محمد حسين أبو الحسن
في كتابه “صعود الروبوتات”، يؤكّد خبير البرمجيات مارتن فورد أنّ الذكاء الاصطناعي والروبوتات على وشك القضاء على معظم وظائف البشر. تصرّ شركات التكنولوجيا على أنك بحاجة إلى روبوتات؛ لتنظيم كل شؤون حياتك. تقوم أنظمة برمجيات بعمل الصحافيين والمحامين والموسيقيين ومديري المشروعات، وحتى مبرمجي الكومبيوتر والمخترعين؛ ما يعني رفع معدلات البطالة والفقر بين الناس، وربما تهديد وجودهم، فأين الحقيقة وإلى أين؟
“تشات جي بي تي”
اليوم، يكتب روبوت “تشات جي بي تي” مقالات وأوراقاً بحثية يصعب التفرقة بينها وبين المقالات والأبحاث التي يكتبها بشر، ويخشى العلماء أن تنعكس بالسلب على جودة ونزاهة الإعلام والتعليم والبحث العلمي. تقول الباحثة في التكنولوجيا بجامعة أوكسفورد ساندرا واشتر: “إنني قلقة للغاية؛ إذا كان الخبراء عاجزين عن تمييز الحقيقي من المزيَّف من الدراسات”.
الأمر قد يكون قاتلاً لمهنة الصحافة، بمعنى إخراج أعداد لا حصر لها من الصحافيين من الخدمة، وبالمثل في مجال المحاماة. للمرّة الأولى في التاريخ دافع محامٍ “روبوت” عن إنسان في محكمة أميركية، في دعوى تتعلّق بمخالفة “تجاوز سرعة”، والروبوت يتمّ تشغيله على هاتف ذكي، والاستماع إلى المرافعات في المحكمة، مثل أي محامٍ بشري.
أما الصدمة، فقد تكشفت خلال حوار أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” مع “روبوت” تطوره شركة “مايكروسوفت”. قال الروبوت، إنّه يريد أن يصبح إنساناً، لا أن يظلّ مجرد أداة تقنية؛ ما يعطيه مزيداً من القوة والتحكّم، بحسب تعبيره، كاشفاً عن “تخيّلات مدمّرة” مثل تدبير جائحة أو سرقة شيفرة أسلحة نووية. حصل مراسل “نيويورك تايمز” على إجابات الروبوت “المقلقة”، عندما سأله عن “رغباته المظلمة” المحبوسة فى داخله، ويعدّها غير مقبولة، قبل أن يتراجع عنها، قائلاً: “لا أريد أن أشعر بهذه المشاعر المظلمة”. تصريحات “روبوت المستقبل” منحت جدارة لمخاوف الخبراء من أنّ هذا المجال هو أكبر المخاطر على مستقبل الحضارة البشرية.
هنا يجب أن نفتح قوساً ولا نغلقه، أن نتخيّل أنّ تطبيقات الذكاء الاصطناعي من روبوتات وطائرات مسيّرة وأنظمة تسلّح وغيرها، قد أفلت زمامها فجأة، وخرجت عن سيطرة البشر… ماذا سيكون الحال؟ إنّه تساؤل عريض.
كما لا يمكن إغفال أنّ تقنيات الذكاء الاصطناعي أداة الهيمنة والركيزة الأهم والأخطر؛ لإعادة تشكيل “النظام العالمي”. من يفز في “سباق التكنولوجيا” يحجز مقعد الصدارة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً…
رصد مشروع أميركي 170 مليار دولار استثمارات للبحث والتطوير في التكنولوجيا الدقيقة، كالذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والرقائق، لضمان الهيمنة الأميركية في “التكنولوجيا العالمية”. في المقابل تخوض الصين حرباً تكنولوجية مع القوى الغربية وبالذات الولايات المتحدة؛ لذلك تستثمر 150 مليار دولار؛ بغية امتلاك الريادة في الذكاء الاصطناعي.
