أدونيس غزالة
كاتبة سورية
بات من الواضح أنّ جميع الحلول التي ينتهجها العالم في حلّ مشكلاته صارت مشكلات بحدّ ذاتها، من غير أن تكفّ مع ذلك في أن تكون حلولاً. يشير “إدغار موران” في كتابه “هل نسير إلى الهاوية؟”، من خلال توصيفه الدقيق، إلى المأزق المتفاقم في المجتمعات الإنسانيّة، فالذكاء الفائق الذي يميّز حضارتنا البشرية، ليس كافياً ليجنّبها تبعات الذكاء نفسها، طالما نستخدمه في المكان الخاطئ، فنحن موشكون على حرب نووية، لن يتبقى من يتساءل بعدها من كان البادئ في إشعالها؟ إنه الذكاء المجرّد من القواعد الأخلاقيّة، سيكون سبباً منطقيّاً ونتيجةً حتميّة لفناءٍ كوكبي.
وبهذا لا يمكن أن نفهم الحرب الروسيّة على أوكرانيا، إلّا كامتدادٍ لكل الحروب التي سبقتها، بمعنى أنها سيرورةٌ طبيعيّة لدورة العنفّ التي أنتجها السلوك البشري عبر تاريخه، والذي ننتهجه كمنطلق أساسيّ في حلّ النزاعات التي نثيرها بيننا.
تكمن خطورة العنف الذي يهدد العالم في القدرة التدميريّة الهائلة لترسانات الأسلحة المعممّة، والتي تتخذ شتى الذرائع لتبرير إنتاجها ثم امتلاكها ثم استخدامها، فالأرقام الفلكيّة لحجم الإنفاق العالمي عليها، هي دليل حسّي على أنّ كميّة العنف المضمرة في هذه الأسلحة، هي إحدى الطرق المهمّة في حسم النزاعات لا في حلّها، وإثبات الذات الوطنيّة أو القوميّة المتفوقة عبر تواجدها المهيمن على مسرح العالم، ولكن هل نحتاج حقاً لكل هذه الأسلحة لنثبت ذلك؟ مع الأسف الواقع يجيب بنعم. وإنّ دلّ هذا فإنه يدلّ على أنّ العنف سواء كان مباشراً أو غير مباشرٍ، هو الطريق الوحيد المفضي إلى الوجود، في عالمٍ لم نستطع رؤيته أكثر من غابةٍ تحكمنا شريعتها. فماهيّة العنف هي المحصلة النهائية لقلق الوجود، فرغم دقتنا في تحديده وتوصيف أنواعه وسبله، مازلنا نتجاهل البنية العميقة المشكّلة للعنف.
البنية العميقة للعنف لا تتوفر في السلوك العنفي الموجّه ضد الغير أكان فرداً أم جماعة، وإنما تتوفر في مستويين قبليين، يرفدان سفوره وظهوره العاري، فالعنف المباشر حسب العالم الاجتماعي “يوهان غالتونغ” ليس سوى المستوى الظاهر من العنف الثقافي والعنف البنيوي، وبما أنّ السرديات المتحكّمة في مجرى التاريخ تتغذى عليهما، فإنّ الرغبة العالميّة في تجفيف منابعهما، تناقضت دائماً مع المصالح الخاصّة التي تدعمهما وتعززهما، وهذا التناقض الذي أسس لتفاصل المجتمعات العالمية، دعمته خفية كل إيديولوجيا ممكنة، وفي كل مرّة كانت تشد بساط العالم نحوها، لهذا فإنّ معادلات العنف بالرغم من كونها معادلات بسيطة لا مجاهيل فيها، ومع هذا فإنّ الجميع يتجاهل حقيقتها، أو يتلافى عمداً طبقاتها العميقة.
فالعنف الثقافي هو الصورة المؤسسة للتفاصل الإنساني، إذ يقوم على استثمار التحيّز القومي أو العرقي أو الديني، أو استثمار اللامساواة، عبر تهميش الآخر وتنميطه، إنّ انعدام التطلّع الإنساني إلى المصير المشترك، أو التطلّع فقط إلى الربح المادّي، دون النظر إلى الخسارة الروحيّة المترتبة عليه، لن يجرّد الأفراد من فاعليتهم العميقة ككائنات توجد بالحب والاهتمام، وإنما سيحرمهم كذلك من حريّة التعيّن في الاختيار الحرّ والمسؤول، ممّا يؤسس لمنطق مقلوب يقوم على القسر وليّ عنق الحياة، أو على انعدام قدرة الفرد التعيّن في إنسانيته، بمعنى حرمانه النهائي من المقدرة على السعادة والوجود.
