أحمد الباوي
كاتب مصري
ليس ثمة شكّ في أنّ مفهوم الحاكمية ظهر، أوّل ما ظهر، سياسياً، على لسان الخوارج أو الحَرَوْرية؛ عندما رفضوا التحكيم بين عليّ ومعاوية، فرفعوا شعارهم المشهور: “لِمَ حكّمت الرجال؛ لا حُكم إلا لله”، ليأتي بعد ذلك بقرون؛ المنظّر الباكستاني أبو الأعلى المودودي، فيتلقّف شعارهم، وينفي حاكمية البشر، مهما ارتكزت على قوانين ونصوصٍ دستورية، ولو تواطأ عليها البشر جميعهم، ويجعل الحاكمية الحقيقية لله وحده، بكل معانيها وتجلياتها، فهو “ليس مجرد خالق فقط، بل هو حاكم وآمِر”، فليس للإنسان مجالٌ في التشريعات الاجتماعية والسياسية والقانونية، بل ليس للأمة كلّها سلطة لا في التشريع ولا في التقنين؛ فالله هو مصدر السلطات جميعها لا الأمة.
والحاكمية لغة: مصدر صناعي، مادته (حكم)، وأشهر معانيها اللغوية (القضاء)، و(الحِكمة) بمعنى الحكم، وهو العلم والفقه والقضاء بالعدل، وأما في الاصطلاح؛ فإنّنا نجد لها صدى في التراث الإسلامي؛ فالجذر اللغوي (حكم) يرد في القرآن الكريم أكثر من مئتي مرة، بخلاف وروده في كثير من الأحاديث النبوية الشريفة، وكتب الفقه وعلم الكلام، تخصيصاً، لكن مصطلح الحاكمية لم يرد بمعنى سوسيوسياسي، ذي أبعاد قانونية، إلا على يد المودودي، في أربعينيات القرن الماضي؛ فهي تعني أنّ الله وحده هو مصدر جميع الأحكام الشرعية بما تتضمنه من تصور عقديّ عن الله والكون والإنسان.
*يجعل المودودي الدين مرادفاً للدولة ونظام المدنية كأنّه يريد تعريفه ليتوافق مع مشروعه السياسي بشبه القارة الهندية*
المودودي أوّل من صاغ مفهوم (الحاكمية) صياغة سياسية قانونية في كتبه الثلاثة: “الخلافة والمُلك” و”تدوين الدستور الإسلامي” و”المصطلحات الأربعة في القرآن”، مكرّساً هذا المفهوم كنظرية قانونية وسياسية ودستورية أصيلة في العقيدة الإسلامية، وكان أول من قعّد نظرية الحاكمية كقانون جامع يلتئم كل معاني الحياة والسلوك لدى المسلمين، وما فتئ يحشد في تلك الكتب الأدلة الكثيرة لتأييد هذا المصطلح؛ فهو يرى أنّ الإنسان، مهما بلغت قوته وحكمته، لا يستطيع تحمّل تبعة الحاكمية على كاهله، وإن قدّر له ذلك مؤقّتاً فسيعمّ الظلام، وينتشر الفساد في المجتمع، وتشمل ويلات الطغيان المجتمعات المجاورة.
ثم إنه يرى أن فكرة الحاكمية فكرة قانونية منظّمة بالمقام الأول لكيان المجتمع الإسلامي، ليصل من وراء ذلك إلى تأسيس فكرة (الخلافة الإسلامية)، التي هي بمثابة النيابة عن حاكمية الله ورسوله في الأرض، ويستدلّ على ذلك بالآية الكريمة: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ” (النور: 55)، وهو تعسّف في فهم الآية بغير ما نطقت به، وانتزاع لها من سياقها العضوي والتاريخي المرتبط بمناسبة نزولها، كما أنّه يجعل (الدين) مرادفاً للدولة ونظام المدنية، كأنّه يريد تعريف الدين ليتوافق مع مشروعه السياسي في شبه القارة الهندية، آنذاك، وهو الانفصال عن الهند وإقامة دولة الباكستان الإسلامية المستقلة.
أما سيد قطب، كما جاء، تحديداً، في كتابه “معالم في الطريق”؛ فقد انتقل بمفهوم الحاكمية انطلاقاً آخر، أشدّ وأعسر من مفهوم المودودي، وإن كان قد أفاد منه كثيراً؛ فقد كان ينعته بـ “المسلم العظيم” تارة، وبـ”المسلم الصادق” تارة أخرى، وكان يحيل القارئ باستمرار إلى كتبه.
*المودودي أوّل من صاغ مفهوم الحاكمية صياغة سياسية قانونية مكرّساً إياه كنظرية أصيلة في العقيدة الإسلامية*
كان قطب يرى أنّ كلّ حكم لا يقوم على أساس إفراد الله تعالى بالحاكمية، هو حكم غير إسلامي، ولو قامت عليه هيئة دينية، أو حمل عنواناً إسلامياً؛ فالله وحده له الحكم والأمر، وما دون ذلك جاهلية، واعتداء على سلطان الله تعالى في الأرض، ومن ثم فهو اعتداء على عباده، فأيّة حكومة لا تتحقق لها شرعية سياسية إلا إذا التزمت بحاكمية الله تعالى، ولم يكن قطب يريد من صكّ هذا المصطلح سوى تبرير إنتاج مشروع الإسلام السياسي لجماعة الإخوان؛ لمواجهة سياسات ضباط ثورة يوليو، ومشروعهم السياسي (الاشتراكية) الذي نعته قطب بأنّه “جاهلي”، و “طاغوت أرضيّ”، يقول نصر حامد أبو زيد: “إنّ طرح مفهوم الحاكمية بهذه الصورة يعكس ظروفاً شبيهة بتلك التي طرح فيها المفهوم أول مرّة، مع الفارق طبعاً بين الظرفين في الزمان والمكان وتعقد الواقع، لكنّه الصراع على سلطة الحكم، ولجوء أحد طرفي الصراع إلى نقله من إطار الصراع الأرضي إلى صراع ديني، يسمح له بتزييف وعي الناس، وتخديرها للوصول إلى السلطة، ومن الخطأ البيّن تصور أنّ الصراع الذي وقع بين الإخوان والثورة كان صراعاً حول الدين أو العقيدة، بل كان صراعاً حول السلطة السياسية”.
وكما روّج المودودي، فإنّ الحاكمية عند سيد قطب نظام إلهي ينتظم حياة الناس دون تدخّل بشري، ويهدف إلى الحكم بشريعة الله، وإنكار تحكيم شريعة غيره.
*قطب أراد من صكّ مصطلحي الجاهلية والحاكمية تبرير إنتاج مشروع الإسلام السياسي لجماعة الإخوان*
من هنا نعرف أنّ استمساك عناصر الإسلام السياسي بالخلافة؛ إنما هو لتطبيق تلك الحاكمية تطبيقاً كاملاً، من خلال خليفة يحكم بناء على حاكمية الله، الذي ولّاه وجعله نائباً عنه في الأرض، فاستعادة الخلافة عندهم هي المدخل للتمكين لتلك الحاكمية التي يرومونها لجعل المجتمع كلّه مصبوغاً بفكرة الألوهية المطلقة الحاكمة، وهو أمر خطير ليس على مستوى التطبيق فحسب؛ بل على مستوى الفكر والتنظير كذلك؛ إذ إنّ فكرة الحاكمية تصبّ في صالح الجبر وتجميد الحياتيْن السياسية والاجتماعية، والطاعة العمياء للحاكم، الذي يصبح، حال تطبيقها، في صورة ظلّ الإله الذي في السموات، فتسود، باسمها، الاستكانة وينتج الاستبداد والظلم؛ فهي تنفي التعددية السياسية والفكرية، يقول سيد قطب: “إنّ هناك حزباً واحداً لله لا يتعدّد، وأحزاباً أخرى كلّها للشيطان وللطاغوت”.
إنّ حاكمية نظام الخلافة الإسلامية لم تكن موجودة في أيّة فترة من فترات تلك الخلافة، حتى أنّ مرحلة الخلافة الراشدة لم تعرف ذلك الشكل الذي صاغه المودودي، ومن بعده سيد قطب، لوصم المجتمع بالجاهلية والكفران، وليس ثمة نصوصٌ صريحة مقبولة، سنداً ومتناً، تؤيدها كذلك، وهو ما كشفه علي عبد الرازق، في كتابه “الإسلام وأصول الحكم”، فحورب من أجل ذلك أيّما محاربة، ووقف كثير من المشايخ في وجهه يناصبونه العداء، وما ذلك إلّا لأنّ قراءتهم للآيات القرآنية قراءة مصلحية، منزوعة من سياقاتها الزمكانية، وفوق كلّ ذلك مختَزلة متشدّدة.
نقلاً عن حفريات