كريم محمد
كاتب ومترجم مصري
شهد العالم الإسلاميّ مع القرنين التاسع عشر والعشرين سيرورات تحويليّة، نقلت تصوّرهم لذاتهم وتاريخهم وثقافتهم نحو آفاق مختلفة. كانت تلك “السيرورات التحويليّة” منوطة، في الأساس، بالاحتكاك بالغرب الذي وفدَ كاستعمار، وكبنية ثقافيّة جديدة على العرب والمسلمين استدخال ذواتهم فيها، وتعريف أنفسهم من خلالها حتّى يتسنّى لهم “اللحاق بركب الحضارة”، كما هو التعبير المستعمَل آنذاك، بكثيرٍ من الارتجال، وعدم التمحيص.
في الحقيقة، سعت كتابات كثيرة إلى تصوير العرب والمسلمين، والإسلام، كمتلقين سلبيين للتحوّل الكبير الذي حصلَ في العالم الإسلاميّ. بينما، كما هو قانون التدافع، فإنّه كلما نشأت سلطةٌ، ظهرت مقاومة لها، وهذه المقاومة لا تنتجُ من فراغ، بل من احتكاك مباشر، وجدال قابع في قلب الآخر. كان الصراع مع الغرب حينها باعتباره “الحضارة” قائماً وبالأساس على شقين: شقّ متعلّق بالمقاومة الماديّة للاستعمار، والذين انخرط فيها أناس عاديّون ومثقفون وبعض النخبة، وشقّ آخر متعلّق بالمقاومة الرمزيّة التي حاولت إثبات أنّ الإسلام، بتاريخه وتقليده الواسع، له نصيبٌ من هذه الحضارة. وبالتالي، استُعمِلَ “الإسلام” في نقاشات تلك الفترة على أصعدة عدّة كنوع من المقاومة الرمزيّة للغرب الذي يفرض نفسه كاستعمارٍ وكثقافة.
*الشيخ عبده كان ممثّلاً لأزمة عصره يفكّر بعقلين، وله خطابان داخليّ لأهل الملّة، وخارجيّ للخطابات الغربيّة المسيئة للإسلام*
لقد لعبت ما أسميته بـ “السيرورات التحويليّة” دوراً بارزاً وجليّاً في إنتاج الإسلام كمصطلح يدلّ على دلالات، وأيضاً في الآن نفسه كمصطلح للتنازُع الأيديولوجيّ بين القوى المختلفة، سواء في الداخل، أو مع الخارج (أي، بين المفكّرين الذين عدّوا أنفسهم ينطلقون من رؤية إسلاميّة، والآخرين الذين وسموا أنفسهم بدهرانيين أو علمانيين). وعليه، غدا من مصطلح الإسلام نفسه تكويناً وتشكّلاً جديداً للتنازع والتفاهم. فقد استُخدِم مصطلح الإسلام كثقافةٍ مرّة، أو كحضارة، أو كنسقٍ، أو كمنهج. واستعملَ المستشرقون الإسلامَ، من جانب آخر، لإثبات دونيّته الحضاريّة، وعلوّ الحضارة الغربيّة “العقلانيّة” (كتاب “الإسلام في الليبراليّة” لجوزيف مسعد فيه شمول واسع بخصوص هذه الأفكار).
كما أشرت، احتلّ الصراع على الإسلام موقع الصدارة في القرنين التاسع عشر والعشرين بسبب تتريس الإسلام باعتباره عائقاً -بالنسبة إلى المستشرقين- أمام الحداثة، هذا الإسلام الذي اتّخذ شكلاً غامضاً أغلب الأحيان، باعتبارها بنية كليّة أبديّة تهيمن على التاريخ والذات المسلمة التي نُظر إليها على أنّها مشلولة بفعل بنية دينيّة عميقة. وبالمثل، استدعى النهضويّون العرب الإسلام أمام حائط التغريب الذي رأوه غير مفصول عن الاستعمار الذي كانت تحياه المجتمعات المسلمة آنذاك.
بيد أنّ ههنا نقطةً لا بدّ من إيضاحها. فقد فرّق النهضويّون بين ما هو “غربيّ” وما هو “استعماريّ”، رُغم أيّ شيءٍ يمكن قوله حول مثل هذه التفرقة. كان عبد الله العروي في كتابه “مفهوم العقل” قد عقد فصلاً عن أهمّ شخصيّة نهضويّة عربيّة، ألا وهو الشيخ محمد عبده. حاول العروي بذكاء شديد النمذجة بمحمد عبده باعتباره يمثل المفارقة التي نحياها منذ ما يُسمّى بعصر النهضة العربيّة. ومن تحليل العروي الرشيق والمهمّ، يمكن الاستدلال على هذا التفريق الذي أشرتُ إليه بين ما هو غربيّ وما هو استعماريّ، رغم التداخل الحاصل في كثير من الأحيان.
