عمرو فاروق
التفكك التنظيمي لجماعات “الإسلام السياسي”، وسقوطها على مستوى المنطقة العربية، لا يعني بحال انتهاء تغلغلها وتأثيرها بين القطاعات الشبابية، في ظل تطويع وسائلها للانتقال إلى حالة السيولة والتمدد الفكري.
رغم الإخفاقات الظاهرة في بنية هذه الجماعات، فإن الساحة العربية مقبلة على موجة جديدة من المد الديني المتطرف والعنيف، في إطار تماسكها الأيديولوجي، واعتمادها على “النيو ميديا”، في تمرير مشاريعها، وقدرتها على خلق دوائر بشرية متأثرة بخطابها الفكري والعقائدي.
الحديث عن محاولات دمج تيارات “الإسلام السياسي”، في مشروع الدولة القومية الحديثة، بدلاً من مناهضتها، لا يمت إلى الواقع بصلة، في ظل تبنيها استراتيجية الوصول إلى السلطة بوسائلها المختلفة، سواء من “أعلى”، بصدامها مع رأس الدولة وإطاحته، أم من “أسفل” بالتغلغل في أركان الدولة ومؤسساتها الحيوية والتنفيذية، تمهيداً لمرحلة “التمكين”.
ستشهد المرحلة المقبلة التخلي المطلق عن المشاريع التنظيمية في مقابل تعزيز التيارات والمجموعات الفكرية المعتمدة على “الفوضى العبثية” ( irregular irregularity) التي تدعم بناء المرتكزات الطائفية والمذهبية والحروب الأهلية، بعيداً من “الفوضى المنظمة” أو “الخلاقة”، (regular irregularity )، التي تم تدشينها منذ عام 2005، وفقاً لتصريحات وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس التي أعلنت أن الولايات المتحدة ستلجأ إلى نشر الفوضى الخلّاقة في الشرق الأوسط.
المسارات الجديدة لتوظيف تيارات “الإسلام السياسي” والجماعات الأصولية، تتجه بقوة إلى بناء خطوط فكرية افتراضية تعمل على التأثير في هوية الدول العربية والإسلامية من خلال مجموعات عنقودية يتم تحريكها وإدارتها بطريقة غير مركزية، من دون التركيز على بناء الكيانات التنظيمية الهيكلية.
النطاق الجغرافي المستهدف لسيناريوات توظيف تيارات “الإسلام السياسي” والمجموعات الدينية المتشددة، يشمل – في اعتقادي – عدداً من الدول الخليجية التي فشل استهدافها عن طريق التنظيمات والمسلحة والمركبة، ودول المغرب العربي، فضلاً عن الدولة المصرية التي ما زالت صامدة أمام محاولات توطينها بالتنظيمات الجهادية المسلحة، وتمكنت من اقتلاعها من داخل أراضيها.
الخطط الجاهزة المعتمدة على خلق السيولة الدينية المتطرفة، و”خلايا التماسيح”، أو “الذئاب المنفردة” غير الموجهة، في إطار “الفوضى العبثية”، تجعل التغيير السياسي والاقتصادي والثقافي من المسائل الممكنة في المنطقة العربية، عقب سقوط التنظيمات الراديكالية، وفشلها في تحقيق الخريطة الأوسطية الجديدة التي أعلن عنها مراراً على ألسنة الساسة الغربيين والأميركيين.
قبل وفاته في أيار (مايو) 2017، قدم مستشار الأمن القومي الأميركي زبغنيو بريجنسكي محاور الاستراتيجيات الأميركية في التعامل مع الشرق الأوسط، في مقالة نشرتها مجلة “The American Interest” تحت عنوان “إعادة النظام العالمي”، من أبرزها توظيف الأصولية الإسلامية في تحقيق دائرة المصالح الأميركية، تحت لافتة صحوة “الديموقراطية العالمية”، ما يعزز ويساهم في خلق انقسامات طائفية ومذهبية في العالم العربي والإسلامي، مع استمرار استراتيجية مكافحة الإرهاب، وإثارة الفوضى والحرب في المنطقة.
في كتابه “العدالة في الثورة والكنيسة” يقول جوزيف برودون، أحد منظري “اللاسلطوية”، إن الفوضى ليست غياب النظام أو الغوغائية أو عدم المسؤولية، بل الحالة التي يصل إليها مجتمع ما، وقد تطوّر حتى استغنائه عن أيّ نظام مفروض عليه بالقوة.
في أيار 2023، نشرت الشبكة البحثية “الباروميتر العربي”، المعنية بإجراء استطلاعات الرأي العام في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت على مدار السنوات الخمس الأخيرة صعوداً في معدلات انتشار المنهج الفكري لتيارات الإسلام السياسي بين الأوساط الشبابية.
وأوضح تقرير الشبكة، أن أيديولوجية “الإسلام السياسي”، تمتعت بحالة من الصعود عامي 2021-2022، داخل 15 دول شملها الاستطلاع البحثي، من بينها ليبيا والعراق وتونس ولبنان ومصر والسودان والمغرب والأردن، ما ينذر ببعث جديد أو عهد جديد لجماعات الإسلام السياسي خلال المرحلة المقبلة.
تمثل جماعة الإخوان المسلمين البوصلة في قراءة المشهد تجاه التحول لحالة السيولة الفكرية التي تتم حالياً، بعيداً من إشكالية الثقل الحركي والعبء التنظيمي، لما لها من دور وظيفي فاعل في بنية تيارات الإسلام السياسي، وجماعات التطرف الأصولي العنيف، فضلاً عن أنها الجماعة الأم التي خرجت من عباءتها عشرات التنظيمات التكفيرية المسلحة منذ تأسيسها عام 1928.
مشروع “الفوضى العبثية” الذي يتم تمريره حالياً يعتمد على المؤسسات الفكرية الافتراضية على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، وتستهدف في المقام الأول التأثير في الهوية العربية والدينية للأجيال الشبابية، في إطار خطاب ديني متشدد، وموجه عالمياً وليس محلياً، وينتج الآلاف من النماذج البشرية المؤهلة للتطرف الديني.
ولعل اللقاء الذي تم بين الرئيس التركي رجب أردوغان واتحاد علماء المسلمين، التابع للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، يدلل إلى ما طرحناه في ظل تضمنه مجموعة من المطالب، على رأسها تأسيس “جامعة إسلامية” عالمية تتنبى المنهج الأيديولوجي لجماعة الإخوان، على غرار “المؤسسة الأزهرية” في القاهرة، التي حاولوا اختراقها مراراً وتطويعها لخدمة مشروع الإرهاب والتطرف، لما لها من تأثير عالمي في مختلف دول العالم والإسلامي.
في مقالته “هل فشل الإسلام السياسي حقاً؟”، حاول راشد الغنوشي، رئيس “حركة النهضة” التونسية، قراءة مستقبل حركات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، والدفاع عن منطلقاته، قائلاً: “الإسلام السياسي ليس في حالة تراجع، بل هو بصدد إصلاح أخطائه والتهيؤ لطور جديد غير بعيد من الممارسة الأرشد للحكم، وإنه لا يحتاج إلى عشرات السنين ليسترجع فرصاً أكبر تنتظره في زمن الفضاءات الإعلامية المفتوحة”.
عملية إحياء تيار “الصحويون الجدد”، قائمة على التمدد الفكري دون الغطاء التنظيمي، في إطار تعميم “النموذج السلفي”، لتنفيذ مخطط وسيناريو الإغراق الديني المتطرف في جنبات المجتمعات العربية، من خلال الأكاديميات والمنصات المؤدلجة، والمتوقع أن يصل إلى أعلى درجاته بحلول عام 2025.
نقلاً عن “النهار” العربي