عماد عبد الحافظ
كاتب مصري
مستقبل الحركات الإسلامية مثار اهتمام العديد من الأطراف المختلفة، كما أنّه محل دراسة من جانب عدد من الباحثين، ليس اليوم فقط ولكن منذ أعوام، لكنّ الاهتمام به ازداد بعد أحداث “الربيع العربي”، وما صحبه من تحولات كبيرة كان لها تأثير على واقع تلك الحركات، وسوف يكون لها تأثير على مستقبلها لا شك. وتتم قراءة مستقبل الحركات في ضوء عدد من المتغيرات، سواء ما تعلق منها بالأوضاع السياسية والاجتماعية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، أو ما تعلق منها بأوضاع الحركات ذاتها من حيث نقاط القوة والضعف فيها، لكنّنا هنا نحاول قراءة مستقبل تلك الحركات في ضوء متغير آخر يتعلق بتنامي ظاهرة الفردانية في المجتمعات في الأعوام الأخيرة، وحالة السيولة التي تتصف بها الحياة في كل مجالاتها كما يصفها عالم الاجتماع (زيجمونت باومان). والفكرة التي ننطلق منها هي أنّ الفردانية تتعارض مع نمط الفرد الذي تحتاجه تلك الحركات لخدمة أهدافها، لأنّ الفردانية تعني شعور الفرد بذاته ورفضه للتبعية ورغبته في الاستقلال. والسؤال هنا: هل يؤثر تنامي الفردانية وحالة السيولة على مستقبل التنظيمات الإسلامية من حيث فقدانها القدرة مع الوقت على استقطاب الأفراد؛ ومن ثم فقدانها مصدر قوتها الأهم وهو التنظيم الكبير المتماسك؟ وهل لدى تلك التنظيمات القدرة على التكيف مع هذه المتغيرات والاستمرار بصيغ أخرى، أم أنّ ذلك سوف يؤدي إلى ضعفها واندثارها في المستقبل؟
الفردانية في الثقافة الغربية
كانت الفلسفة الغربية قديماً تهتم بالمجتمع وتتجاهل الفرد، وتنظر إليه كظاهرة طبيعية يمكن دراستها من خلال أساليب ومناهج البحث ذاتها التي يتم استخدامها لدراسة الظواهر الطبيعية في الكون، وكان هدف وحدة المجتمع واستقراره ومصلحة الجماعة هي الأهداف الرئيسية آنذاك دون الاهتمام بالإنسان وما يوجد بداخله من أفكار ومشاعر تجعله متميزاً عن غيره، وفيما بعد كان لفلاسفة عصر التنوير دور كبير في ترسيخ الأفكار التي قامت عليها الدولة الحديثة، فهيأت المجتمع وألهمته القيام بالتغيير الذي أنهى عصر الإقطاع وسيطرة رجال الدين، ومن هذه الأفكار ما يتعلق بمكانة الفرد وأهميته في المجتمع وما ترتب عليها من الاعتراف له بالعديد من الحقوق، لكنّ النظام الرأسمالي الذي تأسس على إثر ذلك قد انحرف عن مساره، وفق عدد من المفكرين، وبدلاً من أن يأتي لتحرير الفرد من القيود التي كانت تكبله؛ فإنّه قد فرض عليه أنواعاً أخرى من القيود وحوّله إلى مجرد آلة أو شيء، وخلق أشكالاً جديدة من الاستغلال سواء للطبقة العاملة التي عاشت حالة من الاغتراب، أو فيما بعد لأفراد المجتمع عموماً من خلال وسائل أخرى مثل الإعلام، ولذلك ظهرت تيارات فلسفية جديدة في القرن الـ (20) مثل فلسفة الحياة، والفلسفة البرجماتية، والفلسفة الوجودية، والفلسفة الشخصانية، هاجمت كل نزعة جماعية وأعلنت انحيازها للحياة وللفردية كهدف وقيمة لهذه الحياة[1]، وعملت على تأسيس فكر جديد يعيد للإنسان مكانته في التاريخ، ويعيد إليه ذاته التي فقدها.
