب الإرهاق المرتبط بدور الأهل.
ليس سحراً ولكن
ويذكر التقرير أنه على رغم أن خلوة الأهل والأطفال أو العطل لفترة زمنية معينة لا يمكن أن تحل المشكلات بطريقة سحرية، إلا أنه يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي قوي في الأمهات والآباء، ففي برنامج “Kur” تقيّم العيادة الوالدين، وتقدم خطة للأنشطة والعلاجات المخصصة، مثل العلاج بالكلام، والتمارين البدنية، واتباع روتين صحي جديد، وتقدم الدعم للأطفال في ما يتعلق بأي مشكلات صحية أو نفسية، ويتولى طاقم العمل العناية بالوجبات والتنظيف، أما في فترة بعد الظهر، فيقضي الوالدان والأطفال وقتاً معاً. وأظهرت الأبحاث تحسناً في المشكلات الجسدية للوالدين مثل آلام الظهر، وتحسناً لدى الأطفال المصابين بمشكلات الجلد، والجهاز التنفسي، والمشكلات السلوكية، كما أظهرت استطلاعات المرضى أن معظم الآباء يرون أن الخلوات مفيدة، وساعدتهم على التعامل مع المشكلات والاعتناء بصحتهم في الحياة اليومية، وهذه الخلوات تمنح الأهل مكاناً لضبط إيقاع حياتهم المتصاعد والانتباه أكثر إلى الأسرة وصحتها النفسية.
استغراب من الدول المجاورة
وتستغرب فانيسا سباديني المواطنة السويسرية هذا الإجراء، وتتمنى لو أنه موجود في سويسرا، وتقول لـ “اندبندنت عربية” إن هذا الاهتمام بالصحة النفسية للعائلة “يبدو أنه تصاعد أثناء الحجر بسبب انتشار كوفيد -19. وبما أنه أصبح مألوفاً في ألمانيا، أتوقع أن يمتد إلى سويسرا قريباً على رغم أنني أشك أن ترحب به شركات التأمين، أو أنها قد تضاعف قيمة التأمين”، متمنية أن تتخذ بلادها خطوة باتجاه مشاريع مشابهة.
وتقول الفرنسية ساندرين غيلبير إنها لم تسمع بإجراء كهذا من قبل، لكنها تتمنى أن تقوم فرنسا بدفع تكاليف هذا النوع من الراحة النفسية للأهل والأطفال أيضاً، وتتوقع أن تختار الدولة الفرنسية العائلات ذات العدد الكبير من الأطفال، إذا أرادت تطبيق العلاج العائلي الذي يبدو مفيداً للأبوين والأطفال والمجتمع، كما تذكر أن البلديات كانت تقوم بدفع نسبة من مصاريف العطلات للعائلات، لكن ليس بالمعنى الصحي والنفسي، إنما في إطار اجتماعي ربما.
في العالم العربي
وفي الوقت الذي بات مصطلح “parent-child retreat” أي معكتف أو خلوة الأبوين والأطفال متداولاً ولو بشكل بسيط، وله معان مختلفة، بعضها يتجلى برياضات روحية دينية، وغيرها من خلوات بين الأهل والأطفال، فلم تسجل أي دولة أجنبية أو عربية اهتماماً جدياً، كأن تأخذ هذا الموضوع على عاتقها كما تفعل ألمانيا، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من المنتجعات والمؤسسات الصحية الخاصة تقدم خدمات لأنواع مختلفة من العلاجات للعائلات، ولكن ليس في إطار وطني شامل، بالتالي تستفيد منها العائلات ذات الدخل العالي أو المتوسط، وليست ميسرة للعائلات ذات الدخل المنخفض، إلا من خلال جمعيات تقدم المساعدات المجانية أو شبه المجانية.
ويقول غابي ناصر إنه يجتمع مع عائلته وعائلات أصدقائه الذين لديهم أطفال في مخيمات صيفية “يلعب الأطفال مع بعضهم بعضاً، ويتآلفون مع الطبيعة، ونسهر سهرات نار وألعاب، ونمشي في الطبيعة ونروح عن أنفسنا. هذه الفرص تعيدنا أكثر نشاطاً وحيوية، وتوثق الروابط بين الكبار والصغار، وتغنينا ربما عن علاجات نفسية”.