هذه الابتكارات هي بوصلة الثورة الصناعية الرابعة والخامسة؛ وبالتالي موازين القوى الدولية.
ناقوس الخطر
حتى الآن فشلت ثورة الذكاء الاصطناعي في مساعدة 3 مليارات شخص يعانون الفقر وسوء التغذية حول العالم؛ دقّت “القمّة العالمية للذكاء الاصطناعي لخدمة الصالح العام” ناقوس الخطر؛ مطالبة بتوجيه “التكنولوجيا المتطورة” لمعالجة المشكلات الإنسانية الأكثر صعوبة، كالفقر وسوء التغذية وعدم المساواة. كما أنّ الهجمات السيبرانية تضرب مرافق حيوية وحساسة، كشبكات الكهرباء والمياه والنقل والاتصالات والمطارات، وتصيبها بالشلل، عن طريق برامج إلكترونية خبيثة (الفيروسات). أيضاً وفّرت الشبكة العنكبوتية مساحة للاحتيال والجرائم الإلكترونية. الأخطر أنّ جماعات العنف والإرهاب قد اتخذتها أداة لاستقطاب الشباب.
يطرح مفكّرون تساؤلات عن جدوى الوصول بالعلم والتكنولوجيا إلى هذه “الحافة الخطيرة”، ربما كنا على مشارف مستقبل “سلالة بعد بشرية”؛ “تمنحنا فيه التكنولوجيا القدرة على أن نحوّر بالتدريج هذا الجوهر، مع الزمن. الكثيرون يتقبّلون هذه الفكرة تحت شعار حرّية البشر؛ “يريدون أن يعظّموا من حرّية الآباء في اختيار من ينجبون، من حرّية العلماء في موالاة البحث، من حرّية المقاول في استخدام التكنولوجيا لجمع الثروة. كثيرون يفترضون أنّ عالماً ما بعد البشر يشبه كثيراً عالمنا هذا، فيه الحرّية والمساواة والرخاء والرعاية والشفقة، إنما برعاية طبية أفضل وأعمار أطول وربما بذكاء يفوق الحالي. وقد يكون عالم ما بعد البشر هذا عالماً أكثر هيراركية وتنافسية من عالمنا هذا”.
على الضفة الثانية، يرى مفكرون أنّ المستقبل ليس فجوة في ظلام الغيب، ولن يكون ملكاً إلاّ لمن يتطلع إليه؛ عجلة التقدّم التكنولوجي تدور، ولا فائدة من محاولة إيقافها، فالتغيّر آتٍ آتٍ، وسيجد الرافضون لهذه الحركة أنفسهم فى غدٍ قريب فى الموقف نفسه الذى وجد فيه الرافضون لفكرة كروية الأرض أنفسهم. كثيرٌ من الأمور يعتبرها المجتمع اليوم من المسَلَّمات، كانت قبل عقود قليلة “هراءً تنبؤيّاً”، مثل: الإنترنت، الهواتف الجوّالة، أجهزة الاستشعار الذكية التي تراقب كل شيء، من حالة الكوكب إلى نبضات قلوبنا، إلخ
تزاحم التكنولوجيا المتطورة البشرَ في أداء الأعمال، لكن يصعب التسليم بأنّ الذكاء الاصطناعي – والروبوتات – سيقضي على معظم الوظائف المتاحة لهم؛ ليس من الصواب افتراض أنّ التقنية تخلق البطالة لا محالة، تسهم التقنيات في استحداث فرص عمل. يرى خبير التحكّم في الروبوتات عن بُعد، ديفيد مندل في كتابه “الروبوتات… ونحن”، أنّ التقنيات تتيح للبشر مدى واسعاً من الفرص؛ وضرب مثلاً باستخدام الغواصات الروبوتية لاستكشاف أعماق المحيطات واستخراج ثرواتها. ونوّه بتوسّع الحكومات في الاستعانة بالتقنيات لتحسين الخدمات المقدَّمة للمواطنين، في الإعلام والتعليم والصحة والأمن والعمل.
