طاهر شمسان
لماذا كل هذا التشهير الهستيري بجامعة تعز؟ ما هو الجرم الذي ارتكبته هذه المنارة حتى تثور عليها ثائرة عبد الله أحمد العديني ومن على شاكلته ممن يهددون السِّلم الاجتماعي داخل المدينة المعذبة بالحصار؟ ألا يعلم هؤلاء أن للدين سلطة على الناس وأن سوء استعمالها هو فساد وإفساد في الأرض كبير؟ هل يعي هؤلاء حجم المخاطر الناجمة عن الاستقواء بالمقدس في الصراع السياسي حتى على المقدس نفسه؟ إلى متى سنظل صابرين على العبث بالمقدس من قبل أناس اعتادوا على الإفتاء في كل القضايا بما في ذلك القضايا الواقعة خارج معارفهم وأفهامهم ومحفوظاتهم؟ لماذا لم نسمع من هؤلاء كلمة واحدة بشأن ما يجري في جامعة صنعاء من فصل تعسفي بين الطلاب والطالبات لأسباب ليس لها وجاهة لا في العقل، ولا في النقل، ولا في المجتمع؟ هل ما يقوله هؤلاء عن مركز دراسات المرأة في جامعة تعز صحيح أم أن الكذب عندهم وسيلة قبيحة لغاية أقبح؟ هل صحيح أن الجندر يلغي الفروق البيولوجية بين الذكر والأنثى ضدا على الفطرة كما يقولون أم أن هذا القول يندرج في إطار التحريض على العنف وإقلاق السكينة العامة في ظل انهيار الدولة وضعف السلطة المحلية وشلل أجهزة الضبط القضائي وسبات الأحزاب وغياب الرأي العام المستنير؟
*قبل الإجابة على هذه الأسئلة سنبدأ أولاً بتوضيح مفهوم الجندر بعيدا عن المعاني الغريبة التي ينسبها إليه المتطرفون في تعز بدوافع اجتمع فيها الجهل والتدليس والخداع والتضليل دون أدنى حياء حتى من الله الذي نصَّبوا أنفسهم وكلاء له ومتحدثين باسمه وكأنه شيطان على صورتهم ووفق أهوائهم وليس قوة غير منظورة مفارقة للكون ومتعالية على قبحهم وعلى صغائرهم وعلى مشاريعهم المعادية لخير المجتمع وسلامه.*
*أولاً: في مفهوم الجندر (النوع الاجتماعي).*
الجندر هو “ما يحدده كل مجتمع للذكر والأنثى من أدوار معتمدا على ما بينهما من فروق تشريحية متجاهلا حق المساواة بينهما في منظومة الحقوق والواجبات”. ومن أجل إزالة ما قد يبدو من غموض على هذا التعريف لا مناص من الاسترسال في الشرح والتوضيح.
*للإنسان بُعدان اثنان أحدهما بيولوجي، طبيعي، خِلْقي، تكويني، وجودي لا يشكله المجتمع وإنما يولد به الناس كافة. وهذا بعد ثابت ملازم للإنسان جينياً، ويسمى الجنس (SEX).*
وفي هذا البعد يولد الإنسان ذكرا أو أنثى أو ثنائي الجنس (خنثى). وبحسب إحصاءات أجرتها مراكز أبحاث علمية ونشرتها مجلات متخصصة فإن 96% من أفراد المجتمع هم مغايرون جنسيا حيث لا يميل الذكر إلا إلى الأنثى ولا تميل الأنثى إلا إلى الذكر، وهذا هو الوضع الطبيعي، بينما 4% تقريبا من أفراد المجتمع يشذون عن هذه القاعدة، وهم إما مثليون-بغير إرادتهم في الغالب-، أو أن الذكر فيهم يرى نفسه أنثى والأنثى ترى نفسها ذكرا وكل منهما يعيش حالة اضطراب بيولوجي ونفسي لا ينتهي إلا بتدخل جراحي لتصحيح الجنس.
*أما البعد الآخر للإنسان فهو اجتماعي ثقافي لا يولد به الناس وإنما يشكله المجتمع. وهذا بعد عَرَضِي مكتسب ومرتبط بالاجتماع والعادات والتقاليد وبالثقافة والتربية … الخ. وكل ما يتعلق بهذا البعد متغير من مجتمع إلى آخر ومن زمن إلى آخر داخل المجتمع الواحد.*
ومركز دراسات المرأة في جامعة تعز يهتم فقط بالبعد الثاني الاجتماعي الثقافي المتغير وليس له علاقة بالبعد الأول البيولوجي الثابت. فلا المغايرة الجنسية ولا المثلية الجنسية ولا تصحيح الجنس من الموضوعات التي تهم هذا المركز ولا حتى من بعيد.
