منتصر حمادة
كاتب مغربي
ما أكثر المفارقات المرتبطة بالاشتغال على التصوف، خطاباً وممارسة، ومنها مفارقة تتوقف عندها هذه المقالة التي تروم المقارنة الأولية بين الأفق النظري للمشتغلين على التصوف، من الداخل والخارج.
تنطلق فرضية المقالة من المعطى التالي: نظرياً، من المنتظر أن تكون هناك اختلافات نسبية أو كبيرة في نتائج تلك الأبحاث والدراسات الخاصة بالصوفية بين الباحثين في التصوف من الذين ينتمون إلى زوايا وطرق صوفية، وبين باحثين في الموضوع نفسه لكنهم لا علاقة لهم بالعمل الصوفي. نقول هذا بصرف النظر عن المرجعية النظرية أو الإيديولوجية لهذه المجموعة البحثية غير ذات علاقة بالتصوف، سواء تعلق الأمر بباحثين من المنطقة العربية الإسلامية مثلاً، أو من المجال الثقافي الأوروبي ــ الأمريكي، من قبيل لائحة من الأسماء المصنفة في خانة المستشرقين، وإن كنا نتوقف هنا عند المقارنات بين أقلام المنطقة العربية بالتحديد.
لعل أهم فارق نظري من المفترض أن نستحضره في معرض المقارنة بين الاشتغال على التصوف بين الداخل والخارج، يكمن في هاجس الحرية، حيث إن كل فئة من الباحثين تزعم أنّ مجال الحرية في الاشتغال على الموضوع أكبر مقارنة مع الفئة المغايرة، وبالتالي النتائج التي توصلت إليها أكثر وجاهة مع نتائج الفئة الأخرى.
على سبيل المثال، تزعم الأقلام الصوفية أنّ أفق الحرية في الأدبيات التراثية الصوفية مرتفع جداً مقارنة مع الأفق نفسه لدى باقي أنماط التديّن، وبالتالي من الناحية النظرية يجب أن نعاين تطبيقات هذا الأفق في ما يصدر من أعمال بحثية عن أسماء تنتمي إلى الدائرة الصوفية وهي تتطرق للتدين الصوفي بالتحديد وليس لموضوع آخر، وقد ارتأينا التوقف عند هذا النموذج الخاص بالتديّن الصوفي أو العمل من باب اختبار هذه الفرضية التي تروجها الأقلام الصوفية والتي يزعمون فيها أنّ أفق الحرية مرتفع عندهم.
أما في الجهة الثانية التي تهم أي اسم بحثي يشتغل على التصوف دون أن تكون أي علاقة به، فإنّ أبسط حجة تصدر عنه وهي حجة منطقية وموضوعية في آن، تفيد بأنّ عدم الانتماء إلى زاوية أو طريقة صوفية، يجعله حراً أكثر في تناوله أداء الصوفية بشكل عام.
تأسياً على ما سبق، نحتاج إذن إلى اختبار هذه المزاعم، ونعتقد بدورنا أنّ هذه الاختبارات تكاد تكون نادرة في المتابعات البحثية، لذلك اقتصرنا على هذه المقالة من باب إثارة الانتباه.
نبدأ بالطريق أقل إثارة للقلاقل؛ أي حالة الأسماء البحثية التي تشتغل على العمل الصوفي دون أن تكون منتمية إليه، ويبدو أنّ نقطة قوتها التي تروج لها في هذا السياق، أي أخذ مسافة نظرية وتنظيمية من التصوف تصب في صالحها على هامش الاشتغال البحثي، لكن هناك معطى نظري آخر تطبق الصمت عنه، عنوانه تأثير العدة العلمية أو الأفق الإيديولوجي وهي تشتغل عليه.
نترك جانباً تأثير العدة العلمية لأنه أياً كانت هذه العدة، وإذا استحضرنا مقتضى الكتابة البحثية الرصينة والبعيدة عن التحيزات وإطلاق الأحكام الجاهزة وما جاور هذه القلاقل النظرية، فالمسألة تبقى في دائرة النقاش البحثي الهادئ، لكن الأمر مختلف مع تأثير النهل الإيديولوجي، أقله تأمل ما يصدر عن الأقلام الإسلاموية ضمن أمثلة أخرى، وقد عاينا ذلك حتى مع أقلام مشروع “أسلمة المعرفة” الذي يُفترض أن يكون بعيداً عن الخطاب الاختزالي أو خطاب التحيز، خاصة أنّ “موسوعة التحيز” الشهيرة التي صدرت عن النسخة الأولى من هذا المشروع، على عهد الراحل عبد الوهاب المسيري، صدرت عن هذا المشروع بالتحديد، لكن الأمر مختلف مع أداء النسخة الثانية من المشروع، والنموذج هنا ما صدر عن مدير أحد هذه المراكز البحثية بخصوص التصوف، مفاده أنّ هناك جانباً ارتبط بالطرق الصوفية في العصر الحديث، وهو أنها “أصبحت صديقة للمستعمر ويوصي بها ويساندها ويراها وسيلة لإخضاع المجتمع الإسلامي له، وهذه من المعلومات العامة لم يعد أحد يجهلها، ولا يصح في زماننا الاحتجاج بأنّ الصوفية في بعض الأزمنة كانوا يجاهدون الغزاة، فالعبرة بالحال الموجودة وما يجري الآن وليس بما كان” (كما جاء في مقالة للباحث محمد الأحمري تحت عنوان “خطر فكرة الانغلاق على المغرب” بموقع “أواصر” القطري، وهو أحد واقع “أسلمة المعرفة”/، مقالة مؤرخة في 14 آب/ أغسطس 2022).
وواضح أفق الخطاب الاختزالي والإيديولوجي الذي تعج به هذه الفقرة، وهذا منتظر إذا أخذنا بعين الاعتبار الأفق الإيديولوجي لمحرر المقالة.
نأتي للمفارقة الخاصة بالأقلام الصوفية في معرض اشتغالها على العمل الصوفي، ولأنه لا يمكن التعميم، على غرار ما جرى في الفئة الأولى أعلاه، فإننا نعاين الأمر نفسه هنا؛ لأنه لا يمكن تعميم الأحكام على مجمل الأقلام البحثية الصوفية؛ أي إننا نجد بعض الأسماء التي تنتصر للهاجس البحثي الرصين حتى إن كانت تنهل من مرجعية صوفية، لكن الغلبة في مضامين أعمالها، تروم الاقتراب أكثر من الموضوعية والجدة عوض الانتصار للأفق التديني الصوفي الصرف.
لكننا نعاين أمثلة مغايرة مع أسماء بحثية صوفية تزعم النهل من التصوف لكنها تسقط من حيث تدري أو لا تدري في تقليد ما يصدر عن الأقلام الإسلاموية؛ أي الانتصار للأفق التديني الإيديولوجي على حساب الانتصار للموضوعية والجدة في معرض الاشتغال على قضايا التصوف.
وإذا كانت الأقلام الإسلاموية إجمالاً تنتقد التصوف إما لاعتبارات سياسية إيديولوجية أو لاعتبارات عقدية أو لاعتبارات أخرى، وهذا منتظر منها ما دام تاريخ الإسلاموية في المنطقة، على الأقل خلال العقود الأخيرة، يعج بعدة أمثلة بخصوص عداء الحركات الإسلامية، الدعوية والسياسية والجهادية ضد التصوف، فالأمر مختلف مع بعض الأقلام البحثية الصوفية التي تورطت في المأزق نفسه، وإن جاء عبر بوابة الدفاع عن التصوف، ونقصد بذلك تورط هذه الأقلام في ما يُشبه “الدعاية البحثية” للطرق الصوفية التي تنتمي إليها، مع أن أبسط أدبياتها القديمة أو المعاصرة، لا يمكن أن تكون مدافعة عن تبني الدعاية لهذه الطريقة الصوفية أو تلك؛ لأن مجرد التفكير في تبني خيار الدعاية أو الإشهار، أي “تزكية الذات” الصوفية بتعبير الأدبيات نفسها، أمر لا علاقة له بالخطاب الصوفي أساساً، وبالرغم من هذا المعطى البَدَهي، نعاين تورط نسبة من الأقلام الصوفية في تناقضات أو مفارقات وهي تشتغل على الموضوع، ونزعم أن هذه الجزئية توجد ضمن الأسباب التي تفسر انخراط بعض الباحثين من هذه الفئة في أخذ مسافة تنظيمية من الطرق الصوفية، مقابل الحفاظ على النهل النظري، وهذه حكاية أخرى، تحيل بدورها على بعض التحولات والتحديات في آن التي تمر تواجهها الطرق الصوفية في السياق العربي الإسلامي الراهن.
نقلاً عن حفريات