طارق عزيزة
كاتب سوري
عند تناول موضوع “تسييس الدين” في مجتمعاتنا وبلداننا الموصوفة بالعربية أو الإسلامية، سرعان ما تتبادر للأذهان الحركات الإسلامية المختلفة، أو ما يُعرف بـ “الإسلام السياسي” ومشتقاته وسلالاته من التنظيمات الجهاديّة. فالإسلاميون على اختلاف مشاربهم يرفضون فصل الدين عن السياسة، ورغم التنوّع الظاهري في أوساطهم وتعدّد مشاريعهم واختلاف أولوياتهم وأساليب عملهم، لكنّها في نهاية المطاف تصدر جميعاً عن رؤية ثابتة للإسلام، ترمي إلى تشميله قسراً كافة مناحي الحياة.
الإسلام عندهم “عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف”، وفق تعبير حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين وأحد روّاد ظاهرة تسييس الدين في عصرنا الحديث، وبالتالي يرفضون التمييز أو الفصل بين أمور الدين والدنيا، أو أن يقتصر نطاق الدين على العبادات والمسائل الروحية والأخلاقية وحيّز الإيمان الشخصي. من ذلك قول رئيس “الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين”، وأحد المرجعيات السنّية والإخوانية البارزة، يوسف القرضاوي: “الإسلام يرفض التقسيم المستورد للناس والمؤسسات إلى ما هو ديني، وما هو غير ديني؛ فلا انقسام للناس ولا للتعليم ولا للقوانين ولا للمؤسسات. وتقسيم شؤون الحياة إلى ما هو ديني، وما هو غير ديني، تقسيم غير إسلامي، وغير ديني، ليس من الإسلام في شيء”.
من المفيد الإشارة هنا أنّه لأسباب تاريخية وسياسية وحتى إعلامية ليس هذا مجال بحثها، كثيراً ما يذهب الظنّ ببعضهم أن الكلام أعلاه محصور بالإسلام السنّي فقط، مغالطة يجب التوقّف عندها. ذلك أنّه رغم كلّ ما بين الشيعة والسنة من اختلاف عقائديّ، وخلافات تصل أحياناً إلى التكفير المتبادل والاقتتال الطائفي؛ لكنّهم على قلب رجل واحد عندما يتعلق الأمر بتسييس الدين وتديين السياسة، فتراهم يحاججون بالمنطق ذاته الذي يمزج الحقلين معاً.
من أمثلة ذلك ما قاله المرجع الشيعي محمد حسين فضل الله: “لا يمكن أن يكون هناك دين بدون سياسة؛ لأن القيم الدينية ليست شيئاً معلّقاً في الهواء، وإنما هي شيء يعيش في عقل الإنسان وقلبه وحركته، يمثل في الواقع، ولذلك فإنّ ديننا سياسة وسياستنا دين”. والسيد فضل الله كان من المراجع الدينية لمنظمة “حزب الله”، إحدى أبرز حركات الإسلام السياسي الشيعي، حتى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية أدرجته مع الأمين العام للحزب على لوائح الإرهاب عام 1995. ولا بأس من التذكير بأن “حزب الله” ابن شرعي للخمينية، والأخيرة هي تجسيد نموذجي للمزج بين الدين والسياسة، وليس من المبالغة وصف الخمينية بأنّها انقلابٌ على ثورة الشعب الإيراني سنة 1979، فهذا الانقلاب أسّس لاستبداد سياسيّ/ ديني قضى على الأبعاد الشعبية والتحررية للثورة التي أسقطت ديكتاتورية الشاه.
والإسلاميون، من السنّة والشيعة، ضمن مساعيهم الحثيثة للوصول إلى السلطة، يركّزون دعايتهم السياسية الجماهيرية في أوساط المسلمين المتدينين من الشرائح المهمّشة والبسطاء الأقل تعليماً، ممن يستحوذ الدّين على حيّز كبير من وعيهم وسلوكهم. وهنا تعمل التنظيمات الإسلامية على استغلال ما للدين من سلطة على هؤلاء لاستقطابهم والتأثير في خياراتهم السياسية، تحت ذرائع وشعارات مغلّفة بزخرف الكلام الديني المنمّق والفتاوى المسيّسة، حتى يكاد الموقف السياسي للمرء أن يصبح في عرفهم جزءاً من التديّن!
ليس هذا الشكل الوحيد لظاهرة تسييس الدين؛ لأنها لا تقتصر على طلاّب السلطة وخصوم الأنظمة من الإسلاميين. حيث إنّه نظير ما يقوم به الإسلاميون من توظيف الإسلام في إطار سعيهم للسلطة، أو حتى في التحريض على الأنظمة بالاستناد إلى اعتبارات دينية ستصبّ آخر الأمر في خدمة دعايتهم السياسية، هناك في المقابل دور تقوم به طبقة رجال الدين المرتبطة بالأنظمة والسلطات الحاكمة، عبر المؤسسات الدينية الرسمية وملحقاتها، أو من يطلق عليهم “فقهاء السلطان”.
ويحفل التراث الإسلامي الضخم بأمثلة لا تنتهي مما تضمّه المدونة الفقهية ومصنّفات “السياسة الشرعية”، وسواها من “الآداب السلطانية”، التي تؤكّد دور “فقهاء السلطان” في تكريس هذه العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة. فهم يوظّفون الإسلامَ في الوجهة المضادّة، على النحو الذي يخدم مآرب السلطات ويزيّن أفعالها وسياساتها ويضفي عليها إهاباً من الشرعية الدينية، بما يضمن الإسهام في الضبط الاجتماعي والسياسي للمجتمع، عبر تكريس منطق الطاعة والرضا، والحيلولة دون تشكّل معارضة جدّية أو “خروج على الحاكم”، وكلذ ذلك على أسس شرعية وتخريجات فقهية.
ما سبق لا يعني أن تسييس الدين ظاهرة تختصّ الإسلام وحده؛ إذ يمكن أن تظهر في شتى الأديان والمذاهب ما إن يجري استثمار الإيمان الديني سياسياً، وتاريخ أوروبا شاهد على جدلية العلاقة وتشابكها ما بين الكنيسة الكاثوليكية والسلطة السياسية.
إنّ العلاقة بين من يمارسون السياسة متلطّين بالدين، وبين الدين هي علاقة استغلال انتهازية تجسّد ضرباً من النفعية أو البراغماتية في أشدّ معانيها سلبية، بصرف النظر عن اصطفافهم السياسيّ. لذا لن يكون من العجب أن تجد فئةً منهم تفتي بشرعية موقف سياسيّ ما، فيما تقدّم فئة أخرى “المسوغات الشرعية” والفتوى اللازمة للموقف النقيض. وهكذا يستخدم النص الديني ويؤوّل ويُفسّر بصور متناقضة بين الفريقين، مما يؤكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ الزجّ بالدين في حلبة الصراعات السياسية الدنيوية، وتوظيفه في خدمة الأهداف السياسية ليس شأناً دينيّاً البتّة، بل إنّه مفسدة للدين وللسياسة معاً.
نقلاً عن حفريات