إن مجال اهتمام هذا المركز هو الأدوار التي يحددها المجتمع للذكر والأنثى. وبمعنى أوضح يهتم مركز دراسات المرأة بالمساواة بين الرجال والنساء في حقوق وواجبات المواطنة، ويرى أن أسباب عدم المساواة هي أسباب اجتماعية ثقافية متغيرة وليست أسبابا بيولوجية ثابتة. فالذي يمنع المرأة من تولي الولاية العامة-على سبيل المثال- ليس الحيض والنفاس ولا الحمل والولادة وإنما الاجتماع والثقافة.
*والعلم الذي كشف عن هذه الحقيقة وميز بين البعدين البيولوجي والاجتماعي الثقافي في تكوين الإنسان، وأخضعهما للبحث والدراسة وكشف عن خصائصهما وما بينها من فروقات، وبَيَّنَ ما هو ثابت وما هو متغير هو علم “الجندر”. وعلم الجندر حقل معرفي ضيق ينتمي إلى حقل أوسع هو الأنثروبولوجيا التي تُدَرَّسُ في كل جامعات العالم.*
وتتلخص الفكرة المحورية لعلم الجندر في القول بأن المجتمع تاريخيا هو الذي أعطى للإنسان الذي نسميه “ذكر” هويته الجندرية (أدواره) وأعطى للإنسان الذي نسميه “أنثى” هويته الجندرية (أدواره) اعتمادا على ما بينهما من فروق بيولوجية تكوينية ثابتة. وبناء على الهوية الجندرية التي أعطاها لكل من الذكر والأنثى قرر المجتمع ما يلي:
(1) إن الذكر أفضل من الأنثى.
(2) إن الذكر إنسان درجة أولى والأنثى إنسان درجة ثانية.
(3) إن الذكر صاحب عقل أكمل والأنثى صاحب عقل أنقص.
(4) إن الذكر يمتلك القدرة على التدبير والأنثى لا تمتلكها.
وكل هذا التمييز تم اعتمادا على الفروق البيولوجية التكوينية بين الذكر والأنثى، أي على أساس الجنس. وبما أن الفروق البيولوجية التكوينية بين الذكر والأنثى تتسم بالثبات وعدم التغيير فإن التمييز الذي قام على أساسها يجب أن يتسم هو الآخر بالثبات وعدم التغيير، وعلى المرأة أن ترضى بما فرضه الاجتماع والثقافة عليها تاريخيا وأن تعيش أوضاعا دونية إلى يوم القيامة لمجرد أنها أنثى تحيض وتحمل وتولد. لكن علم الجندر رفض هذه القسمة، وتكمن مأثرة هذا العلم في القول بأن أساس التمييز ضد المرأة ليس الفروق البيولوجية التكوينية الثابتة بين الذكر والأنثى وإنما أساس التمييز هو عوامل اجتماعية ثقافية عَرَضِية متغيرة تستدعي بالضرورة إزالة كل أشكال التمييز ضد المرأة على طريق المساواة الكاملة بينها وبين الرجل في حقوق وواجبات المواطنة، وليس في الجنس. وقد مثل هذا القول تحولاً معرفيا نوعيا في سلَّم التطور العقلي والرقي الأخلاقي للإنسان.
