هشام النجار
لم يحمل نبأ مقتل زعيم تنظيم داعش أبوالحسين الحسيني القرشي جديدًا سوى تلك الإشارة التي وردت على لسان المتحدث باسمه أبوحذيفة الأنصاري حول أنه قُتل في أثناء اشتباكات مع هيئة تحرير الشام في شمال غرب سوريا، واصفا في تسجيل صوتي على قناة تابعة للتنظيم على تليغرام أخيرا، الهيئة صاحبة النفوذ العسكري في إدلب بـ”العمالة والردّة”.
ووجه الأنصاري للهيئة اتهامًا صريحًا بقتل الخليفة الرابع لداعش لحساب المخابرات التركية بعد محاولة أسره والمتحدث السابق باسم التنظيم أبوعمر المهاجر ومجموعة من أفراد ونساء التنظيم، معلنًا تنصيب خليفة جديد يُدعى أبوحفص الهاشمي القرشي.
وتُعد هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها هيئة تحرير الشام بوضوح في كادر الاستهداف المباشر لأحد قادة داعش البارزين، حيث ظلت في المرات السابقة في الخلفية، وتناثرت أقوال غير مؤكدة عن أدوار ثانوية لعبتها في تسهيل وصول قوات التحالف الدولي إلى قادة تنظيم الدولة بهدف تصفيتهم داخل نطاق المساحات الواقعة تحت سيطرتها.
ويختلف التحدي الذي تواجهه هيئة تحرير الشام حاليًا عن ذلك الذي واجهته وهي تسوق نفسها ككيان معتدل محلي ومفارق لأيديولوجيا وحركية الجهاد العالمي العابر للحدود، ساعية بعد تأكيدها إدارة ظهرها للقاعدة وللجهاد العالمي إلى فرض نفسها كطرف يصعب الاستغناء عن خدماته من قبل اللاعبين الدوليين والإقليميين في المرحلة المقبلة التي تتأهب لاستقبال تطورات مهمة من شأنها أن تؤدي إلى تغيير معادلات النفوذ وإسناد أدوار إلى كيانات واستحداث مشاريع مجتمعية مسلحة جديدة.
◙ التحدي الذي تواجهه هيئة تحرير الشام يختلف عن ذلك الذي واجهته وهي تسوق نفسها ككيان معتدل محلي ومفارق لأيديولوجيا وحركية الجهاد العالمي
وينظر قادة هيئة تحرير الشام إلى ملفات في حجم التطبيع العربي – التركي، والسوري – التركي، والسوري – العربي، علاوة على رغبة الولايات المتحدة في تأمين نفوذها وحضورها داخل سوريا في مواجهة محاولات تقليصه من قبل روسيا وإيران وبروز مشروع الحزام العشائري العربي كحل إضافي لا غنى عنه بجانب كيان قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الأمر الذي تعتبره تحولات كبرى ينبغي مسايرتها وإثبات الحضور في تفاصيلها وإلا باتت على هامش الأحداث بما يقود لاحقًا إلى الاستغناء عنها.
وتمتلك هيئة تحرير الشام في الوقت الحالي ملفين هما بمثابة ورقة ضغط سياسي توازي قوتها العسكرية، وهو ما لا يخولها فحسب للحصول لاحقًا على الاعتراف والتطبيع الدوليين، إنما يجعلها شريكًا موثوقًا به في الداخل السوري بالنسبة إلى الغرب، وهما ملفا إثبات الجدارة في مكافحة داعش واستحقاق الانضمام إلى مشروع الحزام العشائري العربي.
وعلى الرغم من الدور الذي لعبته القوات الكردية في الشمال السوري في سياق جهود التحالف الدولي في مكافحة داعش، إلا أن قسد تعمد بين الحين والآخر إلى الضغط على دول التحالف لابتزازها سياسيًا وماليًا من منطلق ما تمتلكه من أوراق بحكم الأمر الواقع بشأن ملف تنظيم الدولة في سوريا.
واستغلت الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا التابعة لقوات سوريا الديمقراطية انعقاد الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لهزيمة داعش في جدة بالسعودية في يونيو الماضي، لتعلن عن البدء بتقديم السجناء الأجانب لديها من مقاتلي داعش إلى محاكمات وصفتها بـ”العلنية والعادلة والشفافة”.