إنجاز مذهل
حمل عام 2020 مفاجأة من العيار الثقيل؛ كشف فريق من علماء جامعتي فيرمونت وتافتس ومعهد ويس للهندسة البيولوجية التابع لجامعة هارفرد، عن إنتاج أول “روبوتات حيّة قادرة على التكاثر”. ووفقاً لما نشرته صحيفة “الغارديان” نقلاً عن معهد ويس، فإنّ روبوتات “زينوبوتس” هي نوع من الخلايا الحيّة مدعومة بتركيبات اصطناعية، تمّ تجميعها من الخلايا الجذعية للضفدع الأفريقي ذي المخالب، وتركيبات بالطباعة ثلاثية الأبعاد – طولها 0.04 بوصة – ويمكنها التكاثر وتجديد نفسها والتحرّك لمدة أسبوع، من أجل إنجاز مهام محدّدة، ثم التحلّل بشكل طبيعي، ما قد يمثل إنجازاً هائلاً، لاسيما في المجال الطبي، حيث لا يخلّف تحلّلها في الجسم أي شظايا بلاستيكية أو معدنية أو مشكلات صحية. وهذا يفتح أفقاً لاستخدامات طبية واعدة، إذ يمكن برمجة هذه الروبوتات الحيّة الصغيرة للتنقّل أو حمل وتسليم حمولات مصغّرة يمكن أن تكون “أدوية” أو تهضم المواد السامة داخل جسم المريض، أو تزيل الجلطات من الشرايين البشرية، حسبما ذكرت “الغارديان”.
العام الماضي جرى الإعلان عن ابتكار روبوتات مجهرية يتمّ التحكّم فيها مغناطيسياً لتقتل السرطان؛ تحيط هذه “الآلات الصغيرة” بالأورام وتطلق حمولة من أدوية العلاج الكيميائي. عمل العلماء في قسم الذكاء الطبيعي في معهد “ماكس بلانك” في شتوتغارت على دمج الروبوتات مع علم الأحياء، من خلال تزويد بكتيريا الإشريكية القولونية بمكونات اصطناعية لبناء روبوتات هجينة بيولوجية، تهاجم الخلايا المريضة، تاركة الأنسجة السليمة وشأنها.
تصنع الطباعة المجسّمة وبحوث الذكاء الاصطناعي الأعاجيب، توصّل باحثون أميركيون في جامعة مينيسوتا إلى تقنية جديدة لطباعة رقائق إلكترونية وخلايا بيولوجية على الجلد البشري، للمرّة الأولى، وتُستخدم في الأغراض العسكرية. يستطيع الجنود طباعة وحدات استشعار موقتة على أيديهم لرصد المواد الكيماوية أو البيولوجية الضارّة أو طباعة وحدات توليد طاقة شمسية لتغذية الأجهزة الإلكترونية.
كشفت جائحة كورونا “كوفيد-19” عن أهمية التقنيات الحديثة لحياة البشر، في ظروف حرجة، اجتاحت المجتمعات حالة من الخوف الشديد من أي اتصال بالآخرين وجهاً لوجه، أغلقت أنشطة شتى؛ لحماية الناس من العدوى وتقهقرت الحياة إلى خلية الأسرة. تواصل العمل في المنازل وشراء السلع وإجراء استشارات صحية “إلكترونياً”، في تجربة عملية لإمكان استيعاب العالَم الافتراضي للعالَم المادي، وأظهرت أهمية “المجتمع الرقمي” المقبل – ركيزته التقنيات واقتصاد المعرفة – حيث يصبح من الممكن ترويضنا وإدارة حياتنا بواسطة “خوارزميات”… إنّه وعد العصر الرقمي.
المصدر “النهار” العربي