كحجر ثقيل في مياه بطيئة، حرك الانقلاب العسكري في النيجر، شكوكا حول مستقبل الوجود الفرنسي والأمريكي في غرب ووسط أفريقيا.
وكان مشهد احتشاد المتظاهرين داخل السفارة الفرنسية وإشعال النيران فيها وتحطيم النوافذ، مكررا من الاضطرابات السابقة في بوركينا فاسو ومالي، وجميعها مستعمرات سابقة لفرنسا تكافح من أجل إخماد حركات التمرد العنيفة وكلها تخضع لحكم عسكري.
وحركت الانقلابات نيران الغضب الشعبي ضد فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي يرى منتقدوها أنها لم تتخلَّ عن ممتلكاتها السابقة، وباتت أشبه بكبش فداء في منطقة تئن تحت وطأة الفقر وتغير المناخ وانتشار التنظيمات الإرهابية.
وقال مجتبى رحمن، المدير الإداري لمنطقة أوروبا في منظمة أوراسيا غروب، وهي شركة استشارية: “لم تتوقع فرنسا حدوث هذا الانقلاب، لذلك، فهي لم تتعلم من مالي أو بوركينا فاسو”، مضيفا “إنها نظرية دومينو واضحة للقرن الحادي والعشرين”.
وهددت الاضطرابات في النيجر مصالح كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية اللتين أرسلتا قوات ومساعدات عسكرية واقتصادية إلى المنطقة في محاولة لمساعدة الدول التي تقاتل المتمردين.
وكانت نصف دول أفريقيا في الماضي مستعمرات أو محميات فرنسية. وحافظت باريس لعقود من الزمان على علاقات وثيقة وإن كانت معقدة مع العديد من المستعمرات السابقة، بما في ذلك الوجود العسكري والتأثير الاقتصادي والاتصال المباشر برؤساء الدول.
وهذه العلاقات المعقدة تصيغ شبكة يُشار إليها في الأغلب باسم أفريقيا الفرنسية “Françafrique” والتي جاءت لتجسد هوس فرنسا بالحفاظ على موطئ قدم هناك.
وإدراكًا منه للاستياء المتزايد، تعهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عند انتخابه عام 2017 بإعادة ضبط العلاقة مع أفريقيا، وزيادة مساعدات التنمية للبلدان للقارة، وساند جهود إعادة القطع الأثرية المنهوبة إليها ووعد بتقليص الوجود العسكري الفرنسي.
لكن منتقديه قالوا إن شيئا لم يتغير على مدار السنوات الماضية. بل يتهم النقاد فرنسا باتباع نهج أبوي في أفريقيا، والحفاظ على علاقات وثيقة مع القادة الاستبداديين في دول بعينها.
كما أن الهيكل الهش للمساعدات الغربية والمساعدات العسكرية أصبح الآن موضع شك، ويرى محللون أن رحيل القوات الفرنسية من المرجح أن يجبر القوات الأمريكية على الرحيل هي الأخرى.
ويتمركز عدة آلاف من القوات الغربية في النيجر، بما في ذلك 1100 أمريكي و1500 فرنسي للمشاركة في الحرب ضد الإرهاب في منطقة الساحل، وهي منطقة شبه قاحلة تعاني من الآثار الشديدة لتغير المناخ والمتمردين المسلحين المرتبطين بالقاعدة و”داعش”.
بدورها، قالت أنيليسي برنارد، المستشارة السابقة بوزارة الخارجية الأمريكية، والتي عملت في النيجر: “يُنظر إلى المجلس العسكري في النيجر على أنه لا يمكن الاعتماد عليه، بسبب خطواته السريعة للتقرب من قادة مالي وبوركينا فاسو”.
وتابعت: “هؤلاء القادة الذين تولوا السلطة أيضًا في انقلابات، أقاموا علاقات مع روسيا في السنوات الأخيرة، واجتمعوا مع أحد قادة الانقلاب في النيجر”.
وتعتقد برنارد أن التطورات الأخيرة في النيجر من المرجح أن تسرع من انتقال القوات الأمريكية الذي طال انتظاره من هناك إلى دول على ساحل غرب أفريقيا.
وفي حال غادرت القوات الفرنسية النيجر، فستظل تشاد الدولة الوحيدة في منطقة الساحل المعروفة باستضافة قاعدة فرنسية.
ويشير إتيان غيروس، رئيس مجموعة تمثل المصالح الاقتصادية الفرنسية في القارة، إن فرنسا كانت تمثل في عام 2000 نحو 10 في المائة من التجارة الدولية لأفريقيا. ومنذ ذلك الحين انخفض ذلك إلى أقل من 5 في المائة.
وأوضح غيروس أن الانقلابات الأخيرة والغضب المتزايد ضد سياسات فرنسا في المنطقة لم يشجع الاستثمار، مضيفا: “لكننا اعتدنا على ذلك. هذا هو الانقلاب الخامس في النيجر”.
عندما أنهت فرنسا تدخلًا عسكريًا دام تسع سنوات في مالي العام الماضي بعد تداعيات كبيرة مع الحكام العسكريين الجدد، انتقل جنودها إلى النيجر لمواصلة عمليات مكافحة الإرهاب في المنطقة من هناك.
وفي يناير/ كانون الثاني، أنهت بوركينا فاسو اتفاقها العسكري مع فرنسا، والتي سرعان ما سحبت 400 جندي، بينهم 200 من القوات الخاصة.
وقال دبلوماسيون ومسؤولون عسكريون فرنسيون في ذلك الوقت إنهم تعلموا من أخطائهم، وأن فرنسا ستتوقف عن رفع علمها فوق القواعد العسكرية في هذه الزاوية من أفريقيا وستركز على دعم احتياجات الجيوش الأفريقية بدلاً من القيام بعمليات بمفردها.
ويرى ناثانيال باول المؤرخ الذي كتب كتابا عن العمليات العسكرية الفرنسية في تشاد، أنه “لو أن فرنسا تبنت هذا النهج في وقت سابق، فما كانت لتواجه هذه التحديات التي تجدها الآن”.