أدونيس غزالة
كاتبة سورية
يشير الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران، في كتابه “تربية المستقبل” إلى 4 مستويات في التسامح تتلخص بـ”احترام حق الغير في الكلام، والمبدأ الديمقراطي الذي يلزم كل فرد باحترام التعبير عن أفكار مناقضة لأفكاره، والاعتراف بأنّ ثمة حقيقة في الفكرة المناقضة لفكرتنا، وهذه الحقيقة هي التي يتوجب علينا احترامها، ومن ثم ضرورة الوعي بخضوع الإنسان لجملة الأساطير والأيديولوجيات والأفكار”.
من الواضح أنّ ما سبق يتيح لثقافة الاعتراف أن تتشكل، ليجعل من الاختلاف الهوية الأصيلة للوجود، ويتيح لنا أن نطرح على أنفسنا، ما إذا كانت تتوفر التربية التي ننتهجها على ثقافة التسامح؟ ومن ثمّ ما هو التسامح الذي نعززه في حياة أطفالنا؟
*التربية التي تتخبط في اللافهم تصنع واقعاً لن يكتفي برفض ما يصدر عن الآخر بل بعدم الاعتراف بوجوده أصلاً*
بالنظر إلى الجذور المعجمية للتسامح، نجد أنّ بداية تعيّنه تقع عند إسقاط اللوم والمؤاخذة عن الفعل، بغض النظر عن وقوع العقوبة أو عدم وقوعها، وإذا قرأنا بعمق في المصدر سمح، نلاحظ أنه يشير إلى نضوج وعي إنساني، قادر على قراءة سيرورة الفعل داخل زمان ومكان خاصين، واللذين بدورهما، الزمان والمكان، يهيئان ظروفاً مختلفة تجعل من الآخر محقاً، كونه آخر ينتمي لظروف مختلفة، وربما إذا ما قارنّا بين التسامح والعفو، نتمكن من تشكيل صورة أوضح عما نربي أطفالنا عليه.
معجمياً يتكشّف العفو على أنّه إسقاط العقوبة، ولكن من دون إسقاط اللوم والمؤاخذة، وفي عدم إسقاط اللوم والمؤاخذة عن الفعل، يتملك العفو قوة تهديد ضمني، يغذي آليات التسلط، من خلال قدرته على احتكار العقوبة، واستخدامها تحت الطلب (حتى لو عفوت عنك فأنت لست بريئاً)، فالعفو الذي لا يسقط اللوم والمؤاخذة سيغذي عقد الذنب، التي تساهم على المدى البعيد في زيادة وتيرة الأحقاد والضغائن، مما يجعل مجتمعات العفو قابلة لإنتاج العصبيات والتطرف دائماً.
فمعظم جملنا التربوية في البيت أو المدرسة والتي تُذيّل غالباً بـ: (سامحتك هذه المرّة)، تشير إشارة واضحة لخلطنا بين مفهومي التسامح والعفو، وبالنظر إلى المردود النفسي للجملة السابقة، نرى أنها تُعيّن العفو مكان التسامح، طالما أنّها لم تسقط اللوم والمؤاخذة عن الفاعل، ولكن الأخطر من ذلك أنّ عملية الخلط هذه، تجعل من التهديد أداة أساسية لإنتاج العلاقات، كما أنّها تشير إلى غياب العامل الحاسم في إنتاج التسامح، وهو الفهم.
وقد يصبح الأمر أكثر تعقيداً إذا ما اكتشفنا من خلال “موران” أنّ الفهم لا يتعين إلّا بالتسامح، مثلما لا يتعيّن التسامح إلّا بالفهم، فبعدم تمكننا من رؤية الفهم كعملية تتنامى داخل حدود التجربة الإنسانية، وتفتحها على الحب والسلام، سيتحول اللافهم إلى العلاقة الوحيدة التي تربطنا مع بعضنا البعض ومع العالم، وسيتخذ المشهد طابع لعبة شد الحبل، حيث الجميع سيحاول لاهثاً شدّ الآخر إلى الجهة التي يقف عليها، معتمداً أسباب ونتائج اللافهم التي طرحها “موران” حيث “الأفكار المسبقة وأنواع التبرير العقلاني المعتمدة على أواليات اعتباطية، وتبرير الذات بشكل جنوني، والعجز عن النقد الذاتي، واعتماد طريقة ذهانية في البرهنة، والكبرياء، والجحود والاحتقار”.
بات تنامي اللافهم يهدد وجودنا الإنساني، ويسلبه الطمأنينة والسلام، فنحن نرى في كل مكان تقريباً ازدياد نفوذ اللافهم، وتهديده المستمر للعلاقات بين الأفراد وبين المجتمعات، إنّ اللافهم الذي يقوض دعامات التسامح، يزدهر كلّما ازداد التمركز حول الذات، هذا التمركز الذي يقوم، بحسب موران، على “خداع الذات، يجعل الغير مصدر كل الشرور، سواء كان هذا الغير قريباً لنا أم غريباً عنّا”، وكلما ازداد هذا التمركز ستزداد معه نزعات الرفض والشك والاحتقار، ليربي فوقيةً متعالية يمارسها الأفراد والمجتمعات على بعضهم البعض من خلال فعلي التنافس والإزاحة.
وهكذا يصبح الفهم مجرّد تحصيل كمي يُغيّب الجانب الأخلاقي والإنساني عن أفعال التواصل، “فهناك فرق بين أن نربي من أجل تحصيل الفهم في مادة تعليمية كالرياضيات، وبين أن نربي من أجل الفهم الإنساني” بتعبير موران، وهذا ما نلمسه في التنامي الكوكبي للعلم والتقنية، والذي للأسف لم يخدم في أغلبه سوى القلق والخوف والموت، أليس الحرب والصراع هما الناتجان النهائيان للافهم؟ أو بتعبير أدق: أليسا نوعاً معيّناً من الفهم؟ لكن هذا الفهم الذي يقوم على التحصيل الكمّي (العلامة غاية التعلّم) وهذا الهوس الجمعي أو التحصيلي، يجعل من الفهم مجرّد وسيلة متناسياً أنّه “وسيلة وغايةً بنفس الوقت”، كما يهدم إمكان ظهور ثقافة الاعتراف والاختلاف اللتين تتخذان من الفهم والتسامح معطى أولياً في بناء علاقة تؤسس للحب والتعاون والمشاركة؟
*غياب الجو الديمقراطي سياسياً ودينياً يؤدي بالضرورة إلى غيابه اجتماعياً وتربوياً وهذا لن يفرز سوى تسلّطنا*
بالعودة إلى المستويات الأربعة في التسامح عند “موران”، ربما يمكننا أن نقف على المعوقات التي تحول بيننا وبين التربية على التسامح، فغياب الجو الديمقراطي سياسياً ودينياً، سيؤدي بالضرورة إلى غيابه اجتماعياً وتربوياً، وهذا الغياب لن يفرز سوى تسلّطنا الذي يُمارس بشكل هرمي داخل فلاتر تربوية تقوم على الأمر والنهي، وأسلوب التلقين، والجمل الجاهزة، وكل ما يعمل على تشييء أطفالنا، مما يعدم التفكير النقدي، ويحدُّ من منسوب الوعي إلى الدرجة التي تسمح بتفشي اللافهم، والذي سيفضي تلقائياً إلى انعدام التسامح.
إنّ التربية التي تتخبط في اللافهم، تصنع واقعاً لن يكتفي برفض ما يصدر عن الآخر بل بعدم الاعتراف بوجوده أصلاً، ابتداءً من الآخر الطفل مروراً بكل الهويات التي تشكل الفرد، لتصبح قيمنا التربوية قيماً فارغة تتعين فقط في الاجترار اللفظي، وتجعل من التسامح جملاً ملونة، يتعثر بها أطفالنا في الكتب المدرسية، دون أن يتمكن جوهرها من لمس أرواحهم، وشعاراتٍ مزخرفة يتم رفعها لتحجب الواقع الذي يناقضها، وخاصة في المجتمعات التي تدعي الديمقراطية.
نقلاً عن حفريات