حكيم مرزوقي
مازالت أغلب الأقطار العربية إلى اليوم تقرن بشكل أو بآخر بين الإبداع والفن والثقافة وأخلاق المجتمع، في سؤال مكرر وبات أكثر تأثيرا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، كما بات يهدد حرية الفن والإبداع بشكل جدي، إذ تنصب المحاكم الأخلاقية مرارا للمبدعين.
ومرة تلو الأخرى، يطل برأسه في العالم العربي سؤال جوهري يتمحور حول علاقة الثقافة بالمسألتين السياسية والأخلاقية. ولا يزال الجدل قائما على شكل زوابع كلامية في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، دون أن يحط على طاولات الجدل الهادف والحوار البناء بين النخب المعنية.
يثار هذا “السؤال الأخلاقوي” بطريقة مائعة، فوضوية وذات بعد تعبوي واستقطابي في كل مناسبة مهرجاناتية أو حفلة غنائية أو تظاهرة فنية تحتشد فيها الجماهير على شاكلة الحديث عن فستان أطلت من خلاله مغنية أو كلمة سوقية تلفّظ بها مطرب أو ممثل أو كتاب وقعت مصادرته في معرض.. ثم تتوقف الزوبعة في انتظار أخرى.
عادة ما تتم معالجة مثل هذه “الزوابع من داخل فناجينها” بطرق إجرائية مرتجلة تأخذ طابعا إداريا أو تدخلا حكوميا من الهيئات المعنية، دون الاقتراب من جوهر المسألة ولب الموضوع.
وعليه، فإنه وإن كانت الضجة تتعلق بفستان للحشمة مثلا، يقع توبيخ صاحبته وتقريعها، وإن كان الأمر يخص كلمة أو حركة نابية، يتم إلزام صاحبها بالاعتذار وبعض التوضيح في ندوة صحفية مصغرة ليغلق الملف ويوضع على الرف، كما يتم حذف بعض المشاهد الساخنة والجريئة من فيلم أو مسرحية، لتستمر الحياة جميلة كما يقال.
الثقافة والسياسة والأخلاق
هذا ما يجري في غالبية أقطار العالم العربي، وإن كان بطرق متفاوتة مع مراعاة الخصوصيات الاجتماعية، لكن الإجراءات هي نفسها، أي أن التدابير تستمر سطحية، حينية وارتجالية تعتني بالقشور ولا تخص العمق والباطن. يغيب الحسم في المسألة الرقابية على اللوائح والنصوص والدساتير، وتكتسي الأمور لونا ضبابيا يخضع لأمزجة القائمين على الشأن الثقافي ومدى اتساع صدورهم ونسب انفتاحهم وتقديرهم لحريات التعبير.
وتحضر بقوة الرقابات الثلاث لتخنق المبدع في العالم العربي: سياسية – أمنية، اجتماعية – أخلاقية، وذاتية – نفسية مردها الخوف المزمن من عقوبة الدولة والمجتمع والضمير.
وضمن هذا البعبع المثلث يتم تصنيع العمل الثقافي وتغليفه وتسويقه بحسب آليات السوق وشروط العرض والطلب بحسب مصالح القوى المتحكمة فيه. ولأن المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية هي المجال الحيوي الذي تتحرك فيه الإنتاجات الإبداعية وتعبر فيه عن نفسها، فإن السؤال هنا يطرح نفسه عن ماهية هذه المهرجانات والغاية من إنشائها، وربطها بالسياسة الثقافية لهذا البلد أو ذاك.
◙ “السؤال الأخلاقوي” مازال يُطرح بطريقة مائعة، فوضوية وذات بعد تعبوي واستقطابي في كل مناسبة أو تظاهرة فنية
وفي بلد مثل تونس، يبلغ فيه عدد المهرجانات المئات، وقع بعثها وإرساؤها منذ ستينات القرن الماضي ضمن سياسة ثقافية تروم الانفتاح والاستثمار في الإنسان، فإن من الطبيعي أن تتشكل على عقود ثقافة مهرجاناتية لدى المواطن التونسي ذات بعد احتفالي وترفيهي.