فالشيخ عبده كان ممثّلاً لأزمة عصره: يفكّر بعقلين، وله خطابان داخليّ لأهل الملّة، وخارجيّ للخطابات الغربيّة المسيئة للإسلام التي يعتقد عبده أنّها لم تفهم جوهر الرسالة الإسلاميّة.
الإسلامويّة في قلب الصّراع
نشأ الإسلام السياسيّ في ظرف معقّد ومضطرب، ولعبَ على أوتار الخلافة وسقوطها، واعتبر المؤسّس حسن البنا في مصر أنّ الإسلام -وهو فهم جديد لم يكن موجوداً في التقليد الخطابيّ للمسلمين- دين ودولة، وكتاب وسيف؛ ودمجه داخل منظومة جديدة تماماً تتعامل مع الدينيّ تعاملاً مغايراً للاجتماع ما قبل الحديث الذي كانت مصر حينها على وشك الخروج منه للدخول في نمط اجتماع مغاير تشكّل بفعل تغيّر الظرف التاريخيّ والاجتماعيّ والثقافيّ، وتغيّر “أنظمة الخطاب” التي استعملها المسلمون للتعبير عن أنفسهم وتاريخهم آنذاك.
*نشأ الإسلام السياسيّ في ظرف معقّد ولعبَ على أوتار الخلافة وسقوطها واعتبر البنا أنّ الإسلام دين ودولة وكتاب وسيف*
بيد أنّ الإسلام السياسيّ، كحركة سياسيّة-دينيّة- اجتماعيّة، كان بالأساس صراعاً على تمثيل الإسلام في صورة سياسيّة. فالبنى القديمة للاجتماع الإسلاميّ لم تنهر تماماً، كما إنّ البنى المستوردة حديثاً لم تَفد هي أيضاً بصورة تامّة. وهذا التأرجُح هو دائماً كان السّمة المميّزة للحداثات المغايرة؛ أي تلك البلدان التي شهدت الحداثة خارج أوروبا، باعتبارها موطناً لحداثة أخرى، لحداثةٍ تريد أن تقطع مع البنى القديمة، لترسيخ نفسها، مع تزاحم البنى القديمة التي تأبى الانحلال. وفي هذا الصراع المادّيّ والرمزيّ، نشأ “الإسلام” كحقلٍ متنازَع عليه؛ فلم يعد جامعاً روحيّاً واجتماعيّاً للأمّة، وإنّما أصبح محلّ نقاش سياسيّ بالأساس: مَن يمثّله؟ هل له دورٌ سياسيّ؟ ما شكل السياسة في الإسلام؟ إلى غيرها من الأسئلة المطروحة في تلكم الأوقات.
اخترعَ البنا فكرة الشموليّة الإسلاميّة، وسعى إلى أدلجة الإسلام تماماً بحيث يتحوّل إلى جهاز أخلاقيّ ورقابيّ وشرْعيّ، وقطعَ مع الحركة الإصلاحيّة التي نشأ جرّاء صراعاتها؛ تلك الحركة التي لم تفكّر في الإسلام كتنظيم، وإنّما نظرت إليه كتقليد تنتمي إليه النّفس الإسلاميّة، وكيف يمكن ‘‘تجديد‘‘ هذا التقليد. وبعيداً عن تقييم المساعي النهضويّة في تجديد الإسلام -أو أسْلمته بالأحرى-، فإنّ البنا خرجَ على التقليد القديم وعلى النهضويين، واعتقدَ أنّ الإسلام الموروث ليس كافياً لإصلاح اجتماعيّ وسياسيّ وثقافيّ، فانخرط في سيرورة أيديولوجيّة هي ما أطلقُ عليه في هذا المقال بـ”أسلمة الإسلام”.
أسلمة الإسلام، بشكل أوضح، تعني الاقتناع الفكريّ والسياسيّ من قبل الإسلامويّة بأنّه لا بدّ من سحب الإسلام من تاريخه الذي وصل إلينا به، والرجوع به إلى نقطة صفر ميتافزيقيّة يُعتقد بأنّها التمثيل الأمثل له. بل لا تكتفي الإسلامويّة بذلك، إنّها تؤدلج أيضاً نقطة الصفر هذه، فتفرضُ أنّ النبيّ محمد -عليه الصلاة والسلام- قد أقامَ دولةً، ويخلطون بتيهٍ مفاهيميّ مفهوم الدولة بمفاهيم أخرى لا تخضع للمنظومة الفكريّة الحديثة التي ينطلقون منها بدون وعي.