وتتضمن “الفردية” عدة معانٍ منها؛ التميز بين الأفراد نتيجة تميز كل منهم في السمات والقدرات، واستقلال الفرد عن الآخرين والخصوصية، كما تعكس معنى قدرة الإنسان على تحقيق ذاته بما فيه من قدرات وسمات، والفردانية كمذهب فلسفي تعني أنّ الفرد أساس كل حقيقة وجودية، وهو مذهب من يرى أنّ غاية المجتمع هي رعاية مصلحة الفرد والسماح له بتدبير شؤونه بنفسه[2]، وعلى الرغم من الجانب الإيجابي في الفردانية؛ فإنّ لها أيضاً جانباً سلبياً يتمثل في العزلة الاجتماعية نتيجة شعور الفرد بعدم الحاجة إلى الآخرين والرغبة في الاستقلال، ومن ثم ضعف الروابط الاجتماعية والتمحور حول الذات كهدف أول وأخير.
وهذه الفردانية كظاهرة متنامية هي نتاج لما يطلق عليه عالم الاجتماع (زيجمونت باومان) “الحداثة السائلة”، التي يصف بها نمط الحداثة الذي تعيشه المجتمعات الآن، حيث يقول: إنّ الدولة الحديثة ونظامها الرأسمالي في الغرب الذي نشأ على أنقاض المجتمع التقليدي ونظامه الإقطاعي بعد الثورتين الصناعية والفرنسية كان يهدف في البداية إلى التحديث من أجل الوصول إلى حالة نهائية من الكمال من خلال التخلص من البنى القديمة التي كان يقوم عليها المجتمع التقليدي، وإنشاء مجتمع جديد يقوم على أسس جديدة يكون الاعتماد فيه على العلم وتسود فيه قيم الحرية والمساواة والعدل، لكنّ عملية التحديث هذه مع الوقت تحولت إلى عملية مستمرة ليس لها سقف أو نهاية، وصار التغيير المستمر هو الهدف، وصارت عملية التحديث أو الحداثة تتسم بالمرونة أو السيولة، وهي سمة تعكس حالة من التمييع والإذابة والصهر المستمر لكل شيء، وتحولت عملية التخلص من البنى القديمة من عملية إذابة للمواد الصلبة الرديئة والتخلص منها إلى عملية إذابة للمواد الصلبة في حدّ ذاتها، فلم يعد هناك شيء ثابت أو متماسك، فالأشياء والأماكن والأزمنة والروابط والأفكار والمعاني والقيم والهوية كلها صارت في حالة سيولة وتغير مستمر، فحالة السيولة كما يصفها (باومان) تشمل كل شيء في المجتمع، وتؤدي إلى تفكك البنى الاجتماعية والروابط الإنسانية والنماذج القيمية، كما تؤدي إلى زيادة النزعة الاستهلاكية حيث يتحول الاستهلاك في ذاته إلى هدف وليس وسيلة، وتصبح الرغبة في الاستمتاع بالشيء لمدة بسيطة وتغييره هي السمة السائدة وليس الاحتفاظ به، وينطبق هذا على العلاقات والروابط الاجتماعية، يقول (باومان): “الحياة السائلة سلسلة من البدايات الجديدة، ولذا فإنّ النهايات السريعة المؤلمة هي عادة أصعب لحظات الحياة السائلة وأوجعها، وهكذا فإنّ تعلم أسبقية التخلص من الأشياء على تملكها صار أحد فنون الحياة الحديثة السائلة”، كما تؤدي حالة السيولة إلى وجود حالة من اللايقين لدى الأفراد وإلى حالة من ضعف الانتماء سواء للأسرة أو الطائفة أو الجماعة… إلخ.
تجليات الفردانية في المجتمع العربي
عملت الحداثة الغربية على نشر أو فرض نموذجها الحداثي سواء الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي في العالم؛ ومن ثم فقد تأثرت المجتمعات الأخرى بهذا النموذج بدرجات متفاوتة، وفي مجتمعاتنا العربية نجد أنّ ظاهرة الفردانية تتنامى خاصة في الأعوام الأخيرة، وذلك بفعل العديد من العوامل؛ منها التقدم التكنولوجي وزيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي والانفتاح على أفكار وثقافات أخرى بشكل أكثر وأسهل، وكذلك بسبب الأزمات الناتجة عن أحداث الربيع العربي ومآلات التجربة الإسلامية في الحكم والسياسة وغير ذلك من العوامل.
