محمد جميل أحمد
كاتب سوداني
الرؤية الطهورية لدعاة الإسلام السياسي، بوصفها إسقاطاً إيديولوجياً، تنطوي على العديد من الإشكالات التي لا تتصل بكيفية تعبير النموذج التفسيري الفقير لتلك الرؤية فحسب؛ بل كذلك بمأزق ذلك النموذج؛ إذ يظلّ عاجزاً، عجزاً شبه مطلق، عن نقد ذاته بذاته.
ذلك أنّ أي نقد معرفي لتلك الرؤية يندر أن يتأتى من ذاتها المغلقة؛ لأنّها بطبيعتها تلك تكون غير قادرة على التحديق في عللها؛ ما يعني، كذلك، أنّ أي نقد معرفي يفكك المبدأ التفسيري لأيدلوجيا الرؤية الطهورية سيكون بمثابة دمار لسرديتها من الأساس.
بطبيعة الحال، غنيّ عن القول، إنّ أي رؤية طهورية للذات تتعالى (ناهيك عن أن تتجاهل) عن الشروط الموضوعية لواقع البشر ستضمر، بالضرورة، إهداراً مستمراً للطريقة السليمة في مقاربة تحديات وشروط الواقع في الوقت ذاته. وهذا، بالضبط، ما تحيل إليه نتائج مقاربات الإسلام السياسي حيال قضايا الواقع، وما تتكشف عنه الانسدادات الخطيرة التي تنجم عن تطبيقات تلك الأيدلوجيا الطهورية.
فالإسقاط الذي تمارسه الأيدلوجيا الطهورية لدعاة الإسلام السياسي؛ إذ يصدر بالأساس عن تفسير مضلل للتاريخ الإسلامي والواقع؛ تكون نتيجته مضللة، كذلك، فيما هم يمارسون استيهاماً للتاريخ والواقع ينطوي على تصور انشقاقي عن مجتمعات المسلمين؛ تصورٌ يعيد تعريف نفسه بتأويل ضدي نقيض لتصورات مجتمعات المسلمين، ومن ثم يتعين عليه التكيَّف مع مرجيعات أيدلوجية انشقاقية خاصة به؛ ليمارس عبرها تدميراً للمعرفة والعلم في مجتمعات المسلمين، فضلاً عن التخريب الذي يحدثه في واقع تلك المجتمعات.
وبما أنّ أي استعادة لتاريخ مضى، ومحاولة جلبه للحاضر، لا تتم إلا باستيهام وتأويل فإنّ حقيقة الاسقاط الذي يجري في الرؤية الطهورية لجماعات الإسلام السياسي حيال ذلك التاريخ، من خلال الاستيهام، سينطوي، بالضرورة، على رهان مكلف في التطبيقات التي تتم ممارستها في واقع تلك المجتمعات.
ذلك أنّ المقاربة الأيدلوجية الناشطة لجماعات الإسلام السياسي من أجل “تصحيح” حياة المسلمين “الجاهلية” لا يتم تمامها في الذهنية الطهورية إلا على نحو متسلط ومتعدٍ؛ يحتم مواجهة مجتمعات المسلمين باحساس أخلاقوي زائف معاد للحداثة بطريقة سينكيه “كلبية” عنيفة أحياناً، وغير مفهومة، على الأرجح. وهنا بالضبط تنتج الأيدلوجيا الطهورية الكوارث التي تحدث من الاصطدامات المتفجرة في واقع تلك المجتمعات جراء التجريب الرهيب لاشتغالها، ولاسيما في أسوأ نماذجها كنموذج تنظيم “داعش” و”خرافته” في الموصل والرقة؛ حيث بدا واضحاً للناس كم كان فظيعاً ما جلبه ذلك التنظيم لحياة مجتمعات المسلمين هناك من دمار وضحايا.
في كل رؤية طهورية نسيج محكم للعمى الأيدلوجي؛ نسيج يتشكل باستمرار ككتلة مصمتة غير قابلة للتفكيك والفرز والتحليل في تمثيلات جماعات الإسلام السياسي (لا تَمَثُّلَها) لأن كل محاولة معرفية لدراسة ذلك النسيج وسبر هشاشته ستجر، بالضرورة، في النهاية، إلى تدمير سرديتها، كما ذكرنا.
هكذا، إذ تتجدد صيرورة لامتناهية من تجارب الخراب المجربة والكارثية في تطبيقات الإسلام السياسي على مختلف نماذجه المأزومة؛ يكون الرابط بينها خيط ناظم هو: الرؤية الطهورية للأيدلوجيا في مختلف ألوان تلك التجارب، سواءً أكانت التجربة على غرار التجربة الداعشية، أو على غرار التجربة السودانية، أو على غرار تجربة حماس في غزة، وطالبان في أفغانستان، وحتى إيران.
ذلك أنّ الأصل الذاتوي للرؤية الدينية الطهورية المؤدلجة، والحس الأخلاقوي المضلل لها ينطلق عبر استيهامات مطلقة في نفوس أصحابها بطريقة تتجاوز الواقع، وتتعالى على العالم فلا تنتج إلا تدميراً (أحداث 11 سبتمبر 2001نموذجاً) ولا تخلف إلا الكوارث والانسدادات التي تعكس طبيعة الأزمات التأسيسية في بنية حركات الإسلام السياسي وتفسر حقيقة المآزق الذي ولدت معها (فكرة الدولة عند الاخوان المسلمين نموذجاً).
وإذا كان الإطار النسقي المغلق هو المسار الوحيد للرؤية الطهورية في “منطق” حركات الإسلام السياسي؛ بما يجعلها رؤية ماضوية وقروسطية بامتياز؛ فإن التضليل الذي يخدع مجموعات بشرية في واقع متخلف كواقع هذه المنطقة العربية، يكمن في إيهام والتأويلات والتسويق الأيدلوجي النشط لبعض المفاهيم غير المنضبطة، كمفهوم الدولة “المدنية” الذي استخدمه “الإخوان المسلمون” إبان دعايتهم الانتخابية في مصر بعد الثورة.
ربما جاز لنا أن نصف تلك الرؤية الطهورية لأيدولوجيا الإسلام السياسي بأنها “بنية متعدية” نتيجة للحماسة التي تفيضها فكرة “الاحتساب” على أصحابها، والاستيهام الزائف الذي تضخه سردية: إكراه مجتمعات المسلمين على اعتناق أيدلوجيا جماعات الإسلام السياسي وما تعد به تلك المجتمعات من خراب ودمار.
ففي وسع العالم الحديث، اليوم، أن يتسامح مع الرؤى الطهورية للجماعات الدينية إذا كانت غير متعدية ولا مشغولة بإصلاح العالم البعيد عن إصلاح ذاتها؛ كطائفة “المورمون” المسيحية في الولايات المتحدة.
لكن مع وسوسات الإكراه النشط في الحراك “السينيكي” لجماعات الإسلام السياسي لتصحيح المسار الضال لمجتمعات المسلمين وما يترتب عليه من عنف أعمى كالعنف الإرهابي للدواعش؛ فلا يعد العالم أجمع مثل تلك الجماعات إلا بالعنف الضروري والموازي لعنفها!
نقلاً عن حفريات