*إن المجتمع إذَنْ-وليس البيولوجيا-هو العامل الحاسم في اختلاف الأدوار بين الذكور والإناث بكل ما يترتب على هذا الاختلاف من مظاهر التمييز التي نراها ضد المرأة. غير أن الإقرار بهذه الحقيقة ليس بالأمر الهين الذي يمكن أن تقبله بسهولة أية ذهنية تقليدية نشأت على قراءة أحكام فقه المرأة خارج سياقاتها التاريخية واعتادت النظر إلى الفروق في الأدوار الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بين الرجال والنساء على أنها من فعل الطبيعة وأصل الخلقة، وبالتالي تنظر هذه الذهنية إلى خطاب المساواة بين الرجال والنساء في حقوق وواجبات المواطنة على أنه “طمس للفطرة” بحسب تعبير مهرَّج صغير بدرجة داعية يخطب في بعض مساجد تعز داعيا الأميين وأشباه المتعلمين إلى الثورة ضد الجامعة حتى لا يستحقون العقاب الإلهي الذي استحقه في الأزمنة الغابرة قوم لوط، وكأن جامعة تعز وكر لإشاعة الفاحشة بين الناس وليس منارة للعلم والمعرفة.*
والسؤال الموجه للقائمين على السلطة المحلية في تعز: هل يوجد منكر أكثر من هذا الذي يجري تصديره باسم الله ومن داخل دور العبادة؟ ما هو تقديركم لما يجري على مرأى ومسمع منكم؟ هل تنتظرون إلى أن يقع الفأس في الرأس؟
تأسيسا على القول بأن التمييز ضد النساء هو من صنع الاجتماع والثقافة المتغيرين فإن الأحكام التي وضعها الشارع لتلك الفروق لا بد أن تكون بالضرورة متغيرة، وفي هذه الحالة تبرز أمامنا أسئلة من قبيل: هل قوامة الرجال على النساء مطلقة أم مقيدة؟
والجواب: إذا كانت المرأة بحكم التنشئة والتربية أقل من الرجل فكرا وثقافة ووعيا فالقوامة للرجل، أما إذا كانت المرأة بحكم التنشئة والتربية أكثر من الرجل في الأمور المتعلقة بالاجتماع والفكر والثقافة فإن القوامة لها ليس فقط في البيت وإنما أيضا في الشأن العام. وقد رأينا كيف أن المرأة تستطيع أن تدير دولة من أكبر اقتصاديات العالم، وما ألمانيا وبريطانيا عنا ببعيد.
*طبعا من غير المستبعد أن ينبري من يقول إن مارجريت تاتشر في بريطانيا وأنجيلا ميركل في ألمانيا حالتان استثنائيتان لا يبنى عليهما، والجواب: الأمور البيولوجية التكوينية الثابتة لا تقبل الاستثناء الذي لا يكون إلا في الأمور الاجتماعية والثقافية المتغيرة.*
وإذا علمنا أن الثقافة هي التي شكلت هوية الفرد الذي نسميه ذكرا وهوية الفرد الذي نسميه أنثى سيتضح لنا حينها بأن الدراسات الجندرية لا تهتم فقط بالأنثى وإنما بالذكر أيضا. فعلى سبيل المثال إذا كان الرجل من النوع الذي يتشاور مع زوجته في مختلف القضايا الخاصة والعامة فإن المجتمع المتحيز جندريا ضد النساء سوف ينظر إلى هذا السلوك على أنه نقص في الرجل وليس كمالا، بينما علم الجندر يرى عكس ذلك تماما. وعليه فالدراسات الجندرية جاءت لبيان كيفية تشكل هوية الفرد ذكرا كان أو أنثى، ولكن لأن المظلومية واقعة أساسا على الأنثى فقد جرت العادة أن نتحدث عن الدراسات الجندرية المرتبطة بالنساء بينما هي أعم من ذلك.
*من الفكرة المحورية التي قام عليها علم الجندر واضح أن هذا العلم لا يلغي الفروق البيولوجية الثابتة بين الذكر والأنثى وإنما يبرئها من التمييز ضد المرأة ويلقي بالمسئولية كاملة على البعد الاجتماعي الثقافي المتغير. وهذا موقف أخلاقي يفضح بدائية وهمجية عبد الله أحمد العديني ومن على شاكلته ممن يعتقدون أن أساس التمييز ضد المرأة هو البعد البيولوجي الثابت الذي قدَّره الله عليها إلى يوم القيامة.*
*أما التشهير بجامعة تعز وبمركز دراسات المرأة فأمر غير مستغرب من جماعة تربت على احتقار المرأة والنظر إليها كناقصة عقل ودين واعتبارها، مع الكلب والحمار، من مبطلات الصلاة. فضلا عن القول بأن معظم أهل النار هم من النساء، وأن المرأة خلقت من ضلع أعوج وأنها فتنة وغواية، وأن غاية صلاحها هو طاعة زوجها وتمكينه منها حين يطلبها للفراش وإلا لعنتها الملائكة حتى مطلع الفجر إذا نام غاضبا عليها …. الخ.*
*في صفحته على فيسبوك أعلن عبد الله أحمد العديني عن محاضرة سيلقيها في جامع الرضا الداعية القدير بلال غنام بعنوان “مركز جامعة تعز يقتل الهوية والثقافة والفطرة لأبناء تعز واليمن كلها”.*
وللتذكير هذا الداعية هو المهرج الصغير المشار إليه أعلاه، وقد استهل محاضرته (تهريجه) بالقول: إن الشيطان يزين الأسماء لأوليائه، فهو على سبيل المثال يسمي الخمر “مشروب روحي” مع أنه خمر، وهو يسمي القروض الربوية “مساعدات” مع أنها قروض ربوية، وهو يسمي الجنس “جندر” مع أنه جنس، وقس على ذلك.
