كريتر نت – متابعات
انقسم المشهد الأيديولوجي الجهادي خلال السنوات الأخيرة بين نموذجي الجهاد والحكم المتنافسين لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. وتفضل القاعدة عامة اتباع نهج يكون تدريجيا نسبيا، حيث تسعى إلى الإطاحة بالأنظمة القائمة من خلال استهداف ما تعتبره المجموعة الداعم الرئيسي لها (الولايات المتحدة) لإنشاء دولة دينية فوق وطنية في النهاية. لكن تنظيم الدولة الإسلامية يسعى إلى إنشاء دولة من الدول القائمة، ثم تحدي النظام القائم بعد ذلك.
ولوحظت هذه الرؤى المختلفة خلال إنشاء تنظيم الدولة الإسلامية والانهيار اللاحق للخلافة التي أعلنها، مما أظهر لمؤيديه أن نهج الجماعة الأكثر عدوانية كان ممكنا، وأكد لمنتقديه أفضلية النهج الأكثر تدرجا الذي يعتمده تنظيم القاعدة. كما خلّف مزيج الضغوط الدولية المستمرة لمكافحة الإرهاب عواقب أخرى في العالم الحقيقي، مما عزز التقاتل والخلاف بين الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة والدولة الإسلامية في مالي ونيجيريا وسوريا ودول أخرى.
ويتواصل هذا الخلاف في سياق الافتقار إلى بدائل أيديولوجية واضحة للنزعة الإسلامية، وخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تعدّ الأيديولوجيا الإسلامية (المرتبطة بالشريعة) الشكل البديل الأكثر شعبية للحكومة. ويثير اعتراف تنظيم الدولة الإسلامية بوفاة زعيمه أبي حسين القرشي على أيدي جهاديين سوريين منافسين تساؤلات حول مستقبل الجهادية وسط تجدد المنافسة بين القوى العظمى والتعددية القطبية.
◙ الخلاف يتواصل في سياق الافتقار إلى بدائل أيديولوجية واضحة للنزعة الإسلامية حيث تعد الأيديولوجيا الشكل البديل الأكثر شعبية للحكومة
ويشير تقرير لمركز ستراتفور للدراسات الأمنية والإستراتيجية إلى أن الضغوط المتزايدة لمكافحة الإرهاب أجبرت الجماعات الجهادية على التركيز على البقاء والحفاظ على نفوذها المحلي والإقليمي. وقد رفع ذلك أولويات الجماعات في أفغانستان واليمن ومنطقة الساحل الأفريقي المرتبطة بالصراعات المحلّية دون الوطنية، بدلا من محاربة الجهاد العالمي، مع الحفاظ على الولاء لتنظيم الدولة الإسلامية أو تنظيم القاعدة لتحقيق أهداف مختلفة.
وتعمل الجماعات التابعة للتنظيمات الجهادية العالمية على تحقيق التوازن. وتستغل انعدام الأمن المحلي وعدم الاستقرار السياسي لتركيز هجماتها على قوات الأمن المحلية والجماعات المسلحة المتنافسة والأهداف الغربية التي تتاح لها فرصة دخول مناطق عملياتها. ويهدف هذا الجهد جزئيا إلى تجنب الضغوط الأميركية لمكافحة الإرهاب، ولكن تنفيذ مثل هذه الهجمات أسهل بكثير من مهاجمة الغرب الأكثر أمانا. لكن هذه الجماعات تحافظ على الولاء للمنظمات الجهادية العالمية، وتصرّح برغبتها في مهاجمة الغرب.
وليست هذه الجهود الإقليمية جديدة، لكنها تسارعت خلال السنوات الأخيرة بسبب الخسائر التي تكبدتها القيادات الأساسية لتنظيمي الدولة الإسلامية والقاعدة، والتدهور الكبير في قدرة الجماعتين على شن هجمات في الغرب. وفي حين وسّعت الهجمات الجهادية المتكررة نطاق انعدام الأمن في جميع أنحاء المنطقة الأفريقية، سعت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وتنظيم الدولة الإسلامية في الساحل وجماعات أخرى لبناء قدراتها على شن هجمات خارج المنطقة، للتوافق مع أولويات الهجوم الأكثر إلحاحا ومواجهة التحديات التي تعرقل الجماعتين.
ومع تواصل ارتفاع تركيز الجماعات الجهادية الإقليمي أو المحلي، قد يخلق صعود التعددية القطبية في النهاية فرصا للجهاديين على المدى الطويل إذا هيمنت رؤية موحدة لتنظيم الدولة الإسلامية أو تنظيم القاعدة، و/أو إذا تحوّل تركيز الولايات المتحدة وأجهزة المخابرات والجيوش الرئيسية الأخرى إلى منافسة القوى العظمى على حساب مكافحة الإرهاب، بما يفاقم الفراغ الأمني في دول مثل سوريا واليمن وأفغانستان. ويشكل النزاع الجهادي الداخلي الحالي بين القاعدة وداعش عائقا أمام نمو الحركة الجهادية العالمية، حيث لا يهيمن أيّ منهما على الآخر ويحاول كلاهما جذب المجندين من نفس الفئات.