وسبق أن قامت معالجة الطاقة نوال فليحان قبل جائحة كورونا بمشروع “نَفَس”، الذي دارت فيه في عدد من القرى اللبنانية مع مدربي يوغا وتنفس و”ريكي” (علاج باللمس) وأنواع أخرى من علاجات الطاقة قدموها مجاناً لسكان هذه القرى مع جلسات تأمل للكبار والصغار، وتعمل على إعادته بإطار أوسع ليشمل أكبر عدد من المناطق.
من جهتها، تعمل نداء قبلان على جعل عطلات العائلة تشتمل على بعض العلاجات الطبيعية فتختار وجهات سفر مفيدة في هذا المجال، مثل البحر الميت في الأردن، ومنتجعات كارلوفي فاري في تشيكيا، ومناطق تحتوي على ينابيع مياه كبريتية، وتقول نداء “هذا النوع من الاستجمام صحي للغاية على الصعيد النفسي والجسدي، بخاصة أننا نأخذ بالاعتبار عينه استمتاع الأطفال في اختيار الأماكن، إن في الغابات أو الشواطئ حيث يفرغون طاقاتهم في الطبيعة”، وتضيف “نتعاون معاً على ترتيب الأماكن التي نقيم فيها أثناء العطل في لبنان، ونأخذ خيامنا وننصبها قريباً من الأنهار وفي الغابات، ونتعرف على مهارات أولادنا أكثر، وتفاعلاتهم وردود أفعالهم. هذه الرحلات والعطلات تقربنا أكثر من بعضنا بعضاً، وتكثر من الذكريات الجميلة”.
بين الذنب والاحتراق
ويطمح الأهل لتقديم أفضل ما يمكن للأطفال، ويخشون التقصير بواجباتهم تجاههم، وقد يشعرون بعقدة الذنب تجاه أبنائهم إذا لم يعطوهم ما يريدون، حتى لو على حساب حياة وعلاقة الأبوين ببعضهما بعضاً، ما قد يصل إلى إهمال الذات أو الشريك تحت وطأة العطاء للأطفال، وهذا ما قد يوصلهما أيضاً للإنهاك أو الاحتراق الذي يصدع العائلة شيئاً فشيئاً.
وتقول ميراي حمال اختصاصية “الريكي” إنه لا بد من متنفس للأهل في رحلة الأبوة والتربية، إذ كم يقال “يتطلب الأمر قرية لتنشئة طفل”، وتبدأ الرحلة بالتحضير لوجود الطفل على أن يكون الأهل محاطين بدعم من الأصدقاء بخاصة أن إجازة الأمومة في معظم الدول العربية قصيرة، وبالكاد توجد إجازة أبوة، وتنصح ميراي الزوجين بالحصول دوماً على وقتهما الخاص، لا سيما أنهما يستهلكان طاقة كبيرة لتقديم وقت نوعي للأطفال، لذا من المهم أن يكون حولهما مَن يساعدهما للتفريغ ولو قليلاً في عطلة الأسبوع مثلاً أو للنوم لمدة أطول، والاهتمام بعلاقتهما الخاصة كي لا يتولد بينهما النفور أو الكراهية والوقوع في دوامة لوم الآخر، وتضيف أن العائلات تواجه تحديات عديدة مثل حالات الوفاة أو المرض أو الاكتئاب أو تردي الأحوال الاقتصادية، بالتالي لا بد من الحفاظ دائماً على الحوار منعاً لتراكم المشكلات، كما تنصح بأخذ إجازة مرة أو مرتين في السنة على الأقل للثنائي، إضافة إلى إجازات العائلة للحصول على وقت ثمين لتقريب كل أفراد الأسرة من بعضهم بعضاً، وتختم ميراي محذرة من تراكم الأمور، ووصول الأهل ربما إلى الإحساس أن الأطفال قد سرقوا أعمارهم، وهذا غير منطقي طالما اختار الأهل الإنجاب، وكي لا يصل الأهل إلى مرحلة النفور من الأطفال حتى في اللاوعي فمن الأفضل التفريغ دائماً، والانتباه للذات وللشريك “فيمكنهم القيام بنشاطات تناسب ميزانيتهم واهتماماتهم، واستقطاع وقت خاص بهم قبل الوصول للاحتراق، للمحافظة على صحتهم النفسية وإبقاء العاطفة مشتعلة بينهما من دون نسيان الانتباه لمشاعر الأطفال وفهمها وتقديرها بالحوار الصادق، فلا يتعرض الطفل لأي انزعاج أو خوف بغياب والديه ولا يشعر الأهل بالذنب”.
المصدر “اندبندنت عربية”