تغطية للانسحاب الأمريكي؟ أم إدراك لصفرية معادلة الصراع؟ أم سعي لمجابهة النفوذين الإيراني والروسي؟ أم تكتيك في مواجهة داعش؟ ثم هل هي رغبة في تحقيق السلام من المضيف القطري؟ أم احتضان تقليدي لجماعات الإسلام السياسي؟ أم امتثال لرغبة أمريكية؟ أم مناورة لإثبات الوجود في مواجهة مقاطعة خليجية؟ كلها أسئلة تبدو منطقية في محاولة فهم جولة المحادثات التي انطلقت في قطر بين حركة طالبان الأفغانية والولايات المتحدة الأمريكية، وهي جولة لا تعد الأولى من نوعها.
ففي العاصمة القطرية الدوحة، التقى مؤخرًا أصدقاء قبل عقود، ثم صاروا خصومًا قبل سنوات، ثم متفاوضين اليوم. وهنا، فالأبطال الأكثر حضورًا في هذا المشهد هم من الجانب الأمريكي الدبلوماسي، رجل السياسة، زلماي خليل زاد، الذي عمل سفيرًا لبلاده في أفغانستان، وكذلك في الأمم المتحدة.
وعلى الجانب الأخر، هناك الملا عبد الغني برادر، أحد المؤسسين الأربعة لحركة طالبان الأفغانية عام 1994، الذي أفرج عنه قبل أعوام بعد اعتقاله في عملية مشتركة بين باكستان ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عام 2010.
المسعى كهدف معلن للجميع -المضيف والأطراف- هو إحلال السلام. وهي محادثات –بتعبيرات متقاربة للطرفين- شهدت تقدمًا بوجود إطار أولي لاتفاق يُلزم واشنطن بسحب قواتها من أفغانستان مقابل التزام من الحركة ألا تسمح للجماعات المسلحة بالنشاط في أراضيها. لكن الوصف المتحفظ للنتائج أخذ في الاعتبار ملفات لا تزال عالقة، أبرزها رفض الحركة خوض مفاوضات مباشرة مع الحكومة الأفغانية التي لطالما وصفتها الأولى بالدمية وواصلت هجماتها الدامية ضدها. عمليًا، ووفق ما هو أبعد من مشهد ودي جمع الطرفين قبل المحادثات، فإن واشنطن ترغب في تحقيق جملة من الأهداف.
بالطبع هناك الرغبة في إنهاء صراع دامٍ استمر لما يقرب من 17 سنة في أفغانستان. وإن كان هذا الحديث قد يحمل منطقًا وله إرث نظري معتبر في أدبيات السياسة المثالية، لكنه في الأغلب لا يحمل الوزن نفسه لدى براجماتية صريحة تعبر عنها إدارة الرئيس ترامب. ناهيك عن أنه تصور مشكوك في واقعيته وقدرته على إحلال السلام في أفغانستان كونه يحصر مقاربة السلام في مشروطية الانسحاب الأمريكي بعدم توفير طالبان لملاذ آمن للجماعات المسلحة وقبول الخوض في مفاوضات مباشرة مع الحكومة الأفغانية! فمن ناحية، فإن تعهد طالبان بعدم احتضان تنظيمات مسلحة في أراضيها لا يعني بالضرورة إحلال السلام في أفغانستان في مشهد داخلي معقد، آخذًا في الاعتبار أن طالبان هي في حد ذاتها حركة مسلحة يتراوح عدد مقاتليها ما بين 20 إلى 40 ألف شخص.
ثم إن قبول طالبان الجلوس على طاولة المفاوضات مع الحكومة الأفغانية -إن قبلت- لا يعني كذلك إحلال السلام في حال عدم وجود إجابات لأسئلة حول علاقة طالبان بمستقبل الحكم في أفغانستان ووضعيتها كفصيل وسلاحها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحركة المسلحة تسيطر على أقل تقدير على 20% من مساحة أفغانستان، إن لم نتبنى معلومات حول سيطرتها على نصف مساحة البلاد تقريبًا. إضافة إلى كل هذا، هناك الشكوك حول قدرة الجيش الأفغاني على التمسك بالمناطق التي يسيطر عليها حال الانسحاب الأمريكي السريع.
وقبل هذا وذاك، ما تحمله الحركة من منطق متطرف يجعل من وجود حكم مستقر في البلاد أمرًا صعبًا. وهو منطق لا يختلف كثيرًا عن منطق تنظيم داعش، الذي يروج البعض لإمكانية استخدام طالبان لمحاصرة نفوذه. فطالبان هي الحركة ذاتها التي وفرت ملاذًا لأسامة بن لادن مؤسس القاعدة قبل الاجتياح الأمريكي لأفغانستان، وطبقت أحكامًا متشددة من إعدامات علنية وقطع الأيدي، وأمرت بإطلاق اللحى وارتداء النقاب وحظرت التلفاز والموسيقى والسينما وتعليم الفتيات الصغار، ومؤخرًا بايعها أيمن الظواهري في عام 2016، ولا تزال تشن أعمالًا إرهابية في أفغانستان، كان أبرزها الشهر الماضي حين لقي أكثر من 100 مصرعهم عندما هاجمت الحركة مجمعًا عسكريًا في إقليم ميدان وردك وسط البلاد.
إذًا نحن أمام مجموعة من الأهداف الأمريكية تتخطى حديث السلام المنمق، من بينها إكمال عناصر إستراتيجيتها الانسحابية من الشرق الأوسط. فالرئيس الأمريكي، وبخلاف حديثه السابق عن الانسحاب من سوريا، كان قد وجه عمليًا البنتاجون بسحب ما يقرب من نصف القوات الأمريكية في أفغانستان البالغ عددها 14 ألف عنصر، وحذره مستشاروه من تداعيات هذه الخطوة كونها قد تضع أفغانستان في حالة فوضي مطلقة. وأعقب هذا التوجيه استقالة وزير دفاعه السابق جيمس ماتيس في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ناهيك عن القلق الأمريكي من توسع النفوذين الإيراني والروسي في أفغانستان عبر بوابة طالبان، والرغبة في احتواء الحركة قبل احتوائها إيرانيًا أو روسيًا. فإيران من ناحيتها لطالما سعت إلى توسيع دوائر نفوذها في أفغانستان، وحاليًا تبحث عن امتلاك المزيد من “البطاقات” للضغط على الولايات المتحدة بعد انسحاب الأخيرة من الاتفاق النووي، وسعيها إلى محاصرة تصدير النفط الإيراني وعوائده. وكان الإعلان الإيراني عن أن ممثلين لطالبان قد أجروا مفاوضات في طهران في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي لدفع محادثات سلام مدعاة لقلق إدارة ترامب.
وبالمثل، كانت روسيا -التي تسعى إلى توسيع نطاق تأثيرها في الشرق الأوسط- قد اتهمتها واشنطن بتهريب الأسلحة إلى طالبان عبر طاجكستان، وكانت قد دعت في سبتمبر/أيلول الماضي الحركة للمشاركة في مفاوضات سلام حول أفغانستان، وهو ما فُسر بالتطور المقلق للولايات المتحدة في العلاقات بين موسكو وطالبان.
أما عن طالبان فهي بالتأكيد تريد مزيدًا من الاعتراف بمشروعيتها، وإزالة صبغة الإرهاب التي وصمتها منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وأن تحظى بشرعية سياسية دولية تعضد نفوذها العسكري والجغرافي القائم على الداخل في مواجهة الحكومة الأفغانية، خصوصًا بعد أن صارت الحركة محل اهتمام قوى تتصارع على خطب ودها، مثلما تتصارع على النفوذ بحرب الوكالة في المنطقة ما بين إيران وروسيا وقطر.
أما عن الأخيرة، قطر، وبشكل خاص، وبخلاف ما يبدو جنوحًا أيديولوجيًا عامًا نحو الإسلام السياسي، فهي التي لطالما سعت إلى البحث عن النفوذ بسياسات براجماتية بحتة بالدعم السياسي والمالي والمعنوي لحركات الإسلام السياسي، بما يمكنها من امتلاك أدوات تأثير في المعادلات السياسية الداخلية في بلدان المنطقة. وحينما يتعلق الأمر بطالبان، فمعروف أن الحركة تملك مكتبًا رسميًا في الدوحة منذ 6 سنوات تقريبًا، وهو المكتب الذي أثار افتتاحه غضب الرئيس الأفغاني حامد كرزاي وقتها، الذي توعد بفضح دول تتدخل في المشروع الأفغاني حماية لمصالحها. ثم هناك الرغبة القطرية في رسم صورة دولية Brand كوسيط سلام، مثلما فعلت الدوحة في أزمة إقليم دارفور السوداني، وبين حركتي فتح وحماس الفلسطينيتين من قبل.
وبعيدًا عن جدوى غير ملموسة أو متوقعة لفعالية الوساطات السابقة أو القادمة، أو دور لوسيط قطري مشكوك في نزاهته بانحيازه المسبق لصالح أحد الأطراف، لكن الأمر هذه المرة قد يبدو أكثر أهمية بالنسبة للدوحة في تعزيز وزنها السياسي لدي واشنطن، بعد مقاطعة خليجية مفروضة ضدها منذ ما يقرب السنتين. وهو ما يبدو متسقًا مع تصريحات للمدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الجنرال ديفد بترايوس قبل سنتين أيضًا لمجلة “لو جورنال دو ديمانش” الفرنسية –تبنتها قناة الجزيرة وقتها- أشار فيها إلى ضرورة أن يتذكر شركاء الولايات المتحدة أن استضافة قطر لحركتي المقاومة الإسلامية (حماس) وطالبان الأفغانية كانت بطلب أمريكي.
وهي تصريحات تجد ما يؤكدها فيما قاله مطلق القحطاني، المبعوث الخاص لوزير الخارجية القطري لمكافحة الإرهاب والوساطة في توقيت متقارب عن أن استضافة قطر لطالبان على أراضيها كانت “بطلب من الحكومة الأمريكية”.
في النهاية، إن كانت واشنطن تحمل لغد الشرق الأوسط نوايا انعزالية، فهي لا تزال حاضرة اليوم في المنطقة. وإلى حين إيجاد صيغة تغطي هذا الانسحاب بما يحول دون تهديد المصالح الأمريكية وتوسيع نفوذ الخصوم، يأتي الاحتياج إلى دور قطري تحظى قطر مقابله بتعزيز حمايتها ومكانتها كحليف أمريكي وملاذ لفصائل قد تحتاجها واشنطن لحماية مصالحها. القاعدة روسيا تعز إيران