ولا يعدو هذا الإعلان بالنظر إلى الرفض الدولي لفكرة إنشاء محكمة ذات طابع دولي أو رعاية دولية لمحكمة محلية ضمن سلطة الإدارة الذاتية كونه وسيلة للضغط السياسي على الدول الغربية لاسترداد بعض مواطنيها أو تأمين دعم وتمويل إضافيين لقسد.
ولا تملك قسد المسوغ القانوني أو الهيكل القضائي الذي يخولها عقد هذه المحاكمات، ولا توجد رؤية شاملة للتعامل مع مصير من تتم تبرئتهم في ظل رفض دولهم إعادتهم. ووصل مدى استغلال قوات سوريا الديمقراطية لملف داعش، والتحكم في العديد من خيوطه، إلى درجة إطلاقها سراح بعض قادة داعش البارزين المطلوبين دوليًا، وآخرهم غسان أحمد الهملو، الجمعة، بعد أن اعتقل قبل أسبوعين من منزله ببلدة ذبيان شرق دير الزور في عملية شارك فيها طيران التحالف الدولي، وأعلنت قسد حينها أنها اعتقلت أميرًا في التنظيم.
◙ أبوحذيفة الأنصاري وصف في تسجيل صوتي الهيئة صاحبة النفوذ العسكري في إدلب بـ”العمالة والردّة”
وفي حين تظهر قسد بعض صور التراخي مُمعنة في ابتزاز حليفتها الولايات المتحدة، تبدي هيئة تحرير الشام في المقابل إخلاصًا مضاعفًا في سياق إثبات خروجها علنا من حراك الجهاد العالمي، واستهداف القادة البارزين لداعش وصولًا إلى القتل المباشر لخليفته الرابع وأسر متحدثه.
وتفوقت هيئة تحرير الشام في سياق مكافحة داعش وتقليص نفوذ التنظيم داخل المساحات التي تسيطر عليها في الشمال السوري على حركة طالبان الأفغانية التي ثبت أنها نكصت في عهودها، ما جعل فرع داعش خراسان منذ سيطرتها على الحكم ينتشر في العاصمة كابول ومعظم المناطق الأفغانية وزادت أعداد منتسبيه، علاوة على الدور الذي يقوم به قادته في تطوير قدرات تنظيم الدولة لتنفيذ هجمات على مستوى دولي.
وبجانب ورقة إثبات الجدارة في التصدي لداعش، يركز أبومحمد الجولاني وقادة هيئة تحرير الشام على تسويق أنفسهم في ظل تنامي الحديث عن حرص واشنطن على تنفيذ مشروع “الحزام العشائري العربي” عبر تعزيز التمثيل العربي من خلال تكرار الحديث عن الهوية السنية والعربية للهيئة ودورها في التصدي للنفوذين الإيراني والروسي.
ولا تفكر الولايات المتحدة في تشكيل فصيل عربي خالص على حساب الإدارة الكردية شرق الفرات، إنما في ممارسة ضغوط على قسد عبر تعزيز التمثيل العربي ودعمه وتوسيع المشاركة العربية في المنطقة وإعادة إحياء دور العشائر المهمش في شرق سوريا.
ويسهم هذا المشروع في حماية الحضور العسكري الأميركي وسط تواتر أحاديث عن عمليات عسكرية تحضر لها إيران لمهاجمة القواعد الأميركية في المنطقة التي تشهد توترًا مستمرًا بين الولايات المتحدة ومنافسيها وتحشيدًا عسكريًا مستمرًا على ضفتي الفرات الشرقية والغربية.
ومن شأن تنفيذ هذا المشروع تغيير خارطة النفوذ في سوريا وتأمين الوجود والنفوذ الغربيين عامة عبر تسليح عدد من العشائر والقوى والفصائل العربية، بدءًا من محاذاة المثلث الحدودي بين سوريا والأردن والعراق جنوب سوريا وصولًا إلى الحدود العراقية – السورية وامتداد البادية.
وصدرت شرارة هذا المشروع الأولى عن وزارة الدفاع الأميركية في مارس 2020 في تقرير انتقد إقصاء المكون العربي عن مفاصل اتخاذ القرارات داخل المؤسسات العسكرية والسياسية والمدنية التابعة لمجلس سوريا الديمقراطية (مسد) الجناح السياسي لـ”قسد”، وهو يستهدف رقعة جغرافية تتقاسم السيطرة عليها أميركا وروسيا وإيران وتركيا.