في الحقيقة، كان البنا سبّاقاً في عمليّة أسلمة الإسلام هذه. هو مَن افتتح البابَ بالأحرى إلى هذه الأسْلمات التي شهدناها من بعده. وكانت فكرة التنظيم الإسلامويّ الإخواني هي محاولة لتجهيز مجتمع جديد، بإسلام يظنّ البنا أنه أجدى وأصلح من الإسلام المُمارس والمعيش من قبل الناس؛ وهي الفكرة التي ستتعمّق، فكريّاً ولاشعوريّاً، لتنتج لاحقاً فكرة “المجتمع المؤمن” الذي يمثّل طليعةً إسلامويّة لقيادة المجتمع أخلاقيّاً وثقافيّاً.
معضلة أخلاقيّة
أحدثت الإسلامويّة، كفكرة، تُنتج إشكالات أخلاقيّة لا حصر لها. فصُلب الأطروحة الإسلامويّة، بعيداً عن تناقضاتها المَصادريّة، قائم على استعادة الشريعة بغير ما توارث التقليد فكرة “استعادة الشريعة” تماماً. استعادة الشريعة في التقليد الإسلاميّ، هي تفعيل مبدأ الاجتهاد الناظم لتطوير الشريعة نفسها كبنية أخلاقيّة يحيا المسلمون في داخلها، ولاستلهام حلّ للمشاكل الاجتماعيّة والسياسيّة التي كانت تجابههم. الإسلامويّة، من ناحيتها، هي قتل الاجتهاد التقليديّ، وإحياء تسييس جاهل باعتباره مؤدياً إلى هذا الاجتهاد الذي اعتاد عليه المسلمون على مدار قرون.
*اخترعَ البنا فكرة الشموليّة الإسلاميّة وسعى إلى أدلجة الإسلام تماماً بحيث يتحوّل إلى جهاز أخلاقي ورقابي وشرعي*
تحاول الإسلامويّة تفعيل مبدأ سياسيّ، بالانخراط في الدولة، التي جوهر فكرهم يتمحور حول رفض لبنيتها بالأساس؛ فهناك تناقض حتميّ في الإسلامويّة: في حين تسعى إلى الهيمنة على الدولة، فإنّها تكفر بفكرة الدولة نفسها، مع كونها تريد تماهي مشروعها معها ليكون دولتياً، ولتغدو الشريعةُ نفسها مُسيّسة عن طريق إصلاح قانونيّ داخل الجهاز الحديث.
فكرة الدولة الإسلاميّة، أو فلنقل “الحكومة الإسلاميّة” الأولى التي طرحها البنّا، هي فكرة دخيلة على التقليد الإسلاميّ. لأنّ الإسلامويّة ظنت أنّ الدولة هي التي أنتجت العلمنة في المجتمع، وغرّبته. في حين أنّ الدولة ما هي إلّا تمثيل للعلمنة، لا مسببة له، كما يشيرُ الأنثروبولوجي طلال أسد بجدارة.
الإسلامويّة، ليست حركة استثنائيّة، كما يدافع عنها شادي حميد بكثير من اللاعلميّة. إنّها انشقاق على التداول الإسلاميّ نفسه، ولا تسمح بالاجتهاد في التاريخ، بعيداً عن جهلها بطبيعة الدولة المعاصرة. بالفعل، استطاعت الإسلامويّة جذب شرائح اجتماعيّة كبيرة لها، بفعل عدد من الأسباب، يمكن إحالتها سوسيولوجياً ومخياليّاً وسياسياً. لكن، أيّ جدوى للإسلامويّة في العالم العربيّ؟ فالإسلامويّة ساعدت على هذه الأسلمة الدائمة للإسلام: أدب إسلاميّ، فنّ إسلاميّ، سياسة إسلاميّة، لباس إسلاميّ، بيت إسلاميّ.
إنّ الخراب الذي أحدثته عمليّة أسلمة الإسلام هذه ليس فقط متمثلاً في تعطيل أيّ إمكانيّة لحلول جذريّة في العالم العربيّ، بل في تشكيل ذهنيات جديدة تفهم الإسلام كأيديولوجيا سياسيّة على أتباعه أن يطبّقوها كأجندة. عندما تقنع الجماهير بأنّ إسلامَهم ليس صحيحاً، وأنّهم عليهم أن يحوّلوا أنفسهم إلى أجهزة أيديولوجيّة في البيت والعمل والشارع، فأنت تقتل أيّ إمكانيّة لتقدم سياسيّ أو اجتماعيّ.
نقلاً عن حفريات