وتتجلى الفردانية في العديد من المظاهر من حولنا في المجتمع المصري كمثال، فنرى بعض الظواهر كالعزوف عن الزواج لدى شريحة من الشباب، وهشاشة الروابط الأسرية والاجتماعية بشكل عام، وظاهرة التدين الفردي التي بدأت تتزايد في أوساط الشباب وفق عدد من استطلاعات الرأي التي رصدت تزايد الرغبة لدى الشباب تجاه التدين لكن دون الارتباط بتنظيمات، كما نجد تجلياً لظاهرة الفردانية من خلال عدد كبير من الأغاني الشبابية، خاصة ما يطلق عليها “المهرجانات” التي تبلغ نسب المشاهدة لها على وسائل التواصل الملايين، وهي تتناول معاني مثل الشعور بالتميز والاستغناء عن الآخرين والتنمر والاستعداد لإنهاء العلاقات بشكل سريع ودون اكتراث، كما نجد تجليات ذلك في العديد من الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر بوستات تتضمن المعاني نفسها، وكذلك من خلال المضمون الذي يقدمه بعض الذين يعملون في مجالات التنمية البشرية والإرشاد النفسي والأسري.
وفي هذا السياق يقول الدكتور أشرف منصور أستاذ الفلسفة بجامعة الإسكندرية في تصريح لـ “حفريات”: “ظاهرة الفردانية موجودة في المجتمع المصري منذ فترة من قبل 25 كانون الثاني (يناير)، لكنّ أحداث كانون الثاني (يناير) كشفت عنها وأظهرتها بشكل أكبر، وهذه الظاهرة لها العديد من المظاهر، مثل ظهور تيار الأناركيين وقت الثورة، وكذلك العديد من الأطياف والتيارات السياسية والائتلافات التي ضمت الكثير من الشباب الذي لم يكن منتمياً إلى كيانات سياسية من قبل، ومن المظاهر كذلك انتشار الرواية بشكل كبير في الأعوام الأخيرة، سواء من حيث عدد الذين يكتبونها أو الذين يُقبلون على قراءتها، فكثرة الروايات تُعدّ انعكاساً للنزعة الفردية لدى الكاتب والقارئ على السواء، ومن مظاهر النزعة الفردية أيضاً الهاتف المحمول وهو سبب لزيادتها كذلك، فمن خلاله ازدادت العزلة الاجتماعية وأصبح لكل فرد عالمه الخاص به، ومن المظاهر كذلك انتشار “السكوتر والموتوسيكل” لدى الشباب ذكوراً وإناثاً، حيث يبحثون من خلاله عن الاستقلالية بعيداً عن زحام وسائل النقل العامة”.
مستقبل التنظيمات الإسلامية
نعود إلى السؤال الذي طرحناه في بداية هذا الموضوع، وهو: هل يؤثر تنامي الفردانية وحالة السيولة على مستقبل التنظيمات الإسلامية؟ وما مدى قدرة تلك التنظيمات على التكيف مع هذا الأمر؟
الإجابة أنّه بالطبع سوف يكون لتنامي هذه الظاهرة وهذه الحالة من السيولة تأثير كبير جداً على مستقبل تلك التنظيمات؛ لأنّ التنظيمات في شكلها التقليدي تعتمد على عنصرين أساسيين، وهما الفكرة والتنظيم القوي المتماسك، وهذا التماسك يأتي من خلال وجود عدد كبير من الأفراد يتم اختيارهم وفق معايير معينة ويتم صياغتهم فكرياً ونفسياً وفق نمط معين، وهذا النمط يتطلب أن يكون الفرد منعزلاً داخل التنظيم ليس لديه القدرة على الحركة الذاتية والتفاعل خارج التنظيم، ويتم إذابة شخصيته داخل التنظيم بحيث يفقد ذاتيته ويصبح مجرد جزء من قطيع يتم التحكم فيه وتوجيهه في الاتجاه الذي يريده التنظيم عبر قياداته ووفق مشروعه وخططه وأهدافه، ويجب أن يتوافر في الفرد المنتمي للتنظيم سمات رئيسية؛ أهمها الثقة المطلقة في