ولا تكفي الجهود والتعزيزات العسكرية التي أضافتها قوات سوريا الديمقراطية بالضفة الشرقية من نهر الفرات شرق محافظة دير الزور، مع ما أوردته تقارير عسكرية أميركية بشأن وجود تنسيق بين القادة العسكريين الروس والحرس الثوري الإيراني حول خطط طويلة المدى للضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها من سوريا.
وعلاوة على عدم الوثوق في تحقيق انتصارات ميدانية خلال المواجهات المفترضة بين قسد والميليشيات الإيرانية التي تسيطر على غرب الفرات، هناك انقسامات داخل قوات سوريا الديمقراطية وخلافات مع مكونات عشائرية سنية وعربية فاعلة مثل “مجلس دير الزور العسكري”.
وأعلن قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل رفضه لوجود ما سماه “مندوبا ساميا” من قسد في دير الزور، مشبهًا سياسة قسد في المنطقة بسياسة الاحتلال الفرنسي سابقا، مطالبًا بأن يحكم المحافظات ذات الطبيعة العشائرية أبناؤها.
◙ هيئة تحرير الشام تفوقت في سياق مكافحة داعش وتقليص نفوذه داخل المساحات التي تسيطر عليها في الشمال السوري على حركة طالبان الأفغانية
وحرصت هيئة تحرير الشام على تلبية مطلب التماسك العشائري على الأرض من خلال كسب تأييد الوجهاء والعشائر من أبناء المنطقة وتلبية احتياجاتهم المعيشية، مانعة أي مظاهر تسلح داخل المدن والبلدات. وقلصت الهيئة من مظاهر الحكم الأيديولوجي ووضعت في الأولوية تعويض الحاضنة الشعبية بالمتاح من الخدمات في مجالات المواصلات والغذاء والأمن عن التجاوزات التي أنهكتها في السابق عبر الحركات والفصائل المسلحة الأخرى.
ودمجت الهيئة ما كان يُعرف بالحسبة في وزارة الداخلية بحكومة الإنقاذ، وأعادت ملكية الأراضي التي جرى في السابق حرمان أصحابها منها وتعود ملكيتها إلى أبناء الأقليات المسيحية والدرزية. وتحاول هيئة تحرير الشام إثبات جدارتها في الانخراط في تشكيلات الحزام العربي من خلال توطيد العلاقات مع العشائر، مقارنة بالخطوط الفاصلة التي تضعها قسد لمنع التقارب والتلاحم مع المكون العربي، حيث سبق وحلت لواء “ثوار الرقة” الذي كان حليفًا لها في حربها ضد داعش.
وتحتاج الولايات المتحدة إلى تدشين نهج مشترك مع تركيا تجاه سوريا، وهو ما لا يمكن أن يتحقق عبر قوات سوريا الديمقراطية أو وحدات حماية الشعب التي تعاديها أنقرة وتصنفها كمنظمة إرهابية. ولن يتحقق هيكل مسلح من العرب السنة في مناطق قسد وفق ما تخطط له واشنطن إلا بالتعاون والتنسيق مع تركيا عبر جهود مباشرة وغير مباشرة من الفصائل والكيانات الموالية لها في الشمال السوري، وضمنها الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام.
وتخشى الولايات المتحدة أن تؤدي شراكتها مع “وحدات حماية الشعب” الكردية دون تطوير وامتلاك أدوات ضغط تحول دون مواصلة سياسة التراخي والابتزاز إلى عزلها في سوريا وصولًا إلى اضطرارها للانسحاب مانحة النصر في النهاية لروسيا وإيران.
وتحرص هيئة تحرير الشام على إثبات الحضور في هذين الملفين الرئيسيين (مكافحة داعش ومشروع الحزام العربي العشائري) لتكريس وجودها كرقم مهم في معادلات المرحلة المقبلة، وكيان أقرب إلى تحقيق التوافق الأميركي – التركي وأكثر قابلية للانخراط في هيكل مسلح من العرب السنة القبليين، وأكثر مصداقية في التصدي لتنظيم الدولة.
المصدر العرب