نزهة بوعزة
باحثة مغربية
نشر مؤخراً المفكر السوري بالديار الألمانية حسام الدين درويش كتاباً تحت عنوان “في فلسفة الاعتراف وسياسات الهوية، نقد المقاربة الثقافوية للثقافة العربية الإسلامية”. تناول في جزء منه مسألة الثورات العربية، وكيف أنّها لم تفلح في تحقيق مبتغاها؛ نظراً لطبيعة الوضع العربي المحاصر بين مطرقة السياق الثقافي، وسندان الاستبداد السياسي، فما معنى ذلك؟
إنّ مفهوم الثورة مفهوم معياري كثيف، يتضمن وصفاً وتقييماً، في الوقت ذاته، غالباً ما يحمل في سياقنا العربي حمولة معيارية إيجابية؛ فالثورة في وعينا هي بوابة لتحقيق الحرية، ممّا يجعلنا نقف أمام مفهومين؛ أحدهما يغطي على الآخر، بل أحدهما في بعض الأحيان ينفي الآخر.
وفقاً للمفهوم المعياري المتطرف للثورة؛ تتوقف ثورية الثورات العربية على مقدار كونها حركات مؤيدة للحريات، كل الحريات. وهنا يغيب المطلب الحدّي/ التعريفي للمفهوم؛ لافتقاد أساس بنيوي له داخل الثقافة التي تحاول أن تتبنّاه؛ ممّا يجعلنا أمام مقاربتين لمفهوم الحرية: الحرية كمطلب عام يُطلب كطوق نجاة، ومطلب مضاد يعادي المطلب الأول؛ بدعوى أنّ الثائرين يتبنّون ثقافة محافظة معادية للحريات، ممّا ينفي ثورية الثورة، وهنا النفي يطال فعالية/ نجاعة الثورة، إذ يستحيل تحقيق ثورة يتبنّاها ثائرون محافظون، فحتى إن نجحت الثورة؛ فإنّ المحافظين سيمررون قيمهم المحافظة، عاملين على إقصاء كل توجه يخالفهم؛ ممّا يساهم في خلق ثورة مضادة، فما الفرق بين الثورة والثورة المضادة في عالمنا العربي؟.
*التشكيك في ثورية الثورات العربية؛ انطلاقاً من التوجه المحافظ لأغلب الثائرين؛ يجعل جوهر الثورة محافظة؛ ممّا يضعها في مواجهة مباشرة مع الجماعات الأخرى التي تقوم بثورة مضادة*
التشكيك في ثورية الثورات العربية؛ انطلاقاً من التوجه المحافظ لأغلب الثائرين؛ يجعل جوهر الثورة محافظة؛ ممّا يضعها في مواجهة مباشرة مع الجماعات الأخرى التي تقوم بثورة مضادة. إذ الثورة تعكس قيم الثائرين المحافظين، الذين يشكلون الأغلبية، فمثلاً نجاح الثورات في بعض الدول العربية كان نجاحاً لحركات محافظة: النهضة بتونس، العدالة والتنمية بالمغرب، الإخوان بمصر…، ممّا سهل خلق ثورة مضادة تتخذ توجهاً معاكساً لهذه الثورة بدعوى قيمها المحافظة، أساس هذا التوجه اعتقاد بعض الثائرين أنّ النظام أفضل من الثائرين، لأنّ الثائرين عليه مستبدون سياسياً مثله أو أكثر، ولأنّ النظام غير محافظ، ولا مستبد، لا أخلاقياً ولا اجتماعياً، يلاحظ هنا تغييب العوامل السياسية في كلتا المقاربتين، ممّا يجعل النظام طوق نجاة، أو سبيلاً لتحقيق ثورة مضادة.