وهنا أود أن أقول لبلال هذا: لا تتخذ من الشيطان شماعة تعلق عليها جهلك. فأنت مهرج يهرف بما لا يعرف، ومع ذلك يسميك عبد الله أحمد العديني “داعية قدير”، وعبد الله أحمد العديني بلطجي بدرجة واعظ، ومع ذلك تسميه أنت “عالم رباني”، والمساجد التي تنشطون فيها تحولت منذ سنوات طوال إلى مقار حزبية للاستقطاب والدعاية السياسية، ومع ذلك تسمونها “بيوت الله” فهل زيَّن لكما الشيطان هذه الأسماء أم أن الأمر لا يعدو كونه من حيل اللغة؟
*وحتى لا يعتقد القارئ أننا نتجنى على بلال ونصفه بما ليس فيه سوف نقتبس من كلامه التعريف الذي قدمه للجندر. يقول هذا المهرج: “الجندر معناه أن الإنسان يُخلَقُ أنسانا وبعد ذلك يختار أن يكون ذكرا أو أن يكون أنثى” ثم يضيف قائلا: “الجندر يعني إلغاء الفوارق بين الذكر والأنثى حيث يمكن للمرأة أن تمثل دور الذكر ويمكن للذكر أن يمثل دور الأنثى”.
وبما أني قد أوضحت مفهوم الجندر أعلاه فلست بحاجة للرد على هذا الهراء الذي لا يقبله عقل. ولكن إذا كان هذا البلال قد أورد هذا التعريف معتقدا أنه التعريف الصحيح فإنه في هذه الحالة لن يكون مهرجا وحسب وإنما أيضا جاهل غارق في الجهل، أما إذا كان قد تعمد بهذا التعريف تشويه مفهوم الجندر في نظر جمهور جامع الرضا فإنه في هذه الحالة يكون مخادعا عديم الأخلاق.*
*كلمة لا بد منها عن عبد الله العديني:*
*عبد الله أحمد العديني واحد من الناس الذين لا يعرفون حدودهم ولا يحترمون مسئولياتهم. فقد مضى على عضوية هذا الرجل في البرلمان زمن طويل، ومع ذلك ما يزال إلى اليوم لا يعي ما معنى برلمان ولا كيف له أن يغير المجتمع من خلال البرلمان، وكل ما يقدر عليه هو أن يطلق لسانه ويتهم ويشتم ويقذف ويحرض وينشر خطاب كراهية ويلفت نظر الناس إليه بالإساءة إلى الآخرين. ولست أدري من أين لهذا الرجل أن يعرف المنكر الذي يدعي النهي عنه إذا كان لا يشعر أنه يمارس المنكرات بما يثيره من الضوضاء والتحريض والبلبلة.*
من غير شك أن عبد الله العديني كان يمكن أن يكون على غير ما هو عليه الآن من بلطجة لو كان لدينا مجلس نواب يعي مهامه ويعرف كيف يجعل مهمة أعضائه التشريع وليس التشنيع. ولذلك نسأل: ما دام عبد الله العديني غير مقتنع بمركز دراسات المرأة فلماذا لا يعمل ضد هذا المركز من خلال البرلمان الذي يتقاضى منه راتبه؟ لماذا لا يتقدم إلى البرلمان بمشروع قانون يجرم مراكز دراسات المرأة ويمنع عملها مادام يراها أكبر منكر في تاريخ اليمن كما قال؟
أخير: لن يكتمل مشهد هذا المقال ما لم نطلع القارئ على عناوين عينة من أبحاث ودراسات المرأة ليحكم لنا أو علينا فيما نسبناه إلى العديني من تدليس وتضليل وافتراء وكذب:
(1) النساء في المجالس المحلية اليمنية: بحث ميداني وشهادات شفوية.
(2) الأوضاع القانونية للمرأة اليمنية وأهم حقوقها.
(3) تجربة النساء في الانتخابات النيابية في اليمن.
(4) جرائم الشرف في اليمن: العنف ضد النساء على خلفية قضايا الشرف.
(5) النساء والسياسة (رؤية دينية-إشكاليات وحلول)
(6) التمكين السياسي للمرأة في اليمن.
.