فشهيّة الذكور في مجتمعاتنا المغلّفة بالتصورات القبلية، التي أثارتها نساء أوكرانيا الهاربات من الحرب، والتي تم التعبير عنها من خلال التهكم الذكوري والنكات الجنسسية، لا تختلف عن تصريحات مراسل صحيفة “سي بي أس نيوز” الأمريكية الذي قال: هذه ليست العراق ولا أفغانستان، هذا بلد متحضر ودولة أوروبية، ولا يصح أن يحدث فيها ما نراه، أو تصريحات رئيس الوزراء البلغاري بخصوص اللاجئين الأوكرانيين “ليسوا من اللاجئين الذين اعتادت عليهم أوروبا، هؤلاء أناس أذكياء ومتعلمون…”، أو تصريح قناة “بي إف إم تي في” الفرنسية “لا نتحدث عن سوريين هاربين من القصف، إنهم أوربيون مثلنا، يهربون بسياراتهم التي تشبه سياراتنا”.
الحروب لا تبدأ باستنفار الجيوش وإطلاق النيران، إنمّا تبدأ من هذا العنف الثقافي والبنيوي، فإن اختلفت صوره جغرافياً، لم تختلف طبيعته تاريخياً، فتجاوزه على ما يبدو خطوة لا يريد الكثيرون خطوها، حيث يتراكب العنف الثقافي مع العنف البنيوي القائم على حرمان الأفراد أو المجتمعات من حقوقها، عبر التفاوت الطبقي والمعيشي والخدمي، ممّا يولّد شعوراً مباشراً باللامساواة، يسمح للنزاع أن يتشكّل عبر مظلوميّة مستمرّة تؤجج عقد النقص والتفوّق. فحتى الألم الإنساني طاله عدم المساواة، وكأنّ الألم الإنساني ألمان.
لم تُجدِ المحاولات الحثيثة لمراكز القرار الأممية في تجفيف العنف، ذلك لأنّ هذه المحاولات تتناقض مع بنيتها نفسها، بالتالي إنّ الذهاب إلى الحلول السطحيّة عبر تعديل موازين القوى كان خيارها الوحيد، فالرغبة بسلامٍ عالمي ومستقبل لا يذهب إلى الهاوية تقتضي، حسب “موران”، إصلاحات أربع: إصلاح طرق التربية التي يجب أنّ تتم على مستوى إنساني عميق، كي تساعد على تطوير الوعي لا نكوصه، وإصلاح التنظيم الاجتماعي (المساواة)، وإصلاح الحياة من خلال تحطيم تصور مركزيّة الإنسان في كونٍ يدور حوله، ثم الإصلاح الأخلاقي بمعناه الحقيقي الذي يجعلنا ننظر بجديّة إلى مصائرنا المشتركة. إنّ هذه السبل الأربعة كما يقدّمها موران، هي من تفتح أبصارنا أمام فكرة أنّ التقدّم الحقيقي يجب أن يكون مصحوباً بإمكانيّة حدوث التحوّل.
بالمحصّلة إنّ النظرة التحيّزية واللامساواتية ليست نتيجة العنف؛ بل هي المقدمة الثقافيّة والبنيوية له، ولكنّ هذه النظرة بما تجرّه على العالم من انقسامٍ وتشظي يوفران تربةً خصبة لنمو العنف، قد تحمل كذلك فرصة ملائمة للقيام بتحوّل إنسانيّ، إذا ما فهمنا التحوّل كعمليتي هدمٍ وبناءٍ متلازمتين، فالتحوّل بتعبير “موران” يعني استمراراً بالهويّة وتحولاً بالجوهر معاً، فالدودة أثناء تحولها لفراشة، فإنها تهدم جسد الدودة داخل الشرنقة، لتتيح لجسد الفراشة أن ينبثق، قد تفيد هذه الاستعارة في التفكير جدياً أنّ حضارة الدودة التي نعيشها لا مستقبل لها، إلّا إذا تحولت إلى حضارة الفراشة.
نقلاً عن حفريات