وبما أن الإقبال الجماهيري واسع ومتنوع، فإن العروض سوف تكون حتما كذلك، وتحاول إرضاء السواد الأعظم لما لهذه النشاطات من خلفية تجارية وربحية مترامية الأطراف ومتشابكة المصالح بين القطاعين العام والخاص.
الضائقة الاقتصادية في تونس هذا العام لم تؤثر على الإقبال الجماهيري بقدر ما أثرت في العروض المنتقاة والمبرمجة، وتركت للقطاع الخاص حرية اختيار واستقدام العروض مع دعم يبقى سخيا من وزارة الثقافة التي انتقدها الكثيرون على مجموعة عثرات وهنات وتجاوزات كان بعضها خطيرا.
أول منتقدي وزارة الثقافة والغاضبين من أدائها كان الرئيس التونسي قيس سعيد، إذ تساءل لدى استقباله بقصر قرطاج حياة قطاط القرمازي وزيرة الشؤون الثقافية “كيف يجازى من اعتدى علنًا على الأخلاق الحميدة أو الآداب العامة، كما ينص على ذلك القانون الجزائي، بمقابل يناهز 26 ألف يورو للعرض في حين أنه من المفروض أن يعاقب بالسجن وبمخالفة مالية؟”، وذلك في إشارة إلى فكاهي فرنسي كان قد تفوه بكلمات نابية أثناء حفل على مسرح قرطاج الأثري العريق، والذي وقفت فوقه قامات فنية عملاقة.
حلبة مزايدات
لم يتوقف غضب سعيد عند هذا الحد بل تجاوزه نحو وصف ما يعانيه التونسيون من أزمات وحالات فساد بـ”التنكيل بالشعب”. طبعا، وجد حديثه ذاك تجاوبا وتعاطفا كبيرين شجّعا أصواتا كثيرة على المضي قدما في انتقاد الوزارة وآليات العمل الجارية في استقدام عروض وإبعاد أخرى، وما يمثل ذلك من هدر للمال العام، لكن ثمة نقاط وجب توضيحها في معرض الحديث عن الأخطاء والتجاوزات التي وقعت وتقع في المهرجانات.
إن كان رئيس الدولة قد استاء – مثل جميع التونسيين – من بعض الابتذال الذي حصل في حفلة الفكاهي الفرنسي وما رافقه من كلمات نابية، فإن ذلك لا ينبغي أن يقودنا نحو تبني خطاب أخلاقوي يوقظ ويقوي الرقابات الاجتماعية والدينية على حساب حرية التعبير، ومتناسين الخلل الحقيقي في أداء الجهات المشرفة على النشاط الثقافي.
◙ النشاطات الثقافية والترفيهية حالة صحية في مجملها، ولمجرد وجودها أصلا، لكنها يجب ألّا تتحول إلى حلبة مزايدات وتصفية حسابات
وفي هذا الإطار، علقت الباحثة والأكاديمية التونسية رجاء بن سلامة بقولها إن الإفحاش في الكلام سوء ذوق وليس دليلا على قدرة الفكاهي على الإضحاك، ولكنه أولا “لا يرقى إلى الجناية والجريمة، وثانيا أخشى أن يكون تضخيمه مقدمة لمصادرة الإنتاج الفني على أساس أخلاقوي”، مستدركة بالقول “إن الفن بمعزل عن الأخلاق، ولا يقيم بمعايير الأخلاق والدين بل بمعايير الفن”.
وبالعودة إلى سؤالنا الجوهري حول مدى أهمية الفصل أو التداخل بين الثقافة وسؤالي السياسة والأخلاق، فإن الأمور ينبغي أن تحسم بوضوح على مستوى القوانين والتشريعات، ومعها السياسة التي عليها أن تحفظ للثقافة مكانتها لأنها هي من تضمن تقدمها وتقف وراء تقدم دول وتخلف دول أخرى.
صفوة القول إن النشاطات الثقافية والترفيهية حالة صحية في مجملها، ولمجرد وجودها أصلا، لكنها يجب ألّا تتحول إلى حلبة مزايدات وتصفية حسابات بالمعايير السياسية والأخلاقية، وقد آن الأوان لبسط المسألة على مستوى التشريعات بدل معالجتها عن طريق التصحيحات والاعتذارات، وتركها تخمد أو تشتعل في مهب الأمزجة الفيسبوكية وغيرها.
المصدر العرب اللندنية