القيادة، والسمع والطاعة لمن فوقه من القيادات، وتنفيذ الأوامر والقرارات ولو خالفت هواه أو عقله، كما يتم غرس العديد من الأفكار والقناعات بداخله بصورة تجعل لديه يقيناً بأنّها بمثابة حقائق مطلقة، والنزعة الفردية لا شكّ أنّها تتعارض مع هذا النمط الذي تريده التنظيمات، والذي لا تستطيع أن تقوم وتستمر وتعمل وتحقق أهدافها وتحدث التأثير المطلوب في المجتمع بدونه، فالفرد الذي يدرك تميزه وتفرده عن غيره ويشعر بضرورة الاستقلال عن الآخرين، ويفكر ويسلك معتمداً على ذاته وعلى عقله دون الخضوع لأحد ودون الاتباع الأعمى للغير، والذي يضعف لديه الانتماء إلا إلى ذاته وتتغير هويته بشكل سريع ولا يرتبط بقوة بالأمكنة ولا بالأزمنة، ويسهل عليه إنهاء علاقته بالأشياء وبالأشخاص متأثراً بالنزعة الاستهلاكية السائدة لكل شيء، والذي يوجد بداخله شعور باللّايقين تجاه كل شيء في الحياة؛ هذا الفرد لا يستطيع أن يكون جزءاً من تنظيم محكم ومغلق يتحكم في أفراده في كل تفاصيل حياتهم ويشكّل أفكارهم وتصوراتهم ويعزلهم داخل أسواره.
ويعقّب الدكتور أشرف منصور على هذا الأمر: “إنّ التنظيمات الإسلامية بطبيعتها تنظيمات شمولية قائمة على سحق الفردانية، وهي ظاهرة جماهيرية شعبوية تعمل على التأثير على مجموعات من الأفراد واستغلالهم، وفي حالة تنامي الفردانية في المجتمع حيث يشعر الفرد بذاتيته واستقلاله، ومن ثم تكون له القدرة على التفكير والتعبير عن الرأي بشكل مستقل، فإنّ هذه التنظيمات سوف تتفكك وتتحول إلى ظاهرة فكرية أو تيار فكري فقط”، ويضيف: “الفرد إذا تركت له حرية الاختيار لن ينتمي لتلك التنظيمات من البداية، ولكنّه سوف يمارس أنشطة فردية حداثية كأن يقرأ أو يسمع موسيقى أو يشاهد فيلماً، ولذلك فإنّ تلك التنظيمات تحارب الفنون لأنّها لا تريد الفرد ولكن تريد الجماعة، ولذلك أيضاً حرص حسن البنا على إبعاد الإخوان عن الجدل في القضايا الفكرية، لأنّ هذا الجدل يفتت التنظيمات، وهذا ما حدث مع التنظيمات اليسارية في القرن الـ (20)”.
أمّا عن مدى قدرة تلك التنظيمات على التكيف مع هذه المتغيرات، ومن ثم القدرة على الاستمرار بصيغ أخرى؛ فإنّ السيناريو الأقرب للتحقق من وجهة نظرنا هو عجزها عن التكيف، لأنّ نمط التفكير الذي يحكم تلك التنظيمات وكذلك تركيبتها النفسية يحولان دون القدرة على النقد الذاتي والمراجعة ومن ثم التجديد والتطور ومواكبة المستجدات، وهو ما أثبتته التجربة في كل المحطات التاريخية لتلك التنظيمات، حيث إنّ قدرتها على التطور مع المستجدات ضعيفة، وتتم في إطار محدود في بعض الأفكار الفرعية وبعض الممارسات دون القدرة على التغيير الجذري مهما تعرضت لأزمات ومهما أصابها من خسائر، لكن يظل هذا التأثير خاصاً بالبنية التنظيمية فقط دون البنية الفكرية، بمعنى أنّه قد يؤدي تنامي النزعة الفردية وحالة السيولة إلى ضعف التنظيمات وعجزها عن استقطاب عناصر جديدة مع الوقت، ومن ثم إصابتها بالشيخوخة والعجز الذي ينتهي بالزوال والتلاشي، لكنّ أفكارها ربما تظل موجودة يتبنّاها أفراد في المجتمع، ويظل تأثيرها قائماً ومستمراً، وهذه معضلة أخرى بحاجة إلى رؤية وأدوات مختلفة للعلاج.
نقلاً عن حفريات