كريتر نت – متابعات
تصاعدت تحذيرات من السيناريوهات الكارثية للتغيرات المناخية التي ستجعل الاقتصاد العالمي يدفع ثمن باهظا لتداعياتها القاسية حتى مع اقتناع الحكومات بأنه لا مفر من الإسراع في وضع خطط لحماية الناس والقطاعات الإنتاجية والأعمال من الخسائر التي قد تكون كبيرة.
لندن – يكاد كل سكان الأرض يدركون تقريبا المسار المحتمل لظاهرة التغير المناخي في ظل الأداء العالمي الحالي لخفض الانبعاثات الكربونية والتي يتوقع الخبراء أنها لن تكون كافية لبناء جدار يحمي اقتصادات الدول من الصدمات القاسية.
ويعتقد الكثيرون أن الأحداث المناخية العنيفة مثل موجة الحر غير المسبوقة التي تضرب جنوب أوروبا والولايات المتحدة والصين حاليا ستكون أكثر تكرارا وأشد تدميرا نتيجة تخلف دول العالم عن القيام بدورها للحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري.
وفي ضوء ذلك يرجح كريون باتلر مدير برنامج الاقتصاد والتمويل العالمي في معهد تشاتام هاوس البريطاني أن تكون التداعيات الاقتصادية والمالية للتغير المناخي واضحة أيضا، خاصة في ظل العجز الهائل في الإنفاق على التكيف مع ما هو قادم.
وعلى مدى العقد الماضي تسببت الكوارث الطبيعية الناجمة بالدرجة الأولى عن التغير المناخي في خسارة نحو 0.3 في المئة من الناتج المحلي العالمي سنويا وفقا لأرقام شركة سويس آر.إي للتأمين.
وعلى نطاق أوسع، أدت الكوارث المتعلقة بالمناخ إلى تكبد العالم خسائر يومية تتجاوز 200 مليون دولار خلال الخمسين عاما الماضية.
وهذه الأرقام مهددة بالارتفاع بشكل أكبر في حال عدم تحرك العالم بالسرعة الكافية لإبقاء ارتفاع درجات الحرارة ضمن المستويات المطلوبة والوصول إلى صافي صفر انبعاثات بحلول العام 2050.
وتقدر العديد من مراكز الأبحاث والمؤسسات الدولية المانحة أن يتكبد الاقتصاد العالمي خسائر تقدر بنحو 23 تريليون دولار بحلول 2050 جراء الاحتباس الحراري.
وبينما من المحتمل أن تبلغ تكلفة تكيف الدول النامية مع تغيرات المناخ 300 مليار دولار في 2030، تنفق بلدان أفريقيا ما بين اثنين إلى تسعة في المئة لمواجهة آثار تغير المناخ.
وسيؤدي تدهور المحاصيل الزراعية إلى ارتفاع أكبر لأسعار الغذاء وانتشار الملايين من اللاجئين نتيجة الأحوال الاقتصادية في العالم، كما سيتم إخلاء مناطق سكنية وزراعية واسعة على السواحل بسبب تكرار تعرضها للفيضانات.
كما قد تواجه الصناعات كثيفة الاعتماد على الوقود الأحفوري الغلق المفاجئ بسبب المطالب بالتحول الأخضر، في حين ستتعرض قطاعات أخرى لانهيارات كارثية محتملة لسلاسل الإمداد.
ويقول باتلر المهتم بالعلاقة بين سياسات الاقتصاد الكلي والتغير المناخي إنه لم يعد مقبولا القول إن هذه السيناريوهات مازالت غير مؤكدة أو غير محتملة. ففي حالات كثيرة أصبحت حتمية، حتى لو تسارعت بشدة سياسات تخفيف حدتها أو آثارها.
ومع ذلك فهناك أدلة بسيطة على تعديل أسعار الأصول الاقتصادية والمالية اليوم لكي تعكس هذه التطورات.
ووجد باحثون أن المخاطر بالنسبة إلى الديون السيادية للدول النامية الأشد عرضة لمخاطر التغير المناخي أعلى، بينما ثمة أدلة على انخفاض العائد على سندات الشركات الأقل عرضة لمخاطر التغير المناخي.
لكن بشكل عام لا تبدو الأسواق مهتمة بهذه القضية، والحوارات مع كبار المستشارين في المؤسسات المالية الكبرى تفسر هذا الأمر.
والحقيقة هي أن هناك وجهة نظر شائعة في الولايات المتحدة وأوروبا تقول إن التقدم التكنولوجي السريع سيحل المشكلة، وإن عدم اهتمام الأسواق المالية بمخاطر التغير المناخي حتى هذه للحظة يؤكد قيمة هذه الرؤية.
250 مليار دولار قيمة الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الكوارث الطبيعية بزيادة قدرها 24 في المئة على أساس سنوي
لكن هذه الرؤية تفترض أن الأسواق عقلانية وتراكم المعرفة ثم تعكس كل المعلومات المتاحة. كما أنها تفترض التخلص من التحديات الضخمة الفنية والمالية التي يمكن أن تعرقل الانتشار السريع للتكنولوجيا الجديدة عالميا.
وقدرت شركة أي.أو.إن الناشطة في مجال الوساطة التأمينية أن الكوارث الطبيعية، التي كان تغير المناخ وراء الكثير منها، تسببت في خسائر اقتصادية عالمية بقيمة 313 مليار دولار في 2022، وأن أقل من نصف هذه الخسائر فقط كان مؤمّنا عليه.
وارتفع عدد الأحداث الكارثية مثل الفيضانات والأعاصير، حيث بلغ 421 حالة على الأقل مقارنة بمتوسط 396 حالة منذ عام 2000.
ووفقا لتقديرات شركة سويس ري السويسرية، فقد بلغت الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الكوارث الطبيعية في العام 2021 نحو 250 مليار دولار بزيادة قدرها 24 في المئة على أساس سنوي.
وهناك وجهة نظر أخرى تقول إن التغير المناخي بطبيعته معقد وغير مؤكد، وكذلك تأثيراته على الاقتصاد الكلي.
وفي حين يمكن أن تصبح هذه المشكلة مهمة على المديين المتوسط أو الطويل، فإن مواجهة التضخم وارتفاع معدلات الدين العام يمثلان الأولوية اليوم. لكن من الصعب أن يصمد هذا الرأي أمام الأحداث المناخية الحالية بالغة الشدة وتأثيراتها الاقتصادية الكبيرة.
ومهما كانت أسباب تجاهل أسواق المال في الوقت الحالي لمخاطر المناخ، تزداد قوة احتمالات حدوث تعديلات جذرية في أسعار الأصول المالية وفقا لمدى تعرضها للمخاطر المناخية .
ويرى باتلر أنه كلما تأخر هذا التعديل للأسعار زادت حدتها عندما يحين أوانها، مع احتمال ظهور المزيد من المحفزات على تعديل الأسعار.
وهناك احتمال أن تبدأ المؤسسات الرقابية المالية أو المحللون المستقلون النظر بشكل مكثف ونقدي إلى مخاطر المناخ بالنسبة إلى محافظ استثمارات المؤسسات المالية الكبرى.
وفضلا عن ذلك ستقوم بإجراء اختبارات لتحمل الضغوط الاقتصادية والمالية وفقا لسيناريوهات جديدة وقوية لكنها واقعية للأحداث المناخية، مع نماذج للتوقعات الاقتصادية غير المتوازنة.
ويمكن أن يترافق ذلك مع تقييمات مستقلة مفصلة وأكثر تشاؤما بشأن المخاطر التي تواجه القطاع العقاري في المناطق الحضرية الساحلية مثل ميامي في الولايات المتحدة وشنغهاي في الصين وأمستردام في هولندا أو المناطق المعرضة لموجات الحرارة الشديدة.
لكن الخطر يكمن في أن يؤدي ذلك إلى إغلاق عدد متزايد من الأسواق المالية سواء جزئيا أو كليا، مع اقتناع المؤسسات بشكل منفرد بأنها لن تستطيع قبول المخاطر المناخية على نشاطها الرئيسي.
ويعتبر انسحاب شركتي تأمين كبيرتين من سوق الإسكان في كاليفورنيا مثالا على ذلك.
كما يمكن أن يصبح خطر المناخ عاملا رئيسيا يقلص وربما يمنع وصول الدول النامية إلى الأسواق المالية الدولية للحصول على احتياجاتها التمويلية.
وكما ظهر في الأزمة المالية العالمية الأخيرة، يمكن أن تكون لهذه التطورات تأثيرات متضاعفة، حيث يمكن أن يجبر إغلاق سوق ما سوقا أخرى ذات صلة بهذا الإغلاق بسرعة.
وفي خضم ذلك تبرز فرضية تصاعد المطالبات الشعبية في العديد من الدول الرئيسية باتخاذ إجراءات حكومية أكثر جذرية لمواجهة التغير المناخي، مع تقصير دورة العمليات الفنية والإدارية اللازمة.
◙ 23 تريليون دولار الخسائر المحتملة للاقتصاد العالمي بسبب الكوارث الطبيعية بحلول 2050
وسينتج عن ذلك اتخاذ إجراءات استثنائية كتلك التي تم اتخاذها أثناء الأزمة الصحية، كنتيجة للأحداث المناخية العنيفة التي تعرضت لها دول عديدة في العالم خلال الصيف الحالي.
ويمكن أن تصل هذه الإجراءات إلى حد وقف صناعات كاملة أو فرض قيود طارئة على واردات المنتجات كثيفة الكربون. وهناك أيضا احتمال حدوث تطورات سياسية يمكن أن تؤدي إلى إعادة تقييم أوسع نطاقا وأشد تشاؤما لخطر المناخ.
وعلى سبيل المثال فشلت مبادرة بريدج تاون وقمة ميثاق التمويل الجديد في تغيير المواقف في مجموعة العشرين.
وقال باتلر “قد تقتنع الأسواق بعدم وجود فرص واقعية لسد الفجوة التمويلية الكبيرة التي تقدر بنحو 3 تريليونات دولار سنويا للوصول إلى هدف صفر انبعاثات كربونية في العالم”.
ورغم أن المنظمات الدولية حذرت طيلة سنوات من آثار تغير المناخ على حياة البشر لكن لم تتخذ الحكومات خطوات ملموسة للتصدي لها.
ويجعل هذا الأمر برمّته متعلقا بفرضية أن تكون الرأسمالية، التي يُجمع معظم المحللين على أنها المتسبب الأول في تلك المشاكل، وهي البوابة لحلّ كفيل بإنهاء الخطر.
وتعتبر الأمم المتحدة أن العالم سيواجه خلال العقد الحالي أسوأ مشكلة وهي موجات الحرارة العالية التي قد تزيد من انتشار الحرائق ما يعني انخفاض المساحات المزروعة، إلى جانب ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات بفعل ذوبان جليد المحيط المتجمد الشمالي.
ونتيجة لذلك ستكون الدول واقتصاداتها في خطر مستدام بدل أن تكون في استقرار مستدام، مما يعني أن الحكومات أمامها الكثير لتفعله لتنفيذ إستراتيجياتها بخصوص الحياد الكربوني.