أفضلية النظام مقارنة بالثورة
يتأسس الحديث عن أفضلية النظام مقارنة بالثورة/ الثائرين عليه، على ثنائية بسيطة، نظام سيّئ وثائرون أسوأ منه، وانطلاقاً من هذه الثنائية؛ ينبغي اختيار أحد طرفي هذه الثنائية، الذي يتخذ شكل القضية العنادية: إمّا النظام السيّئ أو الثورة الأسوأ منه، إنّ هذا التخيير هو بمثابة الإيديولوجيا الرسمية للأنظمة الاستبدادية في معظم الدول العربية. وهو تخيير يستوجب مساءلة نقدية جادة، تولّد خيارات أو أطرافاً أخرى. صحيح أنّ الثقافة السياسية العربية تعكس جملة من الإشكالات ساهم فيها العديد من الأطراف، لكن مع ذلك لا يمكن التسليم بالغطاء الإيديولوجي الذي يسمح بالقول إنّ إيديولوجيا هذه الفصائل وثقافتها السياسية تمثل فعلاً الثقافة السياسية للنسبة العظمى من الثائرين. فما السبيل إذن لتحقيق حرية فردية بمعزل عن السياسة؟ هل بالإمكان فعلاً التعبير عن المجال الحياتي خارج النطاق السياسي؟ هل فعلاً ثارت الشعوب العربية؟ إن نزعنا ثورية الثورات العربية، فأين تكمن المعضلة التي تواجهها الثورات العربية؛ في ثقافة الشعب أم في الثقافة السياسية؟
هل يمكن الفصل بين السياسة والحريات؟
في الوضع العربي لا يمكننا الحديث عن الفصل بين السياسة والحريات، الأمر مجرد زيف أو تضليل؛ لأنّ تغول النظام الاستبدادي على المجتمع يجعله يلتهم بشكل شبه كامل الدولة. ومن ثمّ فإنّ الفصل غير وارد ولا متاح، لأنّ السياسة تتدخل في كل مفاصل الحياة بالطريقة الملائمة للسلطة السياسية/ الأمنية. الأرجح أنّ الحريات المقصودة تتعلق بالشأن الخاص الذي يطال ملبس الإنسان ومأكله وطريقة حياته، الحياة الشخصية في أضيق معناها، حتى وإن كانت لا تتوافق مع الثقافة التدينية للشعب، خارج هذا النطاق لا وجود لحريات فردية؛ إلّا في الإطار الذي ترسمه الثقافة السياسية؛ فالثقافة السياسية هي مُنتِجة بقدر كونها مُنتَجة، وهي في حالة صيرورة دائمة، ويزداد تسارع هذه الصيرورة التي تطرأ على هذه الثقافة في أوقات الأزمات، لكن يظلّ الحافز الأساسي لهذا التغيير هو المصلحة الاستبدادية وكيفية استدامتها واستثباتها.
*عدم ثورية الثورات العربية يرجع بالأساس إلى الثقافة السياسية للنظام وداعميه، الوضع العربي يعاني من معضلة الاستبداد السياسي للأنظمة الحاكمة التي ترفض التنازل السلمي عن السلطة، أو القبول بالإصلاح والانتقال الديمقراطي السلمي*
ينتقد درويش كلا التوجهين، مع عدم إنكار دورهما، لكن هناك أيضاً معضلات قد تفوقهما أهمية وتأثيراً، إذ لحلّ الإشكال، حسب درويش، وجب أوّلاً التمييز بين المجتمعات الديمقراطية والاستبدادية؛ الأولى تمنح الإمكان لتوليد معارضة يُمأسسها الجهاز الديمقراطي، أمّا الثانية، فلا وجود لأيّ إمكان لتواجد معارضة حقيقية، فالكل يرتدي رغبات المستبد، ومن ثمّ لا معقولية في الطرح القائل إنّه لا إمكانية لثورات عربية، بسبب وجود ثقافة محافظة مضادة للديمقراطية، إذ ليس هناك بنية ديمقراطية تسمح بتوليد ثقافة موالية للديمقراطية، ونستطيع تجاوز معضلة الثقافة في حال وجود نظام ديمقراطي، لكن يستحيل ذلك في ظل نظام استبدادي، من هنا استوجب السعي لإقامة النطام الديمقراطي عوض اتخاذ تبريرات تضليلية للخضوع للنظام الاستبدادي، وإضفاء شرعية على ممارساته من منطق إلباس المشكل للثقافة، وبالمقابل تبرئة الثقافة السياسية.
ما هو متفق عليه هو أنّ الثورة العربية قد حصلت ولا يجوز نفيها، والنقد هنا يطال عدم فعاليتها، وليس مجادلة حدوثها من عدمه، فما يركز عليه درويش هو أنّ المعضلة في عدم ثورية الثورات العربية يرجع بالأساس إلى الثقافة السياسية للنظام وداعميه، الوضع العربي يعاني من معضلة الاستبداد السياسي للأنظمة الحاكمة التي ترفض التنازل السلمي عن السلطة، أو القبول بالإصلاح والانتقال الديمقراطي السلمي. إنّ استحضار المعضلة الثقافية على أنّها المعضلة الكبرى، وتغييب المعضلات الأخرى ذات الصلة، ليس أمراً محموداً ولا مناسباً، بقدر ما هو أمر يزيد من تغول السلطة السياسية.
نقلاً عن حفريات