ويُبرز مقتل زعيم تنظيم داعش فعالية جهود مكافحة الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة في إضعاف تنظيم الدولة الإسلامية إلى درجة تشكل فيها الجماعات المتمردة الأخرى تهديدا كبيرا لقيادته. وقد يعني تركيز الولايات المتحدة والحلفاء الغربيين الآخرين المتزايد على منافستهم مع خصوم مثل الصين وروسيا في بيئة متعددة الأقطاب تراجع قدرات مكافحة الغرب للإرهاب على المدى الطويل. كما قد يستمر التركيز المتزايد على المنافسة في إعاقة تبادل المعلومات الاستخبارية، خاصة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، حتى في قضايا مكافحة الإرهاب.
وعلى الرغم من كل ضغوط مكافحة الإرهاب ضدهما، تمكن تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية من النجاة من عمليات قطع رؤوس القيادة المتكررة وأظهرا قدرة على استغلال الفراغ الأمني. وإذا كرست الجيوش المزيد من مشترياتها لأنظمة مصممة لصراعات الدول القومية (وهو اتجاه تشهده أوروبا منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022) ستكون القوات المسلحة أقل استعدادا لمكافحة الإرهاب.
وتبقى سوريا من الأماكن التي تشهد صراعا مستمرا بين مكافحة الإرهاب والتنافس بين القوى العظمى. ويجب على الولايات المتحدة تخصيص موارد حماية إضافية وذات قوة لمواجهة التهديدات الإيرانية والروسية المتزايدة في الدولة التي مزقتها الحرب، حيث تحاول واشنطن أيضا الحفاظ على مهمتها في مواجهة تنظيم داعش.
وفي منطقة الساحل، تلعب ديناميكية مماثلة دورها في زحف قوات فاغنر الروسية في مالي، بما أدى إلى تعقيد الجهود الغربية لمكافحة الإرهاب (وتقويضها في بعض الحالات) ضد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وغيرها من الجماعات الجهادية في البلاد. كما زادت انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها مجموعة فاغنر أثناء عمليات مكافحة التمرد في زيادة تجنيد الجهاديين في مالي، مما عزز النشاط الجهادي.
◙ في منطقة الساحل تلعب ديناميكية في زحف قوات فاغنر في مالي بما أدى إلى تعقيد الجهود الغربية لمكافحة الإرهاب ضد جماعة نصرة الإسلام
ومع تعدد أقطاب العالم على نحو متزايد، فمن المرجح أن يركز الجهاديون المزيد من اهتمامهم على القوى المتوسطة لتجنب إثارة الاهتمام الدولي. وقد تمثل إسرائيل العدو المستقبلي الأكثر طبيعية للجماعات الجهادية نظرا إلى مكانة القضية الفلسطينية. ويمكن لدول أخرى مثل السعودية أو إيران أو تركيا (التي تواجه بالفعل تهديدات جهادية) أن تشهد المزيد من الهجمات حيث يحاول القاعدة وداعش انتزاع عباءة قيادة الجهاد العالمي، لكن لجميعها القدرة على تحويل الجماعات الجهادية إلى وكلاء، وهو ما قاومه الجهاديون أنفسهم نظرا لعدائهم للدولة القومية.
لكن التعددية القطبية تمثل تحديات أمام الجهاديين أيضا، حيث يمكن أن يضعف وجود المزيد من الأهداف رسالة الجماعة وتركيزها العملياتي، مما يقوض رؤية الحركة الجهادية العالمية الإستراتيجية. ففي أفغانستان، على سبيل المثال، اعتمد تنظيم الدولة الإسلامية بولاية خراسان دعاية إساءة معاملة الصين للمسلمين الإيغور ورد طالبان الظاهري تجاه الصين لتبرير الهجمات المسلحة.
وفي نفس الوقت، كانت روسيا عدوا تاريخيا للجماعات الجهادية، حيث توجه المتطوعون الجهاديون في الكثير من الأحيان إلى جمهورية الشيشان الروسية الانفصالية خلال التسعينات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وأثارت الجهود الأخيرة التي تبذلها موسكو لدعم نظام بشار الأسد في سوريا ومشاركة المرتزقة الروس في عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا المزيد من غضب الجماعات الجهادية. لكنها لم تتمكن من تحويل معاركها المحلية ضد النفوذ الروسي إلى معركة عالمية أوسع ضد روسيا أو إلى حملة متواصلة من الهجمات على الأراضي الروسية، مما يشير إلى أن التركيز على روسيا قد يكون إلهاءً عن تحقيق الوحدة الجهادية.
ويحذر مركز ستراتفور من أنه بينما تتنقل الجماعات الجهادية في عالم جديد متعدد الأقطاب حيث من غير المرجح أن تمنح القوى العظمى الأولوية لمكافحة الإرهاب، ستتاح للجماعات الجهادية فرصة لإعادة بناء قدراتها دون تدخل كبير. لكن الاغتنام الكامل لهذه الفرصة سيتطلب تغلب الجماعات الجهادية على انقساماتها الداخلية وتطوير رؤية إستراتيجية جديدة في بيئة لم تعد فيها في مواجهة عدو رئيسي واحد فقط، بل عدة أعداء.