كريتر نت – متابعات
منذ الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967، عملت القوى السياسية الثورية في الجنوب على التوصل إلى صيغة وطنية لتوحيد السلطنات والمشيخات، والإمارات التي كانت في طور التشكّل في السنوات الأخيرة من الاستعمار البريطاني. ساعد النظام الجمهوري الذي توافقت عليه قوى ثورة 14 أكتوبر 1963 في التوصل إلى تقسيم إداري مكون من ست محافظات، وعندما تمت الوحدة في مايو 1990، لم يتغير مسمى المحافظات لأن النظام الجمهوري كان أحد القواسم المشتركة سياسياً بين دولتي الشطرين، أما الوحدة بذاتها فقد انطلقت من شعور وطني مشترك بالرغبة في التوحّد الطوعي في كلا الشطرين، ثم جاءت حرب صيف 1994 المشؤومة وغيرت مسار الوحدة.
اليوم، وبعد 33 سنة من الوحدة الطوعية و29 سنة من حرب “الوحدة أو الموت” التي شوهت وجه الحلم المتحقق لتوه، يعود الجدل الحاد مرة أخرى حول الوحدة والانفصال مع الخطوات العملية التي اتخذها قادة الجنوب في المسار الذي بدأوه منذ منتصف التسعينيات لاستعادة دولتهم.
في 16 مايو الجاري تناقلت وسائل الإعلام تصريحاً لوزير الخارجية الأسبق الدكتور أبو بكر القربي قال فيه إن الوحدة اليمنية لم تعد تحظى بتأييد دولي كما كانت في السابق، وجاء تصريحه في سياق التعليق على ردود الفعل الإقليمية والدولية إزاء مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الجنوبي (4-8 مايو 2023). وأبدى القربي مخاوف من أن يؤدي تخلي المجتمع الدولي عن “وحدة اليمن” إلى التخلي عن “سيادته”، وهما المبدآن اللذان ظل قادة الإقليم والعالم يؤيدونهما في كل تصريح، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن الدولي وهيئات الأمم المتحدة.
في وقت سابق من مايو الجاري، أجرى السفير البريطاني لدى اليمن ريتشارد أوبنهايم مقابلة مع صحيفة “الشرق الأوسط” تطرق فيه إلى القضية الجنوبية التي قال إنها يجب أن تكون جزءاً من التسوية السياسية الشاملة لإنهاء الحرب في البلاد.
اللافت في ما قاله أوبنهايم بهذا الصدد أن بريطانيا مستعدة لتبني قرار من مجلس الأمن يضفي شرعية على هذه التسوية المنشودة، لكنه قال إن توقيت تسوية القضية الجنوبية يجب أن لا يؤثر على مسار التسوية الشاملة، وأن لا تؤثر التسوية الشاملة بين جميع أطراف الحرب على أمن واستقرار الجنوب.
هذه المعادلة تبدو سهلة من الناحية النظرية، لكنها على الواقع شديدة التعقيد، إذ إن القوى والمكونات التي تعتبر الحامل السياسي للقضية الجنوبية أصبحت في موقف موحد على كون “استعادة الدولة” الجنوبية هو خبرها الرئيسي، بينما لا تزال الحكومة الشرعية لدولة الوحدة (الجمهورية اليمنية) تعمل من عدن التي اتخذتها “عاصمة مؤقتة” في ظل سيطرة المليشيا الحوثية الانقلابية على العاصمة صنعاء ومعظم محافظات الشمال.
ما هي آفاق الحل الفيدرالي؟
نص الميثاق الوطني الجنوبي صراحة على أن الفيدرالية خيار أساسي مطروح في مسألة بناء الدولة الجنوبية التي تجري المطالبة باستعادتها من قبل المكونات التي شاركت في اللقاء التشاوري الذي دعا له المجلس الانتقالي ، وفي هذه الحالة سوف يخضع هذا الخيار لمزيد من النقاش الموسع بين مختلف المكونات، بما في ذلك تلك التي اعتذرت عن المشاركة في لقاء عدن الأخير. يقتضي المضي في خيار الفيدرالية تصورات علمية وعملية واضحة لا تقوم على تجاوز المعطيات الديموغرافية التي تشكل فيها البنية القبلية حجر الزاوية في البنية الاجتماعية، ليس فقط في الجنوب، بل وفي الشمال أيضاً.
لكن الشمال لا يزال رهينة لنظام الحكم الحوثي الذي لم يعد يخفى على اليمنيين طابعه الإمامي، ولم يعد قادة المليشيا يخفون نواياهم في السيطرة على عموم الجغرافيا اليمنية تحت ذريعة الوحدة، غير مستفيدين من دروس الماضي القريب.
إلى جانب التصورات العلمية والعملية الواضحة، يقتضي تنفيذ الخيار الفيدرالي في بناء الدولة -سواء تلك “المنشودة” في الجنوب أو الدولة الموحدة- إجماع إقليمي ودولي.
وفي حين يمثّل جانب التصورات العلمية والعملية ميدان المختصين في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، يمثل جانب الموقف الإقليمي والدولي ميدان الدبلوماسية الناجحة وطويلة البال، وهو ما يعني التعامل مع مصالح دول الإقليم والعالم بحذر منطلقه الأساسي مصالح سكان الأقاليم الفيدرالية التي تشكل في مجملها مجموع المصلحة الوطنية العليا لأي شكل